تعال معي نبحث عن الجمال
تروي كتب الأدب العربية أن معاوية بن أبي سفيان سئل يومًا: ما بقي من لذتك يا أمير المؤمنين؟ وكان جوابه: محادثة الرجال، وهذا جواب حكيم لا ريب، ومحادثة الرجال متاع أي متاع، لكن مشاهد الطبيعة لا تقل في نظري عن محادثة الرجال إمتاعًا ولذة، ومتاعها يحلو كلما تكرر بين الحين والحين، وهو يزداد أخذًا للنظر كلما تباعدت فتراته فعادت بذاكرتنا إلى أوقات من حياتنا كان الشباب يزيدنا أثناءها متاعًا بكل ما في الحياة.
كان ذلك شأني خلال الأسبوع الذي قضيته بسويسرا بين السادس والثالث عشر من شهر أغسطس الحاضر، صحيح أنني لم أنزل جنيف، ولم أستمتع بمناظر بحيرتها الساحرة، لكنني زرت فيما زرت أماكن وقفت عند بعضها منذ عشرين ومنذ ثلاثين سنة، فكان متاعي بمشاهدتها اليوم وكأنه متاع جديد، ضاعفته ذكريات سعيدة من عهد الشباب لم تنسني إياها الكهولة المتقدمة إلى ناحية الشيخوخة.
وكان ذلك موقفي بنوع خاص أمام شلالات الراين عند بلدة شافوزن، فقد زرت هذه الشلالات منذ سبع وعشرين أو ثمان وعشرين سنة، زرتها يومئذ مع زوجتي ووقفنا أمامها مأخوذين بعظمتها وجلالها وجمالها، كتبت يومئذ عنها ما نشرته في كتاب «ولدي» ثم أنستنيه السنون التي تنسي كل شىء، تنسي السعادة والشقاء، تنسي المسرة والألم، تنسي الفقر والغني، تنسي الحزن والفرح، أنستنيه السنون حتى لقد زرت سويسرا بعد ذلك غير مرة فلم يمر بخاطري أن أذهب لأري هذه الشلالات، بل لعلي نسيت وجودها وجمالها، وإن بقيت ذكرى زيارتي الأولى إياها عالقة بذهني تبعث إلى نفسي معاني النعمة والسعادة.
وللمصادفات في حياتنا شأن عجب، صادف أن جاء ولدي من إنجلترا ليلقاني في زيورخ بسويسرا مستقلًّا إليها سيارته، وفي أثناء حديثه عن رحلته ذكر أنه مر بشافوزن، وسألته إن كان رأى الشلالات فذكر أنه مر بها ليلًا، وأنه كان يستعجل لقائي فلم يقف عندها، عند ذلك عزمت أن أعود به وبابن أخي إليها لنقضي النهار عندها، فمثل هذه المناظر البارعة الرائعة لا تكتفي منها بأن تمر بها، بل هي تمسكك عندها، وتستولي على لبك بروعة جمالها، وتسلبك اختيارك في مفارقتها، وخير أن تسلم زمامك إليها لتزداد متاعًا بها وإيمانًا بقدرة بارئها ومصورها ذي الجلال.
والطريق من زيورخ إلى شافوزن طريق جميل يأخذ بالعين ما حوله من أشجار وغابات، وما امتازت به سويسرا بجبالها وسهولها من مناظر ذات روعة بارعة، فلما كنا عند الجسر الصغير الذي يتخطى الإنسان الراين فوقه إلى منطقة المساقط تركنا السيارة وترجلنا وعبرنا الجسر، وطال سيرنا حتى كنا عند البناء المطل على هذه المساقط التي تنحدر الشلالات من حولها شلالًا فشلالًا، ودرنا حول هذا البناء ودخلنا إلى حيث نشاهد الشلالات، يا للجلال والروعة والجمال، ويا لقدرة خالق كل شيء ويا لعظمته وجلاله، وقفنا عند أول منظر لهذه الشلالات في غرفة فيها زجاج ملون نرى فيها انحدار المياه المندفع يحيل هذه المياه زذاذًا ورشاشًا وما يشبه البخار، وترى هذا المنظر بألوان الزجاج الأحمر والأصفر والأخضر فيأخذك العجب، لكن هذا العجب لا يلبث أن يتلاشى، إن منظر الشلالات على طبيعتها ومن غير تلوين أعظم بهاء وروعة من كل تلوين تبدعه صناعة الإنسان.
فقد أنشأت حكومة سويسرا، أو بلدية شافوزن، لا أدري أيهما، درجًا ينخفض حتى يبلغ ما يزيد على مائتي درجة، وأنشئت عند كل منظر جديد من مناظر الشلالات ساحات ضيقة يقف عليها الإنسان ليمتع نظره بهذه المناظر البديعة المتعاقبة، فليس انحدار الشلالات وحده هو الذي يأخذ بنظرك، بل إنك لترى على ضفة النهر المقابلة الأشجار الخضراء الكثيفة تكاد تكون غابة، أو لعلها بالفعل غابة يستريح النظر إلى جمال خضرتها، وإن فصلت بينه وبينها هذه الشلالات المنحدرة بمياهها المتدفقة ورشاشها وزذاذها الذي يصيبك منه بين الحين والحين نصيب لا تضيق به؛ لأنك تشعر أنه أثر من هذا المنظر الذي فتنك بروعة عظمته وساحر جماله، وبما يُحدث عنه من كبرياء الطبيعة كبرياء يزيدنا حبًّا لها وتعلقًا بها وإيمانًا بمبدعها العظيم.
ولقد رأيت فيما رأيت من مساقط المياه ومن الشلالات غير قليل، رأيت شلالات النيل في أسوان وفي حلفا، رأيت شلالات نياجارا بين الولايات المتحدة وكندا، ورأيت من مساقط المياه في فرنسا وفي سويسرا ما استرحت إليه وأعجبت به حين زرته، ولكن شتان بين شلالات النيل ونياجارا وشلالات الراين عند شافوزن، إن شلالات النيل كتماثيل قدماء المصريين، روعتها في ضخامتها وفي امتدادها وشلالات النياجارا رهيبة في جلالها؛ لأنها تنحدر من ارتفاع عظيم، وأنت تزداد لها قدرًا حين تشهد انحدارها وقد اخترقت إليه جوف الصخر الذي نقره المحيطون به فيزيدك المنظر مهابة وخوفًا، أما شلالات الراين عند شافوزن فلم تبلغ عظمة شلالات النيل، ولم تبلغ رهبة شلالات نياجارا، ولكنها جمعت من جمال الجلال وروعة السحر، وأحاطت بها الخضر الناضرة التي تريح العين وتأخذ بالنظر ما لم يجتمع شيء من مثله لأي من المساقط أو الشلالات التي رأيت خلال عشرات السنين الماضية.
ولا أتحدث عن مساقط المياه المنحدرة في أخاديد الصخر من أعالي الجبال في سويسرا وفي فرنسا؛ فهي لا تقاس جمالًا ولا جلالًا إلى شلالات الراين، على أنني إن نسيت فلن أنسى يومًا كنا فيه بأنترلاكن وكنا نتخطى بين جبلين تندفع المياه بينهما بقوة عنيفة، وكانت معنا سيدة مصرية رقيقة متحدثة يحلو لها حديثها ويحلو لك سماعها، وقد تقدمتنا هذه السيدة بين الجبلين على جسر ضيق من الخشب يحجز بينه وبين الماء حاجز نحيف، وأعجبت السيدة أول ما دخلت بين الجبلين وتحدثت عن جمال المنظر، لكنها لم تلبث بعد قليل أن استحال حديثها صمتًا لا تقطعه كلمة، وإذا هي تهمهم بين شفاهها تقرأ الفاتحة أو آية الكرسي، وإذا المنظر يطول ثم يطول، ويزداد رهبة وجلالًا، ثم إذا الرشاش يتساقط من فوقها منحدرًا من الجبل فلا يحرك تساقطه السيدة لحديث أكثر من السؤال عما بقي من هذا المنظر البديع الرهيب، وبقينا كذلك نصف ساعة أو نحوها حتى خرجنا من الناحية المقابلة للناحية التي دخلنا منها، عند ذلك تشهدت السيدة وكأنما ردت إلى الحياة من جديد، أما أنا وصاحبي الذي كان معي فابتسمنا لخوفها وفزعها، وإن مرت بنا لحظات أثناء هذا الطريق على نهر الآر لم نكن فيها دون السيدة رهبة، وإن لم نكن مثلها خوفًا ولا فزعًا.
هذا بعض قليل من كل كثير من روائع الطبيعة التي شهدت في أسفاري، أحيت زيارتي سويسرا ذكراها في نفسي، ألست إذن على حق حين أذكر أن مشاهد الطبيعة ليست أقل إمتاعا للنفس من محادثة الرجال، وإن تقدمت بنا السن، وإن استمتع نظرنا من هذه المشاهد بما لا حصر له، ولمشاهد الطبيعة في كل بلد من بلاد الله روعة وجمال يتجليان لمن عرف أن يراها ويتحدث إليها ويسمع حديثها، فأما الذين لا يرون ولا يتحدثون ولا يستمعون فأولئك حرمهم الله نعمة من أجل نعمه وأعظمها قدرًا، وحرمهم لذلك من المتاع بخير أنعم الحياة، ولقد طالما سمعت بعضهم في مصر يتحدث عن الصحراء ويتساءل ما جمالها، ولو أنه قرأ ما كتبه المرحوم أحمد محمد حسنين في مقدمة كتابه عن الصحراء؛ لأدرك أن فيها أكثر من الروعة ومن الجمال، فيها سر عميق بعيد الغور تقف أمامه مسبحًا مقدسًا مدركًا عظمة الخالق وضآلة الخلق، ولو أن هذا المنكر الكافر لجمال الصحراء اجتازها ساعات المغيب أو في ضوء القمر لرأى فيها من آيات الجمال الرائع ما يدفع إلى نفسه الإيمان بجلالها وجمالها، كذلك شأن الذين ينظرون إلى النهر الإله الذي عبده قدماء المصريين، والذي قال هيرودوت: إن مصر هبة من هباته، فهذا النيل الجليل الجميل في أوقات تحاريقه، الجليل العظيم في أوقات فيضانه؛ مشهد خالد من مشاهد الطبيعة البارعة الدائمة التغير كلما تغيرت فصول السنة، والبحر بموجه المتلاطم، والمزارع الخضراء الذاهبة إلى مدى النظر عند الأفق … هذا كله جمال رائع يستمتع به من يعرفون كيف يستمتعون بمشاهد الطبيعة، كما يستمتع به من يعرفون كيف يستمتعون بمشاهد الطبيعة كما يستمتع بها الطير والحيوان في صمت وإجلال.
تباركت يا رب خالق كل شىء، إن لنا معشر بني الإنسان مما خلقت لما يزيد الحياة بهجة ويزيدنا بها متاعًا، فلك الشكر والثناء على ما أنعمت وتفضلت، بيدك الخير، وأنت على كل شيء قدير …