حياته وشخصيته
في عدد المقتطف الصادر في يونيو سنة ١٩٣٩ ترك لنا خليل مطران مفتاح شخصيته في هامش ص٨٧؛ حيث قال: «في المعاودة وحدها تاريخُ تكوُّن شخصيتي، فقد كان هناك عاملان يفعلان في نفسي؛ شدة الحساسية ومحاسبة النفس. ومن هذين العاملين خلصت بتكوين نفسي على نمط خاص، وعلى هذه العبارات نستطيع أن نقيم دراستنا لهذا الشاعر الكبير.»
وعندما توعَّدته الحكومة المصرية بالنفي على أثر نشر الأبيات السابقة جَابَهَ هذا الوعيد بالأبيات الآتية:
وأما فيما عدا هاتين المقطوعتين فقد دفعت المعاودة الشاعر إلى تنكير أفكاره وعواطفه في ثياب التاريخ؛ حيث نراه يتحدَّث عن ظلم الحكام وغدرهم واستبدادهم، ووقاحتهم في فتك كسرى ببزرجمهر، أو إحراق نيرون لمدينة روما ليتلهَّى بمنظر الحريق، وما شاكل ذلك من قصائد الملاحم أو الدراما التي سنعرض لها فيما بعد.
وهكذا يتضح كيف أن طبيعة خليل مطران النفسية لم تسمح لحياته وآرائه وعواطفه بأن تظهر سافرة في شِعره، وإن كنا نستطيع أن نستنتج بطريق غير مباشر بعض هذه الحقائق التي حرص على تنكيرها.
ومع ذلك فإن بعض حقائق حياته الخارجية لا تخلو من تأثير على مادة شعره وصورته.
وأول تلك الحقائق هي عروبة الشاعر الأصلية التي كشف عنها الباحثون، وذلك بالرغم من بعض المظاهر التي قد توحي بعكس تلك الحقيقة؛ مثل مولد الشاعر سنة ١٨٧٢ في مدينة بعلبك، التي أثبتت آثارها القديمة أنها كانت فينيقية النشأة، بل وتغنَّى الشاعر نفسه بتلك الفينيقية. ثم غريزة المهاجرة التي يُظَنُّ أن إخواننا اللبنانيين قد توارثوها عن الفينيقيين القدماء الذين جابوا البحار للاتجار والتماس أسباب الرزق، وذلك فضلًا عن نجاح الشاعر في الأعمال المالية والتجارية أثناء إقامته في مصر، وتولِّيه منصب السكرتير العام المساعد للجمعية الزراعية الخديوية زمنًا طويلًا، وإن يكن قد فقد قبل تولِّيه هذا المنصب ما كان قد جمعه من ثروة نتيجة المضاربات في سنة ١٩١٢. وأخيرًا انتماؤه لأسرة كاثوليكية قد يُظَنُّ أنها لم تعتنق الإسلام لانتمائها إلى أصل غير عربي؛ نقول إنه بالرغم من كل هذه المظاهر استطاع الباحثون أن يثبتوا أن أسرة الشاعر كانت خالصة العروبة؛ فهي تتفرَّع من الأزد الذين كانوا يسكنون في الأزمنة البعيدة أرض اليمن، حتى إذا كانت كارثة سد مأرب نزحوا إلى الحجاز؛ حيث نزلوا في تهامة عند نبع ماء يقال له غسَّان، ومنه اشتُقَّت لفظة الغساسنة، ثم نزحوا إلى الشام واستوطنوها عنوة، ثم امتدت الروابط بينهم وبين الدولة البيزنطية واعتنقوا الأرثوذكسية، حتى ضاقوا بسيطرة قساوسة ذلك المذهب من اليونانيين، فتخلوا عنه ليعتنقوا الكاثوليكية. ولما انتشر الإسلام احتفظوا بدينهم كأهل ذمة لا يُكرههم الإسلام على تغيير دينهم، بل يحفظ ذمارهم ويُكرم معاملتهم. وأما أمه «ملكة الصباغ» فكانت من أسرة فلسطينية عريقة، وكانت تتذوَّق الأدب، بل وتقرض الشعر، وكذلك كانت جدته لأمه.
على أن عروبة الشاعر لم تمنعه من تنوع ثقافته وإجادته اللغات الأخرى، فبعد أن تلقَّى علومه الابتدائية في الكلية الشرقية بزَحْلة انتقل إلى بيروت؛ حيث أتم دراسته في المدرسة البطريركية للروم الكاثوليك، وفيها أجاد اللغة العربية على الشيخين خليل اليازجي وإبراهيم اليازجي، كما تعلَّم الفرنسية على أستاذ من التورين. وفي سن الخامسة عشرة من عمره؛ أي في سنة ١٨٨٧، أخرج القصيدة التي صدَّر بها ديوانه تحت عنوان ١٨٠٦–١٨٧٠، وفيها يجمع جمعًا رائعًا بين الثقافتين العربية والفرنسية؛ فهي بديباجتها ناصعة العروبة، وهي بموضوعها فرنسية؛ إذ تتحدث عن غزو نابليون لبروسيا وهزيمته للألمان في موقعة «يينا» الشهيرة سنة ١٨٠٦، ثم انتقام الألمان لهذه الهزيمة بغزو باريس سنة ١٨٧٠. ثم أخذ يتمرد على استبداد العثمانيين في بلاده، حتى قيل إن جواسيس السلطان عبد الحميد حاولوا اغتياله فأطلقوا الرصاص على مخدعه في غرفة نومه ظنًّا منهم أنه في فراشه، وعندئذٍ لم ترَ أسرته بدًّا من حمله على المهاجرة إلى باريس خوفًا على حياته، وحرصًا على العلاقة المسالمة التي كانت تربطها بالحكومة العثمانية. وفي باريس زادت معرفة الشاعر باللغة الفرنسية وآدابها، ولكن المقام لم يستقر به في باريس؛ وذلك لأنه اتصل فيها بجماعة تركيا الفتاة التي كانت تناوئ الاستبداد العثماني، فلاحقه جواسيس السلطان عبد الحميد حتى اضطر إلى أن يفكِّر في مهجر آخر، فانصرف نحو البرازيل بأمريكا الجنوبية؛ حيث كان يقيم أصهاره، وأخذ يتعلَّم الإسبانية استعدادًا لهذه الهجرة، وبذلك جمع إلى معرفة اللغة العربية والفرنسية ثم التركية التي تلقَّاها في المهد عن أسرته معرفته باللغة الإسبانية، وإن تكن نيته في الهجرة إلى أمريكا لم تتحقَّق؛ إذ سافر في سنة ١٨٩٢ إلى الإسكندرية؛ حيث اتخذ من مصر وطنه النهائي، وأنفق فيها حياته موزَّعًا بين الأدب والأعمال التجارية والاقتصادية، إلى أن توفَّاه الله في سنة ١٩٤٩ عن سبع وسبعين عامًا تقريبًا.
هذه هي الأحداث البارزة التي نظن أنها كانت ذات أثر في تكوين شاعريته، ومنها نتبين تنوع ثقافته واضطراره إلى أن يهجر مسقط رأسه؛ ليسلخ حياته إما بين قوم غرباء كالفرنسيين أو بين قوم مهما قيل في أخوَّتهم له وارتباطه بهم بمختلف الروابط، فإنه كان بالضرورة غريبًا بينهم مضطرًّا إلى أن يأخذ نفسه بمجاراتهم في الكثير من ميولهم ونزعاتهم ومجاملة أفرادهم، حتى يستطيع أن ينعم بالحياة بين ظهرانيهم. وربما كان هذا هو السبب في العثور على الكثير من قصائده ومقطوعاته التي قالها في مجاملات أو مناسبات اجتماعية لا تخلو من تفاهة؛ كحفلات الزواج والولائم والورود وأنواع الحلوى ومداعبات السيدات والأطفال والأصدقاء، وإن تكن البيئة لم تخلق عند الشاعر هذه الاتجاهات، وإنما نمت البذرة الفطرية التي جُبِل عليها، والتي أوضحها الشاعر نفسه عندما لخَّص تكوين شخصيته في: شدة الحساسية والمعاودة؛ أي محاسبة النفس وضبط زمامها. ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا بتحكيم العقل والإرادة وإخضاع العواطف والإحساسات لهما.