أول يوم في باريس
في الحياة مفاجآت لها أثرها في حياة الإنسان ما عاش.
وكان ذلك بشأن الليلة الأولى التي قضيتها بباريس يوم زرتها لأول مرة، كنت إذ ذاك شابًّا لم أتم الحادية والعشرين، وكنت قد حصلت على إجازة الليسانس في الحقوق من مصر، وسافرت إلى باريس لكي أدرس لإجازة الدكتوراه، وكان معي في الباخرة التي أقلتنا من الإسكندرية في السابع من يوليو سنة ١٩٠٩ زميلان سافرا إلى فرنسا للغرض الذي سافرت له، وكان معنا بعض رجال عرفوا أوروبا؛ لأنهم سافروا إليها من قبل غير مرة.
وأرست بنا الباخرة في مرسيليا صباح اليوم الثاني عشر من يوليو، وقضيت النهار في المرفأ الفرنسي، ثم أقلنا قطار المساء إلى باريس فبلغناها صبح ١٣ يوليو.
ونزلنا بباريس فندقًا يجاور كنيسة المادلين لا عهد لأمثالي الطلبة بالنزول فيه، ولكني نزلته مع أصحابي؛ لأن عظيمًا من أصدقاء والدي كان يقيم به، فأثر أصحابي النزول فيه ريثما نجد المسكن الذي يليق بطالب جاء يدرس.
وفي أثناء النهار زار بعض إخواننا المصريين الذين يقيمون بباريس منذ سنين هذا العظيم الذي كنت أتمتع بعطفه، فأوصاهم بأن يصطحبونا في المساء لنرى باريس ليلة ١٤ يوليو.
وكانت هذه هي المفاجأة التي استمرت أربعًا وعشرين ساعة.
كانت مصر؛ إذ ذاك ترزح تحت نير الاحتلال البريطاني، وكانت فيها بقايا متخلفة من آثار الحكم العثماني، وكانت المرأة المصرية محجبة لا اختلاط لها بالرجال، وكان الجمود الفكري من فضائل الشباب في هذا الحين، وكانت هذه الصورة للحياة المصرية لا تعجبني يومئذ من الناحية النظرية، فكنت أقاومها وما أزال طالبًا بالحقوق، ولكنها كانت صورة الحياة الواقعية التي عرفتها وألفتها، ولم أعرف غيرها ولم ألفه.
فلما كان المساء من ذلك اليوم الأول الذي نزلت فيه باريس إذا بي تفاجئني صورة للحياة تختلف عن هذه الصورة التي ألقتها، بل تثور بها، بل تلقي بها من النوافذ إلى الجحيم لتتبدى أمامي صورة أخرى تبهر عيني وتذرني وكأنني انتقلت إلى عالم آخر.
خرجت في المساء مع أصحابي الذين يقيمون بباريس أشهد عيد ١٤ يوليو، وكان النهار قد أعدنا بعض الشيء لنتوقع جديدًا نراه، فقد رأينا في الصبح عند قوس النصر بعض الفرق العائدة من الاستعراض الذي أقيم لمناسبة عيد الحرية، أعدنا منظر هذه الفرق بعض الشيء فقط؛ لأننا لم نتعود في مصر أن نسمع عن عيد الحرية، ولأني لم أكن أتصور أن يكون استعراض الجيوش من مظاهر الحرية، وإن أمكن أن يكون من مظاهر الاحتفال بالنصر، فلما خرجنا في المساء كانت المفاجأة الكبرى، المفاجأة التي تركت في حياتي أثرًا لا أنساه، والتي ثبتها بعد ذلك في نفسي ما شهدته غداة ذلك المساء، في يوم ١٤ يوليو نفسه.
كانت باريس من ذلك الحين تُسمى مدينة النور، لكنها لم تكن تعج بالأنوار عجيجها بها اليوم، أما في ذلك المساء وتلك الليلة مساء ١٣، ١٤ يوليو، فقد كانت أنوارها تصعد إلى السماء على نحو بهر خيالي، زاده بهرًا أن أهل باريس جميعًا هرعوا إلى شوارعها يحتفلون بعيدهم ويشهدون هذه الأنوار الساطعة المنتشرة في كل مكان، ويستمعون إلى ألحان الموسيقى التي تعزف في كل مكان.
وسار أصحابنا وسرنا وراءهم نقصد ميدان الباستيل حيث يقوم تمثال الحرية سطعت عليه الأنوار من كل جانب، وارتفعت منه مصعدة إلى السماء، وحرصنا على أن نرى التمثال عن قرب، ولكن هيهات، إن الجموع الزاخرة المحيطة به تجعل من أعسر العسير عليك أن تتقدم إلى ناحيتة، وهذه الجموع مختلطة من رجال ونساء، من شبان وشيب وصبية، وقد أخذت نشوة السرور بمجامع قلوبهم فهم يحيون بنظراتهم وبابتساماتهم هذا التمثال الذي يقوم حيث كان يقوم السجن الذي كبل فيه الاستبداد أجسام الأحرار، وإن لم يستطع أن يكبل عقولهم وقلوبهم، والذي حطه الفرنسيون في ثورتهم الكبرى، وأخرجوا منه الأحرار؛ ليستمتع الجميع بالإخاء والحرية والمساواة، فيقول كلّ ما يشاء، ويفعل ما يشاء، ويستمتع بحريته كما يشاء، على شريطة إلا يعتدي على حرية غيره، فيتمتع الجميع بأكبر نعمة عرفتها الإنسانية: نعمة الحرية.
وبقينا إلى ما بعد منتصف الليل نجوب أرجاء باريس فتفاجئني حيثما ذهبت أنوار الحرية ومظاهرها، وعدت إلى الفندق أستعيد بالنوم راحتي، فلما أصبحت خرجت إلى الحي اللاتيني مع رفقتنا الذين يعرفون باريس.
ما هذا الذي أرى، إن الناس قد بلغ منهم الجذل مبلغًا لو أن شيئا من مثله حدث في مصر لنادى المنادون بالويل والثبور وعظائم الأمور، إنهم يرقصون في كل مكان، ويغنون في كل مكان، ويقبل بعضهم بعضًا في كل مكان، وذلك لا ريب هو احتفالهم بعيد الحرية، فإنني لم أشهد شيئًا من مثله أمس في باريس، ولم أشهد شيئًا من مثله أول من أمس في مرسيليا، وليس طبيعيًّا أن يكون ذلك شأنهم في حياتهم اليومية فحاجات الناس في حياتهم اليومية تقتضيهم العمل، والعمل يمسكهم عن الاندفاع في مثل هذه الغبطة الجارفة التي أراها أمام عيني اليوم.
لكن ما أراه اليوم لم يكن مما يدور بخاطري أو يتصوره خيالي، لقد شهدت جموع الناس الحاشدة في مصر لمناسبات مختلفة كلها أو أكثرها متصل بالدين، كحفلة الكسوة، أو طلعة المحمل، أو رؤية رمضان، أو وفاء النيل، لكني لم أر مثل هذا الجذل الذي يتجاوز الحدود كلها مما رأيت في باريس يوم ١٤ يوليو، وما كان بالنسبة لي مفاجأة لم يسبق لي في الحياة مفاجأة مثلها.
وأصبحنا يوم ١٥ يوليو فإذا باريس تعود إلى نشاطها وإلى وقارها، وإذا أنوار العيد تنطفئ؛ ليعود الناس لعملهم اليومي وكدحهم لحاجات الحياة.
تركت هذه المفاجأة أثرًا في نفسي لم تزده الأيام من بعد إلا قوة وتثبيتا، وكان أول أثرها أني أيقنت أن أبناء فرنسا ما كانوا ليحتفلوا بعيد الحرية كل هذا الاحتفال لولا أنهم يشعرون بالفعل بقيمة هذه الحرية بعد أن كسبها لهم آباؤهم وقد بذلوا في سبيلها أجسم التضحيات، فعُذب منهم من عُذب، وشُرد منهم من شُرد وقُتل منهم من قُتل، ولولا أنهم يمارسون هذه الحرية في حياتهم بكل معانيها، ذلك ما تبينته وثبت في نفسي من بعد، ولعلهم كانوا أكثر ابتهاجًا بحريتهم يومذاك منهم ومن غيرهم من الشعوب الحرة بحريتهم اليوم، ولذلك كان احتفالهم أعظم روعة، وكان مصدره القلب والشعور العميق.
فالحرية في ذلك العهد، قبل الحرب العالمية الأولي، لم تكن تعرف حدًّا ولا قيدًا، كان المذهب الفردي الذي يقدس الحرية الإنسانية هو السائد في العالم كله، وكانت وظيفة الحكومات حماية هذه الحرية الفردية قبل كل شيء، لم تكن في ذلك العهد قيود تصدك عن شيء إلا أن تعتدي على حرية غيرك أو على ماله، أما اليوم وبعد الحربين العالميتين الأخيرتين فقد اختلف معنى الحرية في النفوس حتى أصبح الذين كانوا يؤمنون بها على ما عرفها القرن التاسع عشر يشعرون بأن العالم ارتد إلى الوراء أجيالًا.
ومهما يكن من شيء فقد تركت هذه المفاجأة الأولى التي واجهتني بها باريس أول ما نزلتها أثرًا في نفسي لا تمحوه الأيام، ولا يمكن أن يجني عليه النسيان.