مدرسة الأزواج
أرادت وزارة الشئون الاجتماعية أن تصلح نظام الحياة في مصر، وكان بين النُّظُم التي ذكرتْها في أحاديثها وإعلاناتها نظام الأسرة؛ لأنها لاحظت كما لاحظ الناس منذ زمن بعيد، وكما سيلاحظون إلى زمن بعيد، أن نظام الأسرة المصرية في حاجة إلى الإصلاح. وقد بحثتُ، وأستطيع أن أبحث دائمًا عن بيئة متحضِّرة ترضى عن نظمها الاجتماعية، وتطمئن إليها، ولا تبتغي لها إصلاحًا؛ فلم أجد، ويظهر أني لن أجد مهما أُمعن في البحث والاستقصاء.
فالسخط على الحياة الحاضرة أصل من أصول الطبيعة الإنسانية، وهو سبيل هذه الطبيعة الإنسانية إلى التطوُّر والرُّقي، كما أن الرضى المطلق سبيلها إلى الجمود والخمود، ثم إلى التدهور والانحطاط؛ فستظل دائمًا في حاجة إلى الإصلاح مهما تكن أمورنا صالحة، وسنسخط دائمًا على نظام الأسرة مهما يكن هذا النظام مصدر لذَّة لنفوسنا وغبطة لقلوبنا، وسعادة تعيننا على احتمال أعباء الحياة. والشر كل الشر أن نسرف في تقدير هذا السخط الطبيعي الذي يدفع إلى العمل، ويسمو بالناس إلى الكمال، ويطمح بهم إلى المثل العليا. الشر كل الشر أن نغلو في تقدير هذا السخط فنحوله إلى يأس مثبِّط للهمم، مفسِد للآراء، صارف عن العمل، باعث على القعود.
فليس نظام الأسرة في مصر بالقياس إلى الحياة المصرية، من الفساد والقبح بحيث يظن المتشائمون، ولكنه نظام يلائم حياتنا، وقد أنتج لنا نتائج رضِينا عنها ورغبنا فيها، وهو كغيره من النظم قابل للتطوُّر، مصدر لشيء من القلق، معرَّض لكثير من الاضطراب؛ فالخير في أن نلاحظه ملاحظة دقيقة، ونلائم بينه وبين ما يُلِمُّ بحياتنا من ألوان التطور، حتى لا يختل التوازن بين أعضاء الأسرة من جهة، وبين الأسرة والبيئة الاجتماعية من جهة.
وكنت أظن حين أُنشِئَت وزارة الشئون الاجتماعية أنها ستكون وزارة ملاحظة ومراقبة وإحصاء وتسجيل؛ تلاحظ حياتنا من جميع أنحائها، وتراقب ما يعرض لها من العوارض، وما يلمُّ بها من التطور، وما يكون لذلك من أثر في الدقيق والجليل من أمرها، ثم تسجِّل هذا كله وتحصيه وتستخلص نتائجه وتعلنها إلى الناس، ليتعلم منهم من يريد العلم، وليصلح منهم من يريد الإصلاح. وتعلنها بنوع خاص إلى الذين إليهم تدبير الأمر في هذه البلاد ليروا فيها آراءهم، وليطلبوا لها بما تقتضيه من أعمال التشريع والتنفيذ.
كنت أظن ذلك، وكنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية ستستقبل حياتها على طريقة ديكارت، قد جرَّدت نفسها من كل علم سابق، ومن كل رأي سابق، وأخذت تدرس شئون مصر في أناة ومهل، كأنها لا تعلم من هذه الشئون شيئًا، وهيَّأت لهذا الدرس وسائله قبل البدء فيه، فأنشأت إدارة الإحصاء وإدارات مختلفة لمراقبة شئوننا الاجتماعية وملاحظتها. وكنت أظن أنها ستُنفق عامًا أو نحو العام في إعداد هذه المصالح والإدارات، وإمدادها بوسائل البحث العلمي الدقيق، وأدوات الملاحظة الصحيحة المنتجة، ثم تأخذ بعد ذلك في الدرس على مهل وفي رويَّة وتثبُّت. وكنت أظن أنها ستحتاج إلى عامين، أو إلى أعوام، قبل أن تظهر لإنشائها نتائجه اليسيرة الأولى، ولكنَّا في مصر نحب العجلة ونكره الأناة، وليس لنا صبر على الرَّوِيَّة والبحث، ولا طاقة لنا بالحياة يومًا أو أيامًا دون أن يقول الناس عَنَّا شيئًا، ودون أن ترى أسماءنا في الصحف والمجلات مقرونة إلى أعمال تُضاف إلينا خطأ أو صوابًا، وتحمل علينا صدقًا أو كذبًا، وليس المهم أن نعمل، وإنما المهم أن يُظَن بنا العمل، وليس المهم أن ننتج أو نصلح، وإنما المهم أن نُتَّهم بالإنتاج والإصلاح. وأنا أستعمل كلمة الاتهام عن عمد.
ومهما يكن من شيء فقد أُنشئت وزارة الشئون الاجتماعية، فكنت أسعد الناس بإنشائها، ثم أخذت وزارة الشئون الاجتماعية في النشاط، فلا أقول إلا أنها رسمت في نفسي وعلى وجهي ابتسامة فيها مرارة شديدة. ومهما ننكر على وزارة الشئون الاجتماعية فنحن مضطرون إلى الاعتراف بأنها قد أعطتنا مادة للكلام، وقد أعطتنا مادة للدعاية أيضًا. ونحن في مصر نحب الكلام، ونحن في مصر نكلف بالدعاية كلفًا شديدًا. فلنشكر وزارة الشئون الاجتماعية فضلها علينا، ولعلها أن تتقاضانا غدًا أو بعد غد شكرًا آخر أقوَم وأجدى من هذا الشكر.
وكان من أول ما أنشأت وزارة الشئون الاجتماعية إدارة الدعاية، وكانت الدعاية نفسها أول ما أقبلت عليه، وكان صديقنا توفيق الحكيم هو قائد هذه الحملة الهائلة التي وُجِّهت في عنف شديد إلى نظمنا الاجتماعية الفاسدة لتدكها دكًّا، ولتقيم لنا مكانها نظمًا اجتماعية صالحة لسنا نعرف ما هي. ولم يرِد القائد أن يكون أقل بلاءً من جنده، ولا أن يكتفي بتدبير الخطط، وتوزيع الجيوش على مناطق الخطر. وإنما كان قائدًا باسلًا مغامرًا، كقادة القَصص القديم؛ يسبق جنده إلى الميدان، ويعرض نفسه للخطر ليكون أسوة حسنة، وقدوة صالحة لأتباعه المستبسلين.
وقد افتتح الحرب بحملة عنيفة على خصمه القديم وصديقه القديم أيضًا؛ ذلك الخصم الذي ينغص يومه، ويؤرِّق ليله، ذلك الصديق الذي تنقطع نفسه حسرات في سبيله، والذي ألهمه ما أنتج من أدبه الجميل، ذلك الخصم وذلك الصديق الذي يسمى المرأة. وكانت غارة القائد المستبسل عنيفة ظريفة، وكانت مضحكة، وكانت مخيِّبة للآمال؛ فلم يقل فيها صديقنا الأديب شيئًا لم يكن قد قيل من قبل، ولكنه أعاد حديثًا زهد فيه الناس، وأعاده في لهجة محنقة من جهة، ومؤذية للذوق من جهة أخرى؛ محنقة لأنها لا تلائم الحق، ومؤذية للذوق — وأريد الذوق الأدبي — لأنها نزلت بالأستاذ إلى أن يتحدث عن أشياء لم نألف الحديث عنها في أدبه الرفيع عن البطاطس والفرن وما يتصل بالبطاطس والفرن. وقد قرأت وضحكت وغضبت، ثم انتهى بي الغضب والضحك إلى هذه الابتسامة المُرَّة التي ترسمها على وجهي وزارة الشئون الاجتماعية دائمًا كلما ذُكِرَتْ. وقلت في نفسي: هذا فَنٌّ جديد من فنون الإعلان، فلن يمضي حديث مدير الدعاية دون أن يثير السخط، ويدعو السيدات والآنسات إلى الرد والجدال، فيكثر القول، وتذكر وزارة الشئون الاجتماعية فيه، وتتحقق الدعاية العنيفة يسيرة سهلة، لم تكلَّف عناء، ولم تحتَجْ إلى نفقة. ولم أخطئ في التقدير؛ فقد هاج السيدات والآنسات، وما أسرع ما يهجن! وكان من حقهن أن يهجن في هذه المرة، وقد أُخِذن على غرة، ولم يقدرن كما قدَّرتُ أن الأمر لا يراد به إيذاؤهن، ولا الغض من قدرهن الرفيع في نفوسنا جميعًا، وفي نفس الأستاذ توفيق الحكيم خاصة، وإنما هو لون من ألوان الدعاية وفن من فنون الإعلان.
هاج السيدات والآنسات، فاتصلت ردودهن في الصحف العربية والفرنسية، وثارت بينهن المناقشات، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ولكن الشكوى لم تلبث أن ارتفعت إلى الوزير، والسؤال لم يلبث أن وجِّه إلى الوزير في مجلس الشيوخ؛ وإذا الوزير ينفي، وإذا الكاتب يبرأ، وإذا الأمور تستقر والحمد لله، بعد عاصفة لم تكن هوجاء ولم تكن فاترة، ولكنها كانت شيئًا بين ذلك، وكانت تثير في نفوس أصحاب الجد والحزم غضبًا وضحكًا في وقت واحد، ولا مصدر لهذا كله إلا الإعلان. فمتى يريحنا الله من الإعلان؟ ومتى تقتصد وزارة الشئون الاجتماعية في الإعلان؟ ومتى يُكلَّف الأستاذ توفيق الحكيم شيئًا غير إدارة الإعلان؟
وكذلك كنت أُجِيلُ في نفسي هذه الأحاديث وأعبث بها مع بعض الأصدقاء، وإذا «الثقافة» تحمل إليَّ ذات يوم فصلًا لصديقنا أحمد أمين، يصور هذه الآراء التي ذكرتها آنفًا تصويرًا دقيقًا. فصديقنا أحمد أمين جادٌّ في هذا الفصل، عابثٌ فيه أيضًا؛ جادٌّ لأنه يريد الإصلاح ويبتغي إليه الوسائل، وعابث لأنه يساير وزارة الشئون الاجتماعية في هذه الطريق الغريبة التي سلكتها، طريق التفكير السريع، والاقتراح السريع، والإعلان السريع، والإقدام السهل والعسير، في غير تحفُّظ ولا احتياط.
يريد صديقنا أحمد أمين مجاراةً لوزارة الشئون الاجتماعية أن تنشأ في مصر مدرسة للزوجات، ولمَ لا ولكل شيء في مصر مدرسة؟ والزوجات شيء، فيجب أن تكون لهن مدرسة. ولمَ لا والدولة تنشئ المدارس في فروع العلم والعمل لتخريج من تحتاج إليهم في مرافق الحياة وحياة الأسرة أهم مرافق الحياة، فما بالنا لا ننشئ مدرسة تُخرج اللاتي يَقُمن على هذه المرافق الخطيرة التي هي أساس الخير والشر في كل ما يمس حياتنا الخاصة والعامة؟ وقد احتاط الأستاذ أحمد أمين في لباقة وظرف وعبث أيضًا، لي ولأمثالي من المناكفين الذين يثيرون الاعتراضات ويخلقون المشكلات؛ فردَّ على الاعتراضات قبل أن تثار، وحل المشكلات قبل أن تخلق، وظن أن فصله هذا سيمضي دون أن أتعقبه، كما تعقبت فصله البديع في فن السرور.
ولكن صديقنا لم يقدِّر أني مصمم على تعقبه دائمًا في هذا اللون من ألوان الحديث الذي يمس شئوننا الاجتماعية ويلتمس لها العلاج السهل اليسير القريب، الذي يكفي أن نفكر فيه ساعة، ونكتب فيه فصلًا، لنظن أننا قد وصلنا به إلى الغاية، وانتهينا به إلى أبعد آماد الإصلاح.
فمدرسة الزوجات هذه فكرة ظريفة، ذكَّرتني لمجرد قراءتها بآثار أدبية رائعة لموليير وجيد وموروا، وغيرهم من الكتَّاب والشعراء. ولعلها شوَّقتني إلى أن أعود إلى قراءة هذه الآثار الأدبية التماسًا للمتعة الفنية، والتماسًا لبعض ما أتحدث به إليكم أيها القراء الأعزاء. ثم هي ذكرتني في الوقت نفسه بكتاب آخر خطير، ألَّفه المسيو ليون بلوم رئيس الوزراء السابق في فرنسا، وزعيم الاشتراكية الفرنسية منذ حين، ألفه في أول هذا القرن وأعاد نشره حين كان رئيسًا للوزارة الفرنسية منذ عامين. وهو كتاب الزواج، وهو كتاب ضخم طويل ممتع، ولكن الحديث عنه لا يلائم هذا الطور من أطوار حياتنا الاجتماعية، ولا يوافق عُرفنا وأخلاقنا. وحسبك أنه أثار وما زال يثير في فرنسا سخطًا عنيفًا. وهذا الكتاب يمكن تقسيمه إلى قسمين: أحدهما تعريف الزواج وتصويره وتصوير الأغراض التي ينبغي أن تُلتمس منه وتطلب إليه، والثاني تصوير الوسائل التي تمكن من تحقيق الزواج على النحو الذي يلائم ما أراد المسيو ليون بلوم من الأغراض.
والقسم الأول يمكن أن يختصر في أسطر، وهو يطابق كل المطابقة رأي صديقنا أحمد أمين؛ فليس الزواج عند مسيو ليون بلوم متعة عنيفة ولذة متهالكة، وليس الزواج وسيلة إلى إرضاء طائفة من الشهوات الجامحة التي تضبط ولا تنظم، وإنما الزواج نظام هادئ، ينظم حياة هادئة، ويؤدي إلى سعادة هادئة، ويُعِين على احتمال أعباء الحياة في طور من أطوار السن، يصعب فيه احتمال أعباء الحياة. وإذن فلا بد من أن يُعَدَّ الزوجان إعدادًا صحيحًا دقيقًا لهذا الطور الهادئ المريح الخصب من حياتهما، وإلى هنا يتفق مسيو ليون بلوم والأستاذ أحمد أمين.
ولكنهما يختلفان بعد ذلك في مسائل إعداد الزوجين؛ فأما المسيو ليون بلوم فيفرض مدرسة لا تقيمها وزارة المعارف ولا وزارة الشئون الاجتماعية ولا أي وزارة من الوزارات، مدرسة لا بناء لها ولا برنامج لها ولا ناظر لها، وإنما الدنيا كلها هي بناؤها، والحياة كلها هي برنامجها، والطبيعة كلها هي ناظرها، يدخل الناس فيها أحرارًا ويخرجون منها أحرارًا — إن كان الناس أحرارًا في هذه الحياة — ولكنهم قد يُدفعون إلى الشر الذي لا حد له وإلى الفوضى التي لا ضابط لها. وأما مدرسة الأستاذ أحمد أمين فهي — كما رأيت — مدرسة ستقام في شارع المنيرة أو في شارع العباسية أو في شارع من شوارع القاهرة، سيكون لها برنامج محدود مكتوب، يأبى الأستاذ أحمد أمين أن يرسمه، لأنه لا يستطيع أن يرسمه، ولأن رسمه لا سبيل إليه، وستكون له ناظرة درست بالطبع في فرنسا أو في إنجلترا ونالت الليسانس أو الدكتوراه أو البكالوريوس أو الماجستير، في أي مادة؟ لا أدري ولا يدري الأستاذ أحمد أمين. وستكون هذه المدرسة تابعة لمراقبة تعليم البنات في وزارة المعارف أو لفرع من فروع الشئون الاجتماعية، لا أدري ما هو ولا يدري الأستاذ أحمد أمين ما هو، وسيكون في هذه المدرسة أساتذة لا أدري أيكنَّ من السيدات والآنسات؟ أيتخرجن في مصر أم في أوروبا أم يتخرجن هنا وهناك؟ ولا أدري في أي مادة يتخرجن ولا يدري الأستاذ أحمد أمين أيضًا. وليس يكفي أن تزعم أن ذكر البرنامج تفصيل وأنك لا تريد الدخول في التفصيل، فحاجتنا إلى التفصيل أشد من حاجتنا إلى الإجمال. فحدثني ماذا تريد أن يُدرَّس في هذه المدرسة؟ صُنع البطاطس في الفرن كما يريد توفيق الحكيم؟ فإن بناتنا يتعلمن هذا وكن يتعلمنه قبل أن تنشأ المدارس. العزف على البيانو والعود والقانون؟ فإن هذه أشياء تدرس الآن في المدارس والبيوت. تفصيل الثياب وألوان اللباس؟ فإن هذا يدرس عند المعلمات قبل أن تنشأ المدارس. ويدرس في هذه المدرسة بعد إنشائها ثقافة العقل والقلب والحس والشعور بالأدب والعلم وبالفن والفلسفة؟ فإن هذا يدرس في المدارس والجامعات. الأخلاق وآداب الأسرة والاجتماع؟ فإن هذا يدرس ولا يجدي درسه والخير أن يُكتسب من الحياة العملية اكتسابًا. ماذا تريد إذن أن يدرس في هذه المدرسة؟ وأين تريد إذن أن يتخرج الأساتذة الذين يعلمون في هذه المدرسة برنامجًا لم ترسمه، وما أرى إلا أنك ستجد إلى رسمه سبيلًا؟ وهل من الحق أن الزوجات وحدهن يحتجن إلى العناية وإلى أن تنشأ لهن مدرسة خاصة؟ أعليهن وحدهن وزر الفساد الاجتماعي الذي تشقى به الأسرة والأمة؟ أليس من الحق، بل من الواجب، أن نصارح أنفسنا في شجاعة وحزم وبراءة من الأثرة والكبرياء بأن وزر الفساد — إن كان هناك فسادًا — إنما يقع على الرجال قبل أن يقع على النساء، وأن النساء إن شاركن فيه فإنما يشاركن فيه بمقدار يسير. إن المرأة لا تشكو من آثام الزوج أو لا تشكو منها إلا قليلًا جدًّا، وأؤكد لك أن آثام الزوج وسيئاته أعظم وأضخم وأشد هولًا مما يمكن أن تؤخذ به المرأة.
إنك لتعلم كما أعلم أن أكثر الرجال يُلغون المرأة إلغاءً من حسابهم في حياتهم اليومية، فهم يهملونها إذا أقبلوا على أعمالهم لينهضوا بتكاليف الحياة، وليس عليهم بذلك بأس، ولكنهم قد يسرفون في تكاليف الحياة هذه فيغرقون فيها إلى آذانهم، ويضحون في سبيلها بتكاليف الحياة المنزلية، وإذا المرأة وحيدة مهملة قد أصبحت أجيرة لتقوم لسيدها ومولاها على إعداد طعامه وتنظيم حياته المادية اليسيرة، وتقوم على تربية أبنائها كما تستطيع؛ تعمل في النهار وتعمل في الليل، تعمل عن علم إن علمتها، وتعمل عن جهل إذا لم تعلمها، وتحظى بالرضى قليلًا وتشقى بالغضب.
ثم لا ينصرف الرجال عن أزواجهم إلى تكاليف الحياة وحدها، ولكنهم ينصرفون إلى متاع الحياة وفضولها وسخافاتها، يتخذون بيوتهم فنادق يُؤون إليها ليناموا ويؤون إليها ليطعموا، ولعلهم يطعمون في بيوتهم مرة في اليوم ويأخذون حاجتهم إلى الطعام في الأندية والمطاعم والقهوات. وإنك لتعلم كما أعلم جناية القهوات والأندية على البيوت، وجناية حياة الشارع على حياة الأسرة. وإنك لتعلم أن الرجل يُؤثِر نفسه بما استطاع من ألوان اللذة والمتاع، ويترك امرأته حيث هي في بيئتها البائسة المظلمة كأنها لم تُخلق لِلَذة ولا لمتاع، فإذا سئل عن ذلك تعلل بأن امرأته لا تلائمه، وبأن الزوج الصالحة لم توجد في مصر بعدُ. وإنما هي معاذير لا تغني عن الحق شيئًا، والحق أن الرجل ليس خيرًا من امرأته، ولعل امرأته أن تكون خيرًا منه وأصفى نفسًا وأطهر قلبًا وأقوى إرادةً وأشد احتمالًا وأنقى ضميرًا.
شيئًا من الرفق أيها السادة! لا تظلموا أنفسكم بظلم النساء، ولا تزعموا أنهن في حاجة إلى الإصلاح من دونكم؛ فهن في حاجة إلى أن يتعلمن كما أنكم في حاجة إلى أن تتعلموا، وهن في حاجة إلى أن نلائم بين حياتهن وبين التطور الذي انتهينا إليه أو الذي نقبل عليه، وأنتم في حاجة إلى مثل ذلك، ولكنكم في حاجة إلى أشياء لم تظهر حاجتهن إليها بعد، أنتم في حاجة إلى ضبط أنفسكم، والقصد في لَذَّاتكم وإرضاء شهواتكم، والاعتدال في إيثاركم أنفسكم بالخير واعتقادكم بأن الدنيا قد خُلِقَتْ لكم ولكم وحدكم؛ فأصلحوا أنفسكم تصلح المرأة.
والله يعلم ما أزعم أن المرأة ليست في حاجة إلى الإصلاح، ولكني أزعم أن حاجة الرجال إلى هذا الإصلاح أشد من حاجة النساء، ثم أزعم بعد ذلك أن هذا الإصلاح لا يكون بإنشاء مدرسة تُخْرِجُ الزوجات الصالحات أو الأزواج الصالحين، وإنما يكون بالملاءمة بين حياتنا الاجتماعية وبين ما يقتضيه العصر الحديث من التطوُّر في النظم السياسية والاقتصادية قبل كل شيء، وفي النظم الاجتماعية المختلفة بعد ذلك. حققوا العدل بين الناس في الغنى والفقر، وفي الاستمتاع بلذات الحياة والاحتمال لآلامها ومشقاتها، وفي الاستمتاع بالحقوق والنهوض بالواجبات، وأنشئوا للحكم وتحقيق العدل ونشر التعليم والعناية بالصحة العامة أدوات صالحة مستقيمة، وثقوا بأن هذا كله سيُصلح شئون الرجال والنساء جميعًا، وسيكفل تخريج الزوجات الصالحات والأزواج الصالحين.
وأخيرًا، أين تكون الشكوى من الزوجات غير الصالحات؟ إنَّا لا نسمعها في القرى والريف؛ لأن الرجال والنساء يشقَوْن جميعًا شقاءً مشتركًا بحياة قِوامُها البؤس والضنك والعلل والأمراض، ولا نسمعها في طبقات العمال التي تعيش في المدن؛ لأن هذه الطبقات يشقى رجالها ونساؤها شقاءً مشتركًا بعذاب مشترك، يشبه ما يشقى به أهل الريف. وإنما نسمع هذه الشكوى في بيئات ضيقة بين الشباب المتعلمين الذي ارتفعوا شيئًا ما عن طبقتهم فارتسمت لهم مُثُل عليا في الحياة، لا يجدون من النساء أعوانًا عليها، وهذه أزمة طارئة ستزول يوم يتحقق العدل بين المصريين جميعًا، وبين الرجال والنساء خاصة في جميع مرافق الحياة.
فالعدل العدل أيها السادة، العدل الاجتماعي وحده هو قوام الإصلاح، وهو سبيله، وهو غايته، وهو كل شيء. وقد كنت أظن أن وزارة الشئون الاجتماعية قد أُنشِئت لتحقيق هذا العدل الاجتماعي، وما زلت أظن بها ذلك وأنتظره منها.