مقوِّمات فنِّه
لقد تشعَّبت الآراء في البحث عن مقوِّمات شعر الخليل، فسماه البعض شاعرًا إبداعيًّا؛ أي رومانتيكيًّا، وسماه آخرون شاعر العصر، وذلك فضلًا عن ألقاب التفخيم التي لا تفيد تخصيصًا لمذهب ولا إيضاحًا لمنهج؛ مثل شاعر القطرين وما إليها من ألقاب. ومع ذلك فإن الإجماع يكاد ينعقد على أن خليل مطران يُعتبر رائدًا للمدرسة الجديدة في الشعر العربي المعاصر، حتى لَيكاد يختطُّ طريقًا يشبه الطريق الذي اختطته في العصر العباسي مدرسة البديع، وعلى رأسها أبو تمام، في مواجهة مدرسة عمود الشعر وعلى رأسها أبو عبادة البحتري، وذلك عندما يقارِن النقاد بين مدرسة البارودي وأحمد شوقي وحافظ وغيرهم ممن ساروا على عمود الشعر العربي، والمدرسة الحديثة التي تنتسب إلى مطران وتمتد في جماعة أبوللو خلال أحمد زكي أبو شادي وإبراهيم ناجي ومن سار على دربهم من الشعراء الناشئين في مصر وغيرها من البلاد العربية، وهذه المدرسة تختلف هي الأخرى عن مدرسة شعراء المهجر التي لم تخرج على الشعر العربي التقليدي في موضوعاته وأفكاره وأحاسيسه فحسب، بل وفي قوالبه وصيغته، حتى ليمكن القول بأن مدرسة الخليل تشبه إلى حدٍّ بعيد مدرسة الكلاسيكية الجديدة التي نادى بها في فرنسا الشاعر الكبير أندريه شينيه قُبَيل الثورة الفرنسية الكبرى، وقبل ظهور الرومانسية، ولخَّص مذهبها في بيت شعر يدعو فيه إلى صياغة أبيات قديمة بأفكار جديدة:
أي: فلْنقُلْ أفكارًا جديدة في أشعار قديمة. ومعنى ذلك هو أن يصوغ الشاعر أحاسيس وأفكار عصره في ديباجة قديمة بمتانة لغتها وسلامة أسلوبها، وروعة صياغتها، وإن يكن من البديهي أن الصياغة العربية القديمة تختلف بالضرورة عن الصياغة اليونانية القديمة التي كان شينيه يقصد إليها، وذلك بحكم اختلاف عبقرية الشعبين.
والواقع أن شعر مطران ينمُّ عن احتفال عظيم بالصياغة الشعرية، ولكن هذا الاحتفال يختلف اختلافًا بيِّنًا عن احتفال مدرسة أبي تمام بها. فهذه المدرسة المسمَّاة بمدرسة البديع هي التي شقَّت للشعر العربي طريق الانزلاق نحو اللفظية والمحسِّنات البديعية من جناس وطباق وما إليها، بينما تُعتبر الصياغة عند مطران جزءًا من الخلق الشعري؛ فهي نحت للصور والأخيلة ومدٌّ للروابط والمبادلات بين معطيات الحواس المختلفة؛ ولذلك ربما كانت أقرب إلى مدرسة تثقيف الشعر التي اكتشفها النقاد عند أوس بن حجر، وزهير بن أبي سلمى، ممن كانوا يعاودون النظر في شعرهم ويدأبون في تنقيحه والعناية بصياغته، حتى سموا قصائدهم أحيانًا بالحوليات؛ لطول ما يبذلون من جهد في صياغتها، وشدة حذرهم من السهولة والارتجال. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن يوصف شعر الخليل بأنه شعر مصنوع على نحوِ ما يوصف شعر البديع؛ فالصنعة فيه محكَمة إلى حدِّ الخفاء، حتى ليصحُّ القول بأنها من صميم الخلق الشعري. ولربما كان هذا هو السبب في أن نرى بعض النقاد المتعمقين في الآداب الغربية يميلون إلى اعتبار الخليل من أنصار مذهب الفن للفن؛ أي الفن لخلق الصور الشعرية الجميلة التي تُعتبر غاية في ذاتها لا مجرد وسيلة للتعبير عن المشاعر الخاصة أو الأفكار السياسية أو الاجتماعية أو الأخلاقية. وإن كنا — في حقيقة الأمر — لا نظن أن الخليل قد صدر عن مذهب أدبي بعينه، وإنما صدر عن طبيعته النفسية التي وصفها هو نفسه بالمعاودة؛ أي مراجعة النظر فيما يعمل، والتدقيق فيه وتنقيحه وتثقيفه حتى يستقيم.
خرجت صباحًا من منزلي بمصر، وإذا نعش مكسوٌّ بالبياض، محلًّى بالزَّهر، يتبعه رهط من الفتيان الإفرنج، فسألت أحدهم عن ذلك الفقيد فأجابني أنه شابٌّ انتحر غرامًا فخرجوا يشيعونه، فشيعته معهم على غير معرفة به، وطفقت أرثيه بهذه الأبيات:
فأيُّ رومانتيكية أعمق من هذه التي تتلمَّس السبيل للتغنِّي بآلام البشر ومنحهم والعطف عليهم والمشاركة في بلواهم! بل وتبرير ما يسوق إليه الغرام المبرح الفاشل من جنون الانتحار! وكأنَّ في هذه القصيدة نفسٌ من آلام فرتر وما يشبهها من مآسي الغرام، والشاعر هنا لا يرثي صديقًا عرفه أو معنًى سياسيًّا أو اجتماعيًّا لمسه في فقيد، وإنما هي قصة استجاب الشاعر إلى روحها التي تتجاوب مع روحه الفياضة بمعاني الرومانتيكية. وفي اعتقادنا أنه لولا المعاودة ومحاسبة الضمير لأطلق هذا الشاعر الكبير العنان لعاطفته الشخصية، ولأسمعنا أروع الشعر الرومانتيكي تخليدًا لغرامه العاثر الذي نلمح آثاره وجروحه في نفسه خلال الكثير من قصائده مثل «قصة عاشقين».
على أنه إذا لم تسفر رومانتيكية الخليل عن وجهها، ولم يتحدَّث عن مشاعره الخاصة، ولم يكتب «ليالي» على نحو ما فعل ألفريد دي موسيه في فرنسا، أو إبراهيم ناجي في القاهرة، فإن رومانتيكيته الموضوعية تطالعنا مع ذلك بوضوح خلال القصص العديدة التي اتخذها موضوعًا لشعره؛ مثل «فنجان قهوة» التي تقصُّ غرامًا جارفًا بين بنت أحد الأمراء ورئيس حرس أبيها، ومغامراتها في سبيل لقاء هذا الحارس تحت جُنَح الدجى، وقصيدة «الجنين الشهيد» التي تُعتبر من روائع شعره، بل من روائع الشعر العربي الحديث، وفيها يقصُّ مأساة فتاة مسكينة أتت القاهرة وهي معدمة، تعول أبويها العجوزين بعملها في الحانات؛ حيث سقطت فريسة لشاب شرير لفظها بعد أن قضى منها وطره، وتركها حاملًا، وما إن وصل الشاعر إلى نهاية القصيدة حتى كانت عاطفته قد اتقدت وبلغت الذروة في حديث قوي ممعن في الرومانتيكية تناجي به الفتاة نفسها وطفلها الجنين قبل أن تتخلص منه. ولننظر بإمعان إلى هذه الأبيات الرائعة (ج١، ص٢٤٣):
أيُّ قوةٍ في هذه المناجاة التي يعزُّ علينا أن ننعتها بالرومانتيكية التي كثيرًا ما أسرفتْ في العاطفة واصطنعتْ الدموع والعَبَرات! فنحن هنا أمام رومانتيكية شرقية روحية قَلَّ أن نجد لها مثيلًا في رومانتيكية الغربيين الذين لم تصل إليهم من روحانية الشرق غير أقباسٍ لا تُغني عن البؤرة الأصلية التي انبثقت منها في الشرق كافة الديانات، وتبلور الضمير الإنساني الذي يتحكَّم في حياة الشرقيين فيُضنيهم ويمزِّق فؤادهم العاني عندما يخرُّون في الخطيئة ولا يستطيعون الفِكاك من محنتها أو التخلُّص من وزرها بإلقائها على الغير، مهما تكن مشاركتهم في تلك الخطيئة سلبية. فهذه الفتاة البائسة تحسُّ بمدى الجُرْم الذي تُنزله بهذا الجنين الشهيد البريء، وتحاول أن تُلقي الوزر على مَن أغواها، ولكن ضميرها ينازعها ويأبى إلا أن يُشرِكها في الوزر وكأنها لم تلقَ الجزاء الكافي في الألم المضني الذي يمزِّق فؤادها، وهي تقتل طفلها المرتجَى وأمنية حياتها وبسمة دهرها.
هذه وأمثالها هي رومانتيكية مطران الموضوعية الشرقية الروح، التي تغالِب الشاعر، وتأبى إلا أن تُشرِق محرقةً، رغم المعاودة ومحاسبة الضمير، وكَبْت جماح النفس، وتحكيم الفكر والإرادة، وتنكير مشاعره الشخصية، واختفاء الضمير أنا من شعره.