الشعر القصصي
يتميَّز ديوان خليل مطران بعدد وافر من طوال القصائد القصصية، وتتفاوت تلك القصائد في مصدرها وهدفها وصيغتها الفنية.
فبعض تلك القصائد، بل غالبيتها، مستمَدٌّ من التاريخ الحقيقي أو الذي تخيَّله الشاعر حول وقائع تاريخية ثابتة، ولقد ابتدأ خليل مطران حياته كما ابتدأها أحمد شوقي وغيرهما من الأدباء والشعراء في الشرق والغرب بمراجعة التاريخ، حتى نراه يستهلُّ تأليفه بملخَّص لقراءاته التاريخية جمعه في كتاب سماه «مرآة الأيام في التاريخ العام» في جزأين، صدر الأول منهما سنة ١٨٩٧. وكان من الطبيعي أن يقف مطران عند الأحداث المثيرة لعلها تصلح مادة لفنِّه الشعري؛ ولهذا لم يكن غريبًا أن تكون أول قصيدة في ديوانه هي تلك التي أشرنا إليها من قبل، وقد جعل عنوانها ١٨٠٦–١٨٧٠، وقد نَظَمها عن الحرب التي شنَّها نابليون على بروسيا الألمانية في سنة ١٨٠٦، وهزمها في موقعة يينا، ثم المعركة التي هزم فيها الألمانُ فرنسا ودخلوا باريس سنة ١٨٠٧. وهذا موضوع لا بد أن مطران قد ألمَّ به من ثقافته الفرنسية التي تلقَّاها في بيروت؛ لأنه نَظَمَها قبل أن يهاجر إلى فرنسا، وسار فيها على النهج العربي التقليدي كما يقول هو نفسه، ولم يكن قد استقام له بعدُ منهجه الشعري الجديد الذي يقوم على الوحدة العضوية للقصيدة، وكذلك الأمر في غيرها من القصائد الطويلة التي تكوِّن أهم جزء في ديوانه؛ مثل «نيرون» و«مقتل بزرجمهر» وغيرهما من عيون قصائده التي استقى مادتها من التاريخ الحقيقي أو المتخيَّل.
وبعض القصائد الأخرى لم يستمد الشاعر قصصها من التاريخ، بل التقط نواتها من الحياة المعاصرة؛ مثل «الجنين الشهيد»، التي يقول هو نفسه إن حوادثها قد حدثت في القاهرة، أو «الطفلان»، وهو منولوج تمثيلي يقول إنه نَظَمه بطلب الشيخ سلامة حجازي الذي كان يغنيه منفردًا، وكذلك «فنجان قهوة» التي تقص قصة غرام بنت أمير بحارس أبيها. فجميع هذه القصائد إما من واقع الحياة، وإما مما تخيَّله الشاعر تصويرًا لبعض جوانب هذه الحياة.
وكما تختلف قصائد مطران القصصية في مصدرها نراها تختلف أيضًا في هدفها؛ فبعضها يمكن أن ينطوي تحت ما يسمَّى في عِلم الجمال النفسي بالهروب من الواقع؛ حيث يلتمس الفنان في فنِّه مخرَجًا للمكبوت في نفسه من عواطف وأحاسيس وأفكار … ولقد يكون هذا الهروب نتيجة لطبيعة الشاعر النفسية التي حدَّدها هو نفسه بشدة الحساسية والمعاودة؛ ومن ذلك «قصة عاشقين» التي يُجمِع النقاد على أنها قصة الشاعر الخاصة، كما قد يكون نتيجة لظروف حياة الشاعر السياسية والاجتماعية؛ فقد كان مطران من شعراء الحرية الذين يعشقونها وتثور نفوسهم من كل طغيان أو استبداد. ولقد ثارت نفسه لطغيان العثمانيين وطغيان بعض الحكام المصريين، ولكنه لم يستطع أن يجابه هذا الطغيان، فاحتال للأمر واختار القصص التاريخي أو الخيالي وسيلة للتغني بالحرية والبطولة والتمرُّد على الظلم أو إظهار قحَّة الاستبداد وتنكُّره لكافة القيم الإنسانية الرفيعة، وكل هذا واضح في «مقتل بزرجمهر» و«فتاة الجبل الأسود» و«نيرون» وغيرها من روائع قصائده ذات المغزى السياسي أو الأخلاقي.
على أنه من الحق أن نقرِّر أن جميع قصائد مطران القصصية ليس هدفها تنكير مشاعره الشخصية أو الهروب من الواقع، أو التنفيس عن نزعاته وأفكاره الحرة، فمنها ما هو خالص للفن وروعته وجماله وقيمته الإنسانية الصافية، وإن يكن الخلاف قائمًا بين نقاد الأدب حول طبيعة هذه القصائد من الناحية الفنية، ومقدار اعتبارها جديدة في الشعر العربي.
وسبب هذا الخلاف يرجع إلى ما هو معلوم من أن القصص يُستخدم في كافة الآداب، إما كمادة للدراما أو كمادة للملاحم، وذلك فضلًا عن القصص النثرية المعروفة، كما يرجع من ناحية أخرى إلى ما هو معروف من أن شعراء العرب القدماء والمحدثين قد اتخذوا أعمال البطولة ووَصْف المعارك مادةً لقصائدهم الشعرية، وذلك منذ عنترة في الجاهلية حتى محمود سامي البارودي في العصر الحديث؛ مما يدفع البعض إلى القول بأن مطران لم يُحدِث في الأدب العربي حدثًا جديدًا عندما نَظَم قصائد عن البطولة ومعارك الحرب. بينما يردُّ نقَّاد آخرون هذا الرأي قائلين إن خليل مطران قد ابتدع في الشعر العربي الحديث شعر الملاحم، كما أدخل عنصر الدراما في الشعر الغنائي.
وللفصل في هذا الخلاف لا بد من أن نحدِّد خصائص شعر الملاحم، وخصائص الدراما كما يفهمها العالم الحديث، كما لا بد من أن ننظر في مدى انطباق هذه الخصائص على شعر البطولة ووَصْف المعارك عند مَن سبق مطران من شعراء العربية أو عاصره.
- (١)
تتناول الملاحم أعمال البطولة القديمة أو الأسطورية بأسلوب ساذج يداعب الخيال الشعبي، وهي لا تقص أنباء الانتصارات فحسب، بل وتقص أيضًا أنباء الهزائم ومصارع الأبطال، وتثير الشفقة كما تثير الإعجاب، ولا أدل على ذلك من أن نرى أفلاطون عند حديثه عن الجمهورية المثالية التي يدعو إليها يبدي إعجابه الرائع بهوميروس وشعره، ولكنه يقترح على جمهوريته أن تتوج هوميروس وأضرابه من الشعراء بأكاليل الغار اعترافًا بنبوغهم وفضلهم، ثم تعتذر إليهم بأنه لا مكان لهم في جمهوريته؛ لأنه يخشى على شجاعة الجند حماة الوطن من قصص مصارع الأبطال وسقوطهم صرعى مجندلين في التراب، وهروب أرواحهم إلى العالم الآخر.
- (٢)
اختفاء شخصية الشاعر من الملاحم، فهي موضوعية لا شخصية، والشاعر لا يسفر فيها عن نفسه، وإن لم يمنعه ذلك من أن يُظهِر بإحدى الطرق الفنية عطفه على بطل أو إعجابه أو استنكاره، فلا مدح فيها ولا فخر ولا وجدانيات خاصة.
- (٣)
سذاجة الخيال وطبيعة الأسلوب، بحيث يُجمِع النقاد على أن سر تفوق هوميروس على فرجيل مثلًا هو هذه السذاجة وتلك البساطة، كما يُجمِعون على أن ملاحم العصور الحديثة التي كتبها في الفرنسية مثلًا رونسار وفولتير وهيجو لم تُصِب النجاح؛ لتعقُّد خيال وتفكير أولئك الشعراء بسبب نمو الحياة العقلية، حتى أصبحت شاعريتهم غير قادرة على نَظْم الملاحم التي سحرت البشر، ولا تزال تسحرهم بسذاجتها ورقَّتها وبساطة خيالها.
وعلى ضوء هذه الخصائص نستطيع أن ننظر في الأدب العربي — أعني الشعر العربي — فنجد أنه لم يعرف في الحقيقة فنَّ الملاحم الذي لم يظهر إلَّا في الأدب الشعبي في قصص عنترة وأبي زيد وغيرها، وأما قصائد الشعر الفصيح التي تتحدَّث عن البطولة والمعارك فلا نظنها تدخل في فن الملاحم، وهي لا تخرج عن نوعين من الشعر الغنائي المعروف، فبعضها لا يقصد إلى القصص في ذاته، وإنما يقصد إلى الفخر والغزل، على نحو ما نجد في معلَّقة عنترة؛ حيث يباهي بنفسه ويفاخر ببطولته إرضاءً لعبلة التي يذكرها والرماح نواهل منه، وبيض الهند تقطر من دمه، ومع ذلك يود تقبيل تلك السيوف؛ لأنها لمعت كبارق ثغرها المتبسِّم، وأحيانًا تجري القصائد لمجرد الفخر على نحو ما يفعل محمود سامي البارودي في وصفه لمعارك كريت التي صال فيها وجال. كما قد يكون الهدف هو المدح على نحو ما نشاهد في سيفيات المتنبي؛ حيث نراه يصف الأبطال وهي تمرُّ كلمَى هزيمة أمام سيف الدولة، ووجهه بسَّام وثغره ضاحك. وأخيرًا قد يكون همُّ الشاعر إظهار مقدرته الفنية على مجرد الوصف دون أي احتفال بعنصر القصص والإثارة بسرد الأحداث، على نحو ما فعل أبو تمام في حديثه عن فتح عمورية؛ حيث ركَّز اهتمامه في وصف النار التي أحرقها الخليفة في المدينة حتى ترك فيها بهيم الليل وهو ضحى.
وبنظرنا إلى شعر مطران القصصي الذي قصد فيه إلى التحدُّث عن المعارك ووصف القتال وأعمال البطولة نجد أنه جديد في الشعر العربي، وثيق الصلة بفن الملاحم؛ وذلك لأنه لا يقصد فيه إلى فخر أو غزل أو مدح، بل يقصد إلى القصص في ذاته كفنٍّ جميل خالص من كل هدف شخصي أو ارتباط بحياة الشاعر أو شخصيته. ولا يخلع عنه صفة الملاحم تضمُّنه أحيانًا بعض المرامي الخفية؛ كنزعة الشاعر إلى تمجيد البطولة أو الإشادة بالثورة ضد الظلم والاستماتة في قتاله تحريرًا للأوطان أو ذودًا عن الحرمات على نحو ما نشاهد في قصيدة «فتاة الجبل الأسود»، التي تُعتبر من روائع شعر مطران الملحمي، وهي تقصُّ بطولة فتاة من الجبل الأسود تزعَّمت قومها وهي متنكرة في زي شاب لمحاربة الأتراك المسيطرين على وطنها والمستعبِدين لمواطنيها: حتى إذا وقعت أسيرة في يد الأتراك نضَّت عن نفسها زي الرجال فظهرت روعةُ جمالها الذي أبدع الشاعر في وصفه، وهال هذا الجمال الأتراك الغلاظ، كما أخذهم الحياء من أن يفتكوا بفتاة بزَّت بطولتها شجاعة الرجال.
هذا هو شعر الملاحم الذي شقَّ مطران سبيله إلى الشعر العربي، وأما عن عنصر السذاجة وبساطة الخيال، وسحر البدائية الشعرية وانطلاقه الشعبي أو شبه الشعبي، فذلك ما لا نظنُّه متوفِّرًا في شعر خليل مطران الممعن في الفنية المعقَّدة والخيال البعيد المدى.
وإذا استطعنا أن نخصِّص فن الملاحم بالحديث عن البطولة والأبطال والمعارك والقتال، استطعنا أن نميِّز في قصائد مطران القصصية ما يدخل في باب الدراما.
والواقع أن مطران كان مولعًا منذ شبابه بفن الدراما، حتى ليعجب المرء لماذا لم يكتب تمثيليات شعرية على نحو ما كتب أحمد شوقي، بالرغم من اتساع ثقافة مطران الغربية واتصاله الوثيق بفن التمثيل؛ حيث ظل عدة سنوات مديرًا لفرقة التمثيل المصرية ثم القومية، وبالرغم من قيامه بترجمة عدة مسرحيات مثل «عطيل» و«تاجر البندقية» لشكسبير، و«السيد» لكورني وغيرها من روائع التمثيليات الغربية. ولربما كان سبب ذلك إحساسه بأن الجمهور المصري والعربي لم يتهيَّأ بعدُ لتذوق مثل هذا الفن المركَّب؛ لذلك آثر أن يمهِّد له بالقصائد التي يجري فيها عنصر الدراما، ويُحدِث أثرًا فنيًّا دون أن يخطئه النجاح كما أخطأ شوقي، ولا يزال يخطئ غيره من شعراء المسرح في أيامنا هذه، ولعل «الجنين الشهيد» و«طفلان» و«فنجان قهوة» من خير قصائد شعر الدراما التي نظمها مطران، وجمع فيها خصائص هذا الفن من حركة وصراع وتصوير للشخصيات، وكشف عن دوافع النفوس وخفاياها.