فرنسا الجميلة وباريس تاجها
لما اختار أناتول فرانس أن يستريح من عناء الحياة بالعود إلى أخضان أمه الأرض قال أحد أصدقائنا: إن خسارة فرنسا بفقد كاتبها العظيم لا تعوض، فهؤلاء الذين يتفوقون في علمهم أو فنهم بمراحل شاسعة على غيرهم يذرون الناس يتوهمون أن من بعدهم من أبناء فنهم في الدرجة الثانية، والواقع أنهم إن كانوا في الدرجة الثانية بالنسبة للنابغة العظيم فهم من الصف الأول في الدرجة الأولى بالقياس إلى أرباب فنهم عامة، ولولا النابغة العظيم الذي خلفهم وراءه بمراحل لاعترف الكل بأنهم في الدرجة الأولى، وأنهم ممتازون فيها.
وهذه جناية النوابغ من الرجال، وهي كذلك جناية المدن البارعة الجمال على وطنها كله، فأنت حين تذكر فرنسا تبرز باريس أمام تصورك، ولا تكاد تتصور من فرنسا غير باريس، وتكاد تحسب أن جمال فرنسا كله اختصت به باريس، والحق أن باريس هي الكوكب الدري المتألق في تاج فرنسا، لكن ذلك لا يغض من جمال فرنسا كلها، ولا يغص من جمال بغض أرجائها جمالًا ممتازًا بروعة طبيعته أو إبداع فنه، أو جلال تاريخه، وغاية الأمر أن الشمس تاريخه، وغاية الأمر أن الشمس تحجب القمر، وأن ملكة الجمال تحجب من دونها من ذوات الجمال البارع، وأن باريس تنسيك جمال فرنسا فتتخيل أن هذا الجمال تركز كله في عاصمتها البارعة الجمال.
وإني إن نيسيت فلن أنسى يوم نزولي فرنسا لأول مرة، وسفري من مارسيليا بقطار الليل إلى باريس، كان الظلام مخيمًا على كل ما حولنا، وكان القطار ينهب الأرض إلى غايته، ونحن نحاول النوم فلا نكاد تظفر منه بطائل، وهزتني رجة القطار مرة من غفوتي خيل إليَّ أن ضوء النهار بدأ يتسرب من خلال النافذة التي تجاورني، فأزحت ستارها فصدق النهار الوليد ظني، لم تكن الشمس قد بزغت بعدُ، لكن إسفار الصبح أتاح لي أن أرى ما حجبه الليل، ما هذا، إنه شيء لم ألف مثله في مصر، إن الأرض لترتفع من حولنا وتنخفض بما عليها من زرع لا أدري ما هو، ويتابع ارتفاعها انخفاضها حتى تفنى دون الأفق، وها نحن نخترق نفقًا يعلونا الجبل من فوقه فتعود الظلمة إلينا وكأنما غلب الليل النهار من جديد، ونتخطى النفق إلى منظر يختلف جد الاختلاف عن المنظر الذي رأينا قبل النفق، فيزيدني ذلك يقظة ويطرد عني كل معنى من معاني السأم والملال، وكذلك بقيت حتى بلغت باريس، فلما حدثت بعض أصدقائي المصريين الذين سبقوني سنوات إلى فرنسا، قال لي أحدهم: وماذا رأيت، إن الطريق من مرسيليا إلى باريس أقل طرق فرنسا جمالًا، ولو أنك ذهبت إلى أواسط فرنسا، أو إلى شرقها أو إلى جنوبها، أو إلى الريفيرا، إذن لعبدت الجمال، ولما كان من تتحدث عنه الساعة غير وهم من جمال.
وصدق صاحبي، لقد ذهبت في أوائل الربيع من سنة ١٩١٠ إلى الريفيرا مارًّا بأرل ونيم ومونبلييه وبشاطئ البحر الأبيض من مرسيليا إلى مونت كارلو، وفي هذه الرحلة القصيرة الطويلة كنت أنتقل من روعة إلى روعة، ومن جمال إلى جمال، ولم يكن جمال الطبيعة وحده هو الذي يمسك بالنظر، بل كان جمال الفن في بعض متاحف المدن الصغيرة أشد لفتًا للنظر وامساكًا به، أذكر الآن، وقد مضى على ذلك العهد خمس وأربعون سنة يومًا كنت فيه بمتحف في إحدى هذه المدن الصغير؛ فاستوقفتني صورة عذراء أمامها مستتيب، ما أبدع صورة العذارء في طهرها وبراءة نظرتها، وما أروع هذا المستتيب الذي يستغفر لذنبه، فيُرى في براءة نظرة العذراء ما يدل على أنها لا تعرف له خطيئة، لقد بقيت أحدق بهذه الصورة ساعة أو أكثر من ساعة لا أدري، بقيت أحدق بها حتى جاء حارس المتحف ينبهني إلى أن المتحف موشك أن يقفل أبوابه، ويطلب إليَّ أن أغادره، لقد ارتسمت هذه الصورة البارعة في أعماق نفسي فلم أنسها قط ولن أنساها.
وكما يحدثك الفن في المتاحف بجمال لا يقل روعة عما تحدثك به الطبيعة في إبداعها، كذلك يحدثك التاريخ في أرل، وفي نيم، وفي غيرهما من المدن حديثًا ممتعًا قل نظيره في غير فرنسا، فلما ذهبت إلى الريفيرا الفرنسية حيث يلتقي البحر والجبل فتقوم على سفح الجبال البلاد المطلة على موج البحر، ومن بينها نيس، وكان، وموناكو، رأيت لونًا جديدًا من جمال الطبيعة يبهر اللب، فزرقة البحر الأبيض المتوسط بديعة حقًّا، وتعاريج شوائطه وقيام الجبال حول هذه التعاريج، والتقاء هواء البحر وهواء الجبل، كل ذلك يبعث إلى صدرك وإلى حواسك وإلى شعورك انتعاشًا يضاعف قيمة الحياة عندك، ويزيدك حبًّا لها ومتاعًا بها.
وبعد عام من زيارتي هذه المناطق زرت وسط فرنسا فرأيت في قصور اللوار تاريخًا، وفي خصب هذه المنطلقة حديثًا غير حديث الريفيرا، وغير تاريخ أرل ونيم، كما رأيت في رحلة أخرى منطقة كليرمنت فيران روايا، فأما الألب الفرنسية في منطقة السافوا العليا فيما حول أنسي فهي الشعر الناطق بأغاريد الطبيعة في أحلى ألحانها، وأكثرها امتاعًا للنظر والقلب والجوانح.
لن يستطيع حديث قصير كهذا الحديث أن يرسم صورة مهما تكن موجزة من جمال فرنسا، ولست أزعم من ذلك أنني زرت فرنسا كلها، أو أنني زرت معظمها، وغاية ما أقول: إنني زرت الكثير من جوانبها الجميلة، وقرأت الكثير كذلك عن جوانبها الأخرى، وشعرت أن الطبيعة قد حبت هذه البلاد، بل حابتها بما أسبغت عليها من جمال وبهاء، وأن الإنسان عاون الطبيعة وهذبها فزاد هذا الجمال رقة وروعة، وحببه إلى نفوس الذين يزورونه جميعًا.
مع هذا جنت باريس على هذا الجمال؛ لأنها جمعت في متاحفها أكثر مما جمعت متاحف فرنسا كلها، وجمعت في ضواحيها وغابات هذه الضواحي بدعا من الطبيعة إن لم يغلب جمال السافوا أو الريفيرا فله مع ذلك طابعه الخاص به، وجعلت من نهرها تحفة فنية ليست لنهر غيره من أنهار فرنسا روعتها؛ لأن الفرنسيين وهبوها من محبتهم ومن جمالهم ومن رقتهم وظرفهم ما جعلها محببة إلى كل قلب يحب الجمال، وإلى كل عقل يحب العلم والتفكير.
أنا أعلم أن بعضهم يتهمني بالمبالغة في محبة باريس، فإن يكن ذلك حقًّا فالذنب فيه ليس ذنبي، ولكنه ذنب باريس، أتراك إذا أحببت قطعة بارعة من الموسيقى، أو مسرحية رائعة، أو قصة أدبية جميلة، أتكون ملومًا في حبك هذا؟ وباريس قد جمعت كل ما عرفه الإنسان من جمال ومن علم ومن فن، وجمعت من هذا الجمال أبدعه وأبهاه، فليعذرني اللائمون وليلوموا باريس أو فليحبوها كما أحبها.