باريس أمس واليوم
أحقٌّ أنه لا جديد تحت الشمس كما يقولون؟
وبعبارة أكثر بساطة، هل نحن نرىكل يوم ما نراه في اليوم الذي سبقه، وكل عام ما نراه في العام الذي سبقه، فنتوهم أن العالم هو اليوم كما كان منذ خُلق، قد يكون ذلك صحيحًا إذا وقفنا بذاكرتنا عند مظاهر الطبيعة وأثارها، فالشمس والقمر وسائر الكواكب لم تتغير في تصورنا عما كانت عليه منذ آلاف السنين، والبحار والجبال والأنهار لم تتغير كذلك، وما تنبت الأرض هذا العام هو ما أنبتته العام الماضي، وهو ما ستنبته في العام المقبل والأعوام التي تليه، لكنا قد رأينا في حياتنا، وفي هذا القرن العشرين، أشياء لم يرها آباؤنا، أو لم يرها أجدادنا، كما أن ساكن المدينة يرىأشياء لا يراها ساكن القرية، ونحن إذا غبنا عن بلاد كنا نقيم بها ثم عدنا بعد سنين إليها رأينا فيها من الجديد ما لا يراه المقيمون بها، والذين لم يبرحوها يتوهمون أن ما يرونه هو هو لا يتغير، ويقولون بذلك أن لا جديد تحت الشمس.
وقد غبت أنا عن باريس مرات وعدت إليها بعد ذلك مرات، وكنت قد أقمت بها ثلاث سنوات بين سنة ١٩٠٩ وسنة ١٩١٢، خلال إجازة قصيرة قضيتها خلال هذه السنوات الثلاث بمصر، وقد رأيت تحت شمس باريس جديدًا في غير مرة من المرات التي عدت فيها إليها، وإن بقيت باريس لم تتغير في جوهرها وروحها بأكثر مما تغير العالم كله في جوهره وروحه.
كانت باريس خلال السنوات الثلاث التي أقمتها بها صدر شبابي أكثر مرحًا، وكان مرحها إذ ذاك أكثر رزانة من مرحها في العهد الذي أعقب الحرب العالمية الأولي، وأكثر وقارًا من مرحها بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت باريس صدر شبابي أكثر حرية منها اليوم، وإن بقيت مع ذلك مهد الحرية في العالم كله بأوسع صور الحرية وأكمل معانيها.
وكانت باريس صدر شبابي أشد ميلًا للفن الكلاسيكي في المسرح والموسيقى والأدب، وهي اليوم أشد ميلًا للفن التقدمي فيها، إن صح أن تسمي مظاهر الوجودية «الأكزيستانسياليسم» وما إليها فنًّا تقدميًّا، وكانت باريس صدر شبابي مصدر الإشعاع العلمي والروحي، ومقصدًا لكثيرين تحن نفوسهم وقلوبهم إلى نور هذا الإشعاع المجتمع في السوربون وما حوله من معاهد باريس، واليوم تنازع باريس عواصم أخرى تريد أن تنزع منها تاج هذا الإشعاع في الفن والعلم والأدب، وباريس مع ذلك ما تزال محتفظة بتاجها غيورة عليه أشد الغيرة، هذه وأمثالها صور لما جد تحت شمس باريس، ثم بقيت مدينة النور رغم ذلك كله مصدر النور تحسه القلوب والعقول والأرواح، كما تشهده الأعين والحواس.
ولن أسأم تكرار ما حدثني به السناتور ألبن باركلي نائب رئيس الجمهورية الأمريكية في عهد الرئيس ترومان؛ إذ قال لي يومًا ونحن خارجان من اجتماع اللجنة التنفيذية للاتحاد البرلماني الدولي سنة ١٩٤٨، وكانت اللجنة تعقد اجتماعها في قصر مجلس الشيوخ الفرنسي القائم في حديثة اللوكسمبرج، قال سناتور باركلي: لقد زرت عواصم العالم كله تقريبًا زرت عواصم أمريكا وأوروبا وزرت القاهرة وزرت الهند، والكثير من هذه العواصم روعة تأخذ بالنفس، لكن عاصمة منها لا تأخذ بمجامع قلبي ما تأخذ باريس، أنا لا أعرف كلمة واحدة من اللغة الفرنسية، ولا أعرف لغة غير الإنجليزية، وأنا مع ذلك أشعر وأنا هنا في باريس بأنعم الحياة أكثر مما أشعر بها في أي بلد آخر، ولو سألتني لماذا، لما استطعت أن أجيبك بأكثر من أنها باريس بفتنتها وبارع جمالها وظروفها وخفة روحها.
وأعترف بأنني أعتبر السنوات الثلاث التي أقمتها صدر شبابي بباريس أسعد أيام حياتي، وأعمقها أثرًا في تكوين نفسي وفي اتجاه ثقافتي، وإنني لذلك أحب باريس أخلص الحب، وأدين لها بولاء لا تجني عليه الأيام، قد أختلف رأيًّا مع الفرنسيين، أو مع أهل باريس أنفسهم، في أمر من الأمور، وقد يبلغ هذا الخلاف من نفسي مبلغ الموجدة عليهم، فإذا عدت إلى باريس، بل إذا ذكرت باريس أسفت أن يكون بيني وبين أهلها خلاف كما تأسف أنت إذا اختلفت مع أعز حبيب عليك، وأحب صديق إليك.
وليست هذه العاطفة القائمة بنفسي نحو باريس من إملاء النظرة الأولى، وليست أثرًا من هوى في الشباب بقيت ذكراه عالقة بالقلب رغم تعاقب السنين، فقد نزلت باريس أول ما نزلتها قليل البضاعة من اللغة الفرنسية، وقد فكرت في الأسابيع الأولى من نزولي بها أن أغادرها إلى لندن، وفي أثناء ذلك كنت جادًّا في دراسة اللغة الفرنسية، وكان معلمنا يدرس إلينا الآثار الكلاسيكية وروائع الأدب الحديث، كان يقرأ معنا مسرحيات راسين وكورني وموليير، وكان ينصح إلينا أن نذهب لنرى هذه المسرحيات في الكوميدي فرانسيز، ضبطًا لنطقنا، ومتاعًا بجمال التمثيل، فكان ذلك أول أثر عميق تركته باريس في نفسي، وإني لأذكر إلى اليوم، رغم انقضاء ما يقرب من نصف قرن، كيف بلغ إعجابي بالممثلة البارعة مدام برتييه وهي تمثل دور أندروماك ما تجاوز كل حد للإعجاب، وما جعلني أتردد لأراها ما استطعت إلى ذلك سبيلًا، ثم جعلني أرى المسرح الفرنسي بحق تاجًّا تفخر به باريس، وتفخر به فرنسا، ويثير في نفس الأجنبي أعظم الإعجاب وأبلغه.
وكنت أخرج يوم الأحد من كل أسبوع أقضي النهار في ضاحية من ضواحي باريس: فرساي، أو فيونتينبلو، أو سان كلو، أو فنسين أو انجان ليه بان، أو غيرها من هذه الضواحي الكثيرة الجميلة المحيطة بالعاصمة الفرنسية، والتي تكتنفها الغابات، أو البحيرات، أو يجري أمامها نهر السين وتجري عليه زوارقه البخارية الظريفة، وفي هذه النزهات كنا نرى الفرنسيين الذين يخرجون إلى هذه الضواحي يمرحون ويعبثون، ولا يأبون أن يشاركهم غيرهم مرحهم وعبثهم، ومن حولهم إبداع هذه الطبيعة بغاباتها وبحيراتها وبنهرها الصغير بالقياس إلى نيلنا العظيم، فترك ذلك كله في نفسي أثرًا أعمق الأثر.
وفي هذه الأثناء كنت قد بلغت من معرفة اللغة الفرنسية ما أتاح لي أن أقرأ روائع آدابها فتوفرت على ذلك جهدى، وكنت أقضي فيه جانبًا كبيرًا من ليلي ومن نهاري، فكنت أزداد بتوفري ذاك إلمامًا باللغة، وازداد به كذلك حبًّا لأصحابها، حب تقدير وإعجاب، وحب مودة وصداقة.
وآن لجامعة باريس أن تفتح أبوابها، وللمعاهد المحيطة بها أن تبدأ محاضراتها، فأقبلت أستمع إلى هذه المحاضرات فإذا بي أسمع جديدًا لم أتعود في مصر سماع مثله، وإذا البحث الحر أساس هذه الدراسات العليا، وإذا آفاق جديدة تنفتح أمامي وتريني من ألوان الحياة جديدًا لم يكن لي به عهد من قبل.
وكذلك جعلت باريس تبعث إلى قلبي وعقلي من روحها ومن حياتها، ومن مختلف صور الجمال الساحر فيها ما ثبت في نفسي محبتها، وما زاد هذا الحب عمقًا على الأيام، فلما غبت عنها بعد السنوات الثلاث التي أقمتها بها كنت دائم الحنين إليها، لكن أحوال الحياة حالت بيني وبين العودة إليها؛ إذ نشبت الحرب العالمية الأولى بعد سنتين من مغادرتي إياها، وحبست هذه الحرب المصريين داخل بلادهم إلى مايو سنة ١٩٢٠، ثم إني عدت إلى باريس في سنة ١٩٢٦ وجعلت أتردد بعد ذلك عليها كل عام إلى سنة ١٩٣٠، ومررت بها لمامًا في سنة ١٩٣٧، ثم حجزتني الحرب العالمية الثانية عن العودة إليها إلى سنة ١٩٤٦، وكثر ترددي بعد ذلك عليها، وبعد كل غيبة عنها وعودة إليها كنت أرى فيها جديدًا لا يمحو القديم، بل يزيده روعة وبهاء ويزيدني بمدينة النور تعلقًا كتعلق الصديق الوفي بصديقه الوفي.
وكذلك كان شأني من باريس كشأني في كل مرة أحببت فيها، ليست النظرة الأولى هي التي تسرحني، وإنما يسري الحب إلى قلبي شيئًا فشيئًا، رويدًا رويدًا، ثم يستقر فيه استقرار إخلاص ووفاء لا يغير منهما ما أعرف من هفوات من أحب ونزواته، وكثيرًا ما تزيديني هذه النزوات له حبًّا ولصداقته وفاء.