في وطن شكسبير
لست أقصد وطنه إنجلترا، وإنما أقصد وطنه فيها، أقصد مدينة سترانفورد القائمة على نهر إيفون إن صح أن يُسمى هذا البلد الصغير مدينة، وأقصد ما يحيط بها من طبيعة هي أول ما تفتحت عليه إنسانية الشاعر النابغة الخالد خلودًا لا سبيل إلى أن يجني عليه الزمان، فقد زُرت هذه المدينة، أو هذا البلد، أثناء مقامي وزملائي الصحفيين بإنجلترا، وقد أقمنا به يومين كاملين تجولنا أثناءهما فيه وفيما حوله، وأُتيح لي أن أضرب أنا وزميلي الشاب الأستاذ عبد اللطيف صادق فيما يتصل به من أحراش وزرع وطبيعة نضرة، وفي هذه الجولات القصيرة أستطعت أن أفهم من شكسبير أضعاف ما كنت أفهم منه من قبل، وأن أنفذ إلى روحه من خلال هذه الطبيعة التي خلعت على شعره وعلى عبقريته من إلهامها ما يُثير في النفس النشوة التي تسحرها، أكثر مما تُثير فيها الإعجاب، والتي تُشيع في جوانب الفؤاد من الطرب ما يبعث إلى الحياة بسمة النعمة في أشد مواقف الحياة عبوسًا وبأسًا.
زرت سترانفورد في أوائل أيام الخريف، فلم أكد أراها حتى وقفت دهشًا مأخوذًا … إذا كان هذا جمالها في الخريف فما عسى يكون جمالها في الربيع؟ وإذا كانت بسامة الخضرة في أخريات سبتمبر مثل هذا الابتسام؛ فما عسى يكون زهرها وأريجه الفياح وألوانه البديعة في شهر مايو؛ إذ يتنفس الشجر عن أوراقه الزاهية المزهرة بعد عبوس الشتاء القمطرير، لقد بلغ من أثر هذا الجمال في نفسي أن توجهت إلى الله بصلاتي موليا وجهي شطر النافذة التي كشفت في بكرة الصبح عن هذا السحر الرائع من خلق الله جاعلًا منها قبلتي؛ لأنني لم أعرف اتجاه البيت الحرام لأولي وجهي شطره، وذكرت؛ إذ وقفت للصلاة قوله تعالى: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، تعاليت ربي سبحانك، إن في كل شيء لك أية تدل على عظمتك وعلى جلالك، وعلى أنك أبدعت من خلقك ما يوحي لمن وهبتهم أسباب النبوغ خير ما يخلد على الأجيال؛ ليكون للإنسانية غذاؤها النفسي الذي يعاونها على إدراك الحقيقة من أمر هذا الكون.
إذا كان هذا جمال سترانفورد في الخريف؛ فماذا عسى يكون جمالها في الربيع؟ لم أكن بحاجة إلى ما قصه لي أهل المنطقة لأتصور هذا الجمال وفتنته، فقد خلده شكسبير في شعره حين حديثه عن شهر الجمال والحب، مايو، خلده في أنغام لا تزال أصداؤها الشحية تتجاوب في سمعي على طول العهد بيني وبين قراءة شكسبير، أنغام ساحرة تقفك عندها وتدعوك أن تستعيدها، وتبقى في ذهنك زمنًا طويلًا بعد تلاوتك إياها، وهي تبقي أنغامًا أكثر منها كلامًا، وصورًا أكثر منها ألفاظًا، بل هي تبقى صورة كاملة لهذه الطبيعة البديعة التي أراها اليوم في زينة الخريف، وقد كستها صورة الشاعر زخرف الربيع وبهاءه، وكأنما نفثت فيها من روحه الحياة التي يخلعها الربيع على الطبيعة في أبهى ألوانها، فإذا هذه الحياة استحالت أنغامًا لا يجني عليها الخريف، ولا يخفت صوتها الشتاء، بل تبقى ربيعية ضاحكة رغم تعاقب الفصول وما له في الطبيعة من أثر.
جلت في أنحاء المنطقة التي تفتحت عليها عبقرية شكسبير، أين طبيعة الريف الإنجليزي في أنحائه المختلفة منها في سترانفورد وفي وارك وفي لمجنتن وفي تشبنج كامدن، وفي تكسبري، وفي هذه المنطقة الساحرة كلها، الريف الإنجليزي جميل ما بعدت عن المناطق النصاعية في إنجلترا وعن دخانها وضجتها، ولقد بلغ من جماله أن قال غير واحد من كتاب أوروبا ورجال الفن فيها: إن إنجلترا حديقة متصلة من جنوبها إلى شمال إستكتلندا، لكن منطقة سترانفورد ليست الريف الجميل وكفى، بل هي الفتنة الساحرة التي تلعب باللب وتأخذ بالفؤاد، لقد سمعتهم يقولون: إن في إنجلترا مناطق أبرع منها جمالًا، وما أدري كيف يكون هذا الجمال الذي يتحدثون عنه، إنه ربما اختلف عن جمال هذا الوطن الذي أنبت شكسبير وأوحى إليه من آيات الشعر الخالد ما أوحى، أما أنه أبرع فتنة من منطقة سترانفورد فذلك ما يدهشني، وذلك ما جعلني أفكر في زيارة هذه المناطق من إنجلترا يوم كنت بها، ولولا أنني وضعت برنامج رحلتي من مصر وإليها يوم ركبت البحر أقصد العاصمة الإنجليزية، ثم كان في هذا البرنامج ما لم ترض نفسي بالعدول عنه، إذن لزرت بلاد الغال ومنطقة البحيرات وشمال إسكتلندا لأرى هذه الجهات التي يفضل بعضهم جمالها على جمال الوطن الذي أنبت شكسبير.
ليست منطقة سترانفورد جبلية كسويسرا أو كمناطق الأوفرن والسافو العليا في فرنسا، وليست بها بحيرات كليمان ولوسرن ولا كالبحيرات الإيطالية، لكنها كذلك ليست منطقة مستوية استواء مصر، بل هي منطقة متموجة يقع النظر فيما حولها على جبال ليست شاهقة، وتتفاوت الطبيعة فيها بين الانخفاض تفاوتًا سريع الاطراد يعلو بك ويهبط، ويريك كلما علا وكلما هبط جديدًا من سحر هذه الطيبعة، فهي ساحرة حقًّا، خضراء نضرة كأنها بساط من سندس، ترتفع الأشجار فوق مرتفعاتها، وتنبسط الخضرة فيما استوى منها ثم لا تبلغ الأفق؛ إذ ترتفع فيها سلاسل ومن أكام وهضاب أو تنبت فيها غابات وأدغال، وقد نجد أحيانًا جدولًا من الماء ينساب هادئًا، ليس له من الجلبة ما للإيفون عند قلعة وارك، وله مثل هدوء الإفيون؛ إذ يمر تحت مسرح شكسبير التذكاري بسترانفورد دون أن يكون له مثل سعته، وسع الإيفون لا تزيد على سعة ترعة صغيرة في مصر، لكنه في وسط هذه الطبيعة الساحر أشبه شيء بالابتسامة ينفرج عنها ثغر الحسناء، وها هنا وهناك تقوم قرية ظريفة قليلة المنازل جميلة البناء تبعث في جو هذه الحياة الطبيعية البديعة معنى إنسانيًّا فيه فن وفيه اتساق مع هذا الجمال الفاتن، وتقوم كذلك قصور كانت من قبل حصونًا لأصحابها، وهي اليوم أدنى إلى أن تكون متاحف ينعم الشعب برؤية ما فيها منذ أصبح الشعب سيدًا له الكلمة بعد أن كان مجاميع في حكم أصحاب القصور والقلاع تؤمر فتطيع، ولصاحب القصر عليها حق الحياة والموت.
قلت في نفسي: أكانت هذه الطبيعة بالغة من السحر في عهد شكسبير مبلغها اليوم؟ لم تكن فيها هذه الطرق البديعة الرصف تخطفها السيارات مسرعة حينًا، مبطئة ليتمتع من فيها بهذا الجمال حينًا آخر، هذا أمر لا ريب فيه، ولعل شيئًا قليلًا أو كثيرًا من هذا التنظيم الذي قضت به حياة عصرنا لم يكن كذلك قد أدخل عليها، وهي لا ريب كانت أدنى إلى الطبيعة كما صورها بارئ الطبيعة، وأحسبها لذلك كانت أعظم وجه لهذا الشريد الطريد شكسبير، فلا وحي كوحي الطبيعة البكر، ولا شيء أبعث للإنسان على أن يندمج في أحضان الطبيعة وعلى أن يدمجها في نفسه من أن يراها حية حياته لم يعدُ عليها أحد قبله، ولم يعبث بها غيره باسم الفن أو باسم النظام، هناك يقيم الإنسان الموهوب من وحيها صروحًا فنية قوية شامخة ثابتة على وجه الزمان، كما يقيم البناء قصرًا من أحجار نحتها من الجبل نحتًا، أما الطبيعة المهذبة المنظمة يعمل الإنسان بدون تلك الطبيعة البكر لم تهذب ولم تنظم في أخذها رجل الفن عن نفسه في وحيها إليه، وما يقيمه رجل الفن من وحي الطبيعة المهنية المنظمة أشبه بالبناء الذي يقام من أنقاض بناء سبقه، لا جدال في أن الطبيعة المنظمة أدنى إلى منفعة الجماهير، ولعلها أبعث بالمتاع إلى نفس الكثيرين منهم، لكن النابغة ليس من الجماهير إلا ما تكوِّن الشجرة الضخمة الكثيرة الثمر من النبات القائم حولها تعبث به الرياح وتغذيه الصناعة بأسمدتها، أما الشجرة الضخمة فتضرب بجذورها في أعماق الأرض إلى حيث لا تصل أسمدة الصناعة لتستمد من هذه الأعماق غذاءها، فيكون ثمرها بهذا الغذاء المبكر أشهى وأكثر للنفس إمتاعًا.
أتممت هذا الحديث فيما بيني وبين نفسي وتصورت الصبي وليم سكسبير يضرب بين أحضان هذه الطبيعة وكانت بكرًا، كما أضرب أنا وأصحاب فيها بعد أن هذبتها الصناعة، ويضرب فيها على قدميه لا تمر به سيارة أو قل ما يستوقفه عربة يجرها الجياد، ها هو ذا أمامي يسير وعيناه الزرقاوان الجميلتان تلتهمان كل ما حوله، وتقعان على فراشة تارة فيسرع الطفل ثم يجرع لكي يتقتنصها، فإذا ظفر بها أو فاتته عاد يمشي الهوينا أو يجلس إلى ظل شجرة يشم شذا أزهارها وأريج ما حولها من زهور الربيع المنثور حوله، وهو ينهل من هذا كله بكل حواسه ويدمجه في نفسه، وليس يعلم ما كتب له القدر في لوحه، ويعود في المساء إلى داره يقرأ قصصًا قديمة عن إيطاليا والحياة فيها تبحث في ذهنه بهذا الوصف البارع، وهو في أثناء هذا كله يرى الناس ويتصل بهم ويلاحظ بنظرته أحوالهم وشئونهم، وكما أنه يرى الطبيعة بغير العين التي يراها بها سائر أهله، فهو يتمثلها في دخيلة نفسه حتى لتصبح جزءًا منه، كذلك شأنه مع الناس يراهم ويمثل في أطواء قلبه صورة منهم، وتتقدم به السن ويزداد بهذه الطبيعة البارعة اتصالًا، فإذا تم له هضم ذلك كله لم يكن له بد من أن يتنفس بما في قلبه، وأن يترنم بالأنغام التي سلكتها هذه الطبيعة إلى نفسه، فيكوِّن من ذلك الشعر الرائع الخالد الذي يقرأ له والذي كتب على القدر الخلود.
هذا وحي الطبيعة وأثره في شعر شكسبير، وإنما هي إلمامة بما رأيت، لم أقصد فيها إلى تحليل للشاعر ولا لشعره، ولكن سحرت بهذه الطبيعة الفاتنة، فرأيت أن أشرك قراء هذه الجريدة في سحرها، وحسبي ما قدمت من ذلك ولعلي أعود له.