القرين
٥ مايو سنة … لم أرَ قط أعجب ممَّا رأيت اليوم، ولن أمضي في تسجيل الأحداث السياسية والإدارية والأعمال اليومية الخاصة التي تعوَّدتُ أن أسجلها في هذا الدفتر قبل أن أقص هذا الحادث الغريب الذي شهدته، أو الذي حدث لي في مكتبي صباح اليوم.
لم أكن نائمًا، وما أعرف أن الوزراء تعوَّدوا النوم في مكاتبهم، وما أعرف أني تلقيت النوم أو أن النوم تلقاني إلا حين آوي إلى مضجعي بعد أن ينتصف الليل. وقد أشهد مجلس الوزراء متعبًا مكدودًا، وأضيق بما يقال فيه أحيانًا من أحاديث لا تُغني، وبما يعرض فيه من شئون لا تعني وزارتي ولا تعني السياسة العامة، فأرسل نفسي في ألوان من التفكير ليس بينها وبين مجلس الوزراء صلة. وقد أكون متعبًا فلا أستطيع التفكير وإنما أظل حاضرًا كالغائب وغائبًا كالحاضر، أسمع وأرى ولا ألقي إلى شيء ممَّا أسمع وأرى بالًا، وأنا على هذا كله يقِظ أشد اليقظة متنبِّه أشد التنبُّه أرى بعض الزملاء وقد أخذ رأسه يخفق من النعاس، وأسمع بعض الزملاء وقد أخذ يغط لأنه أغرق في نوم عميق، وقد أعبث بهذا وألفت الزملاء في شيء من المكر إلى ذاك … والمهم أني لم أتعلق على نفسي ولم يتعلق عليَّ أحد بنومة في مجلس الوزراء.
وأنا أشهد مجلس النواب ومجلس الشيوخ وقد أضناني الجهد وكاد يهلكني الإعياء، وأسمع مناقشات مملة وخطبًا ليست أقل منها إملالًا، وأكره مع ذلك أن أترك مكاني من المجلس لأرفِّه على نفسي بما يرفِّه البرلمانيون به على أنفسهم في المقصف أو في بعض الغرفات والحجرات من التدخين وشرب القهوة وحديث الدعابة والجد … ولكني لا أذكر أني احتجت يومًا أو ليلة إلى أن أدافع النوم عن نفسي حين تمل المناقشات وحين يصير الخطباء إلى إملال لا يطاق.
وما أعرف أني أذعنت للنوم قَطُّ في قاعة من قاعات المحاضرات على كثرة ما يُذعن المستمعون للنوم في قاعات المحاضرات. وإذا كنت لا أذعن للنوم في أشد الأماكن دعاءً للنوم فأحرى ألا يعرض لي النوم في مكتبي بوزارة … حيث يشغلني الأمر والنهي وتصريف الأعمال واستقبال من أحب ومن أبغض من الزائرين عن الراحة فضلًا عن النوم الخفيف أو الثقيل.
لم أكن نائمًا إذن في مكتبي صباح اليوم، ولم يكُن ما رأيته شيئًا ممَّا يرى الحالمون، وإنما رأيت ما يراه الأيقاظ لا يعرض لي في ذلك شك ولا ريب، ولكن الشيء الغريب هو أني رأيت وحدي وسمعت وحدي على كثرة من أثقل عليَّ في غرفتي من الموظَّفين، وعلى كثرة من أثقل عليَّ فيها من الزائرين. وكانت طبيعة الأشياء تقتضي أن يرى الناس ما أرى، وأن يسمع الناس ما أسمع، ولكني دهشت حين تبيَّنت أن أحدًا من الناس لم يكن يرى ذلك الشخص الذي كان جالسًا أمامي، ولم يكن يسمع ما كان يلقى إليَّ من الحديث بين حين وحين. ولولا أنِّي أشفقت أن يسوء بي ظن الموظفين أو ظن الزائرين لسألتُهم عن هذا الشخص من يكون، وسألتهم عن رأيهم في بعض ما كان يقول. ولكني أمسكت عن ذلك متحاملًا على نفسي متكلِّفًا، أدافع خاطرًا بشعًا جعل يخطر لي ويلح عليَّ، فقد أخذت أسيء الظن بنفسي وأفكر في استشارة الطبيب. ويحسن أن أستأنف هذه القصة من أولها، فما أشك في أنها شيء له ما بعده، وفي أن سيكون لها شأن فيما سأستقبل من الحياة. فليس متاحًا لكل الناس أن يَرَوْا مثل ما رأيت، أو أن يسمعوا مثل ما سمعت، أو أن يُشغَلوا بمثل ما أُشغل به الآن.
لم أكد أبلغ مكتبي في الوزارة حين ارتفع الضحى، وآخذ في شرب القهوة وتدخين السيجارة خاليًا إليهما كما تعودت أن أفعل من ضحى كل يوم قبل أن آذن للموظفين، أو قبل أن يأذن الموظفون لأنفسهم في الدخول عليَّ والتحدث إليَّ في مختلِف الأعمال، حتى رأيت باب غرفتي يُفتح على مصراعيه ويدخل عليَّ منه وكيل الوزارة مرحِّبًا باسمًا باسطًا إليَّ يده كما تعوَّد أن يفعل في كل يوم، فلم أنكر ممَّا رأيت شيئًا، إلا أن الوكيل تعجل مقدمه في هذا اليوم، ولم يتح لي أن أستمتع بهذه الخلوة التي كنت أحب أن أخلوها إلى نفسي كل يوم قبل أن آخذ في العمل، وقد تكلفت ألا أُظهر شيئًا من الإنكار، ولكني لست أدري ألاحَظَ في وجهي ما لم أستطع أن أخفيه، أم رأى أمامي قدح القهوة لم يكد يبلغ نصفه فاعتذر من أنه سعى إليَّ مبكرًا، ثم أخذ مجلسه وبدأ في الحديث.
وكنت أظن بالطبع أنه سيتحدث إليَّ في شئون الوزارة، أو في الشئون السياسية العامة، أو فيما يتحدث فيه الممتازون من الناس حين يلقى بعضهم بعضًا من أحاديث الأندية والبيئات العليا … ولكنه لم يتحدث إليَّ في شيء من ذلك، وإنما أخذ يذكِّرني بأيام الشباب ويحيي ذكريات كنت قد أُنسيتها أو تكلفت نسيانها، وكنت على كل حال قد احتفظت بها لنفسي، وخبأتها في أعماق ضميري، لم أُظهِر عليها أحدًا، ولم أسمح قط بأن يظهر عليها أحد. بعضها يسرُّني ويغرُّني ويثير في نفسي شيئًا من العُجب والتيه، وبعضها يؤذيني ويخزيني ويثير في نفسي كثيرًا من الخجل وكثيرًا من الحزن وشيئًا من الندم أشد وقعًا في النفس من الخجل والحزن. وكل إنسان ذي خطر يحتفظ في نفسه بألوان من هذه الذكريات الخاصة التي يتَّخذها مادة لما يخلو إليه بين حين وحين من النعيم والجحيم، يتخذها مادة لهذا الغذاء الروحي الذي يتيح للرجل المثقف أن يعيش وأن يشعر بأنه ليس كغيره من الناس، وبأنه قد أحرز في أعماق ضميره كنزًا من الذكريات فيه الجوهر الكريم وفيه الزجاج الخسيس، فيه ما يسر وفيه ما يسوء.
وقد أخذ وكيل الوزارة يتخير من هذه الذكريات ما يَسُرُّ ويرضي، فهو يحدثني ببعض المواقف التي وقفتها من بعض العظماء وأصحاب السلطان أيام الشباب، حين كان الأتراب يتهالكون على رضا القادة والسادة ويطمحون إلى الحظوة عندهم، وحين كنت أنا أمتنع على هؤلاء السادة والقادة سرًّا حينًا وجهرةً حينًا آخر. وقد هممت أن أسأل محدِّثي كيف ظهر على هذه المخبآت، وما باله يتحدث إليَّ فيها ويدخل فيما لم أُبِح قط لأحد أن يدخل فيه؟ ولكنه سبقني إلى ما كنت أريد، فقال في لهجة ساخرة ضِقْتُ بها أشد الضيق ولكني احتملتها متكلفًا: ثِقْ بأن شيئًا من أمرك لا يخفى عليَّ، وبأني أعرف من أسرار حياتك ودقائقها مثل ما تعرف، ولعلي أذكر أشياء قد نسيتها أنت، وأستطيع الآن أن أعيد عليك من الطفولة والصِّبا ما لا تقضي منه العجب. وسيتاح لنا من الوقت ما يمكِّننا من وصل هذا الحديث، وإنما أريد أن أنبهك إلى أن من وقف مواقفك الرائعة مع فلان وفلان بشأن كذا وكذا من الأحداث لا ينبغي أن يتورَّط في مثل ما تتورط فيه الآن من السيئات.
وهممت أن أقطع عليه الحديث، فقد ملأني الغضب، ولكنه دفع ضحكة ملأت الحجرة من حولي وقال: لا تغضب، فلن يغني الغضب عنك شيئًا، فلست أنا وكيل الوزارة، وإنما جئت أحذرك من إمضاء ما سيعرضه عليك وكيل الوزارة بعد دقائق، فإنه سيحملك على أن تأتي من الظلم والإثم ما لا يليق بالوزير الكريم.
قلت: لستَ وكيل الوزارة! ومن تكون إذن؟ قال: لستُ وكيل الوزارة، وإنما أنا قرينك الذي دخل الحياة معك يوم دخلتها، وسيخرج من الحياة معك يوم تخرج منها.
فأما وكيل الوزارة فستراه مُقبِلًا عليك بإثمه بعد لحظات قصار. وقد كنت أكتفي إلى الآن بالإيحاء إلى ضميرك وتحريك قلبك ونفسك دون أن أظهر لعينيك أو أتحدث إلى أذنيك، فلما رأيت أن الوحي لا يبلغ من نفسك ما أريد، وأن ضميرك يمتنع عليَّ امتناعًا شديدًا ملحًّا، أزمعت أن أظهر لك شخصًا حيًّا كما تراني، وأن أمنعك من المُضِيِّ في هذه المظالم التي تُقحِم نفسك فيها أو تقحمك الحياة فيها عن إرادة منك حينًا وعلى كُرْهٍ منك حينًا آخر.
فاحذر أن تمضي ما سيُعرض عليك، ولئن حاولت إمضاءه لأمنعنك ممَّا تحاول، وانظر الآن فهذا الوكيل مقبلًا.
وانظر فإذا باب الغرفة يُفتح على مصراعيه كما فتح منذ حين، وإذا الوكيل يدخل فرحًا باسمًا باسطًا إليَّ يده كما فعل ذلك الشخص من قبله. وكنت أقدِّر أنه سيرى ذلك الشخص كما أراه ويحييه كما حياني، ولكنه لم يَرَ أحدًا ولم يُحَيِّ أحدًا. وهممت أن ألفته ولكني أسمع في أذني همسًا ليس بالقوي ولا بالخفي، وإنما هو صوت يبلغ النفس ويتغلغل في أعماق الضمير ويقول: أتريد أن يظن بك الجنون؟!
وقد رأى وكيل الوزارة عليَّ شيئًا من اضطراب وتخاذل فسألني عن صحتي مرتاعًا، وهدأته، وهَوَّنت عليه الأمر وأخذت معه في أطراف الحديث حتى إذا هدأ روعي وروعه وهمَّ أن يعرض عليَّ ما كان يحمل إليَّ من أوراق أحسست ضعفًا لم أحس مثله من قبل، وسمعتني أطلب إليه أن يؤجل الأمور الهامة إلى غد؛ لأني لا أجد من نفسي نشاطًا للعمل ولا إقبالًا عليه. وأنا بعدُ مضطر إلى أن ألقى رئيس الوزراء، وقد أعود إلى الوزارة وقد لا أعود، فإذا عدت فليعرض عليَّ ما شاء، وإلا فإلى غَدٍ.
ثم نهض ولم يشُكَّ وكيل الوزارة في أن أمرًا ذا بال يدفعني إلى لقاء الرئيس قبل أن ينتصف النهار. ولم يكن هناك أمر يقتضي لقاء الرئيس، بل لقد نهضت ولست صادق النية ولا واضح العزم على لقاء الرئيس، ولكني خرجت وخرج معي ذلك الشخص الغريب أراه أنا ولا يراه غيري، ماذا أقول؟! لقد أخذ بذراعي وانحدر معي إلى السيارة يتحدث إليَّ، أسمعه أنا ولا يسمعه أحد ممَّن كانوا يحيطون بي، وهو يحمد لي ردي على الوكيل، ويشجعني على زيارة الرئيس، ويعلن إليَّ أني أراه متى ركبت السيارة، ولن أراه عند رئيس الوزراء، ولكنه هو سيراني وسيصاحبني وسيراقبني وسيردني عن كل أمر يرى أنه لا يليق بي أن أمضي فيه.
وأركب السيارة فلا أرى فيها أحدًا غيري، وأصغي من حولي فلا أسمع ذلك الصوت الذي كنت أسمعه منذ حين، وألقى رئيس الوزراء فلا أرى عنده أحدًا، وإنما أتحدث إليه في الأمور العامة والخاصة كما تعودت أن أفعل كلما لقيته، ثم أنصرف عنه وأعود إلى الوزارة فلا أكاد أدخل مكتبي حتى أرى صاحبي قد وقف أمامي وأشرف بقية الصباح على كل ما أذنت به من زيارة. أمضيت أوراقًا لم أجد في إمضائها مشقة، ونظرت في أوراق أخرى وهممت أن أمضيها، ولكني كنت أحس يدًا تمس كتفي فأؤجل الإمضاء إلى غد. ونهضت حين انتصفت الساعة الثانية وإذا هو يصحبني إلى السيارة ثم يهمس في أذني: إلى اللقاء، لن أشق عليك بمنظري ولا بمحضري إلا في ساعات العمل، وسيكون ذلك دأبك ودأبي حتى تسقط الوزارة أو تستقيل أنت منها.
هذا كله وقع صباح اليوم، لست أدري كيف وقع! ولست أعرف له تعليلًا ولا تأويلًا، والغريب أني استشرت طبيبي دون أن أقص عليه من هذه القصة شيئًا، وإنما عرضت عليه نفسي ففحص وامتحن، ثم أنبأني بأن صحتي لم تكن في يوم من الأيام خيرًا مما هي الآن. ولعلي لو أنبأته ببعض ما رأيت وما سمعت لغيرت رأيه في هذه الصحة التي يراها موفورة وأراها مضعضعة منقوصة. ولكني لم أُرِدْ أن يظن الطبيب بي اضطراب الأعصاب، والشيء الذي ليس فيه شك وليس عنه محيص، هو أني سأنتظر حتى إذا رأيت وسمعت من الغد مثل ما رأيت اليوم وسمعت، فسألقى رئيس الوزراء، لا لأنفق معه ساعة في الحديث، ولكن لأرفع إليه استقالةً ليس فيها رجوع.