في باريس مع أولادى
أينا الملوم: أنا أم باريس أم أن لا لوم على أينا، وأن الظروف كانت أقوي منا كلينا وأن هذه الظروف جعلتني أضيق ذرعًا بباريس وإن سعدت بالأيام القليلة التي أقمتها بها؛ لأني كنت في خير جماعة وأحبها إلى قلبي، مهما يكن من شيء فقد كدت أضيق ذرعًا بباريس رغم حبي إياها؛ لأنها حوت خير الذكريات من أيام شبابي، ولأنها كانت لي نعم العون في محنة أصباني القدر بها، ثم عوضني الله عنها خير العوض.
كدت أضيق ذرعًا بباريس؛ لأنها لقيتني حين نزلتها بجو مكفهر ومطر هتون، ولأنها أنذرتني أول ليالي بها ببرد قارس يجب أن أحتاط له في الليل وفي النهار، ثم لم تمض على ذلك ست وثلاثون ساعة حتى إذا الجو انقلب حارًّا شديد الحرارة، واستمر كذلك إلى أن غادرتها من تسعة أيام من مقامي بها، وكانت مشاهد باريس بالليل تعوض النازل بها عن قيظ نهاره إذا كان قائظًا، لكني نسيت حين نظمت رحلتي أن شهر أغسطس شهر ميت في باريس، تقفل فيه معظم مسارحها ولا يبقى مفتوحًا بها إلا المسارح الصغرى، ومسارح الرقص والغناء التي يهوي إليها السائحون الذين لا يعنون بالمسرح من حيث هو المسرح، بل لقد كانت الأوبرا نفسها مقفلة، وكانت الكوميدي فرانسيز مقفلة، وكان مسرح الأوديون مقفلًا، وكانت المسارح التي تُمثل ما يُصور المزاج الفرنسي والتفكير الفرنسي مقفلة كلها، فإذا أنا ضقت ذرعًا بقيظ النهار، ولم أجد من مسارح باريس ما يُسليني عن هذا القيظ ساعات الليل فمن حقي أن ألوم باريس، وإن كان من حقها كذلك أن تلومني لأنني أنا الذي اخترت أشد شهورها حرارة حتى يفر الفرنسيون منها إلى مصايفهم، وحتى ليقفل الكثير من مطاعمها كما يقفل الكثير من مسارحها أبوابه، وإن بقيت متاجرها جميعًا مفتوحة للسائحين.
وزادني غيظًا من باريس أنني قررت أن أذهب آخر ليلة لي بها لأشهد مسرحية للكاتب الإسكندنافي الكبير (إبسن) في مسرح من مسارح حي مونبارناس مقتنعًا بأنني سأجد في مشاهدتها من الغبطة ما يعوضني عما فاتني من مشاهدة المسارح الكبرى، فإبسن كاتب مبدع عميق التفكير حسن العرض إلى غير حد، فلما سألت في ذلك اليوم أريد أن أحجز الأماكن التي نذهب إليها، قيل: إن المسرح معطل لا يعمل يوم الأحد، واعتضت عن هذه المسرحية بمسرحية أخرى، فإذا هي في نظري أدنى إلى التهريج، وإن صفق شهودها من الفرنسيين تصفيقًا حادًّا لمواضع كثيرة منها، مما جعلني أحزن؛ لأنني لا أعرف العامية الفرنسية، ولو أنني عرفتها لطربت طرب القوم ولصفقت تصفيقهم.
ولقد شهدت خلال الأيام التسعة التي أقمتها بباريس أربع مسرحيات أعجبت بإحداها غاية الإعجاب، لم تكن المسرحية تصور فكرة، بل لعلها لم تكن مسرحية بالمعنى المفهوم في المسارح ذات الصبغة الجدية، بل كانت عرضًا فيه الموسيقى وفيه رقص وفيه غناء، لكن هذا العرض كان بارعًا كل البراعة، وكانت الملابس فيه متقنة رشيقة، وكانت الأصوات حلوة تلذ الأذن حقًّا، وقد تجلت أمامي روح باريس في هذا العرض البارع، تجلى فيه الذوق الفني كأحسن ما يمكن أن يتجلى، هذا على أنني لست من هواة الاستعراض المسرحي، أما وقد أعجبتني هذه المسرحية إلى هذا الحد فيُخيل إليَّ أنها كانت من خير ما يُعرض في باريس.
على أن ما فاتني من مشاهدة مسارح باريس قد وجدت عنه خير العوض بزيارة بعض ضواحيها القريبة، وقد زرت في خير رفقة ضاحية روبنسون، وكان أحد زملائنا في هذه الرفقة ممن درسوا الفنون الجميلة بباريس بعد أن أتموا دراسة العمارة بمصر، وكان قد أقام في روبنسون عدة أشهر أول مجيئه طالبًا إلى باريس، وكم سرني حرصه على أن يجد البيت الذي كان يُقيم به إذ ذاك، وكم ابتسمت حين رأيته يقف عند بيت يتردد أكان ذلك هو البيت الذي أقام به في ذلك العهد، منذ أكثر من ثلاثين سنة، وعجبت كيف تهوي نفوسنا إلى منازل شبابنا، وكيف نحرص الحين بعد الحين على أن نقف أمامه وأن نطيل النظر إليه، نحن لا نرضى أن نقيم اليوم في هذه المنازل، ونراها غير كفيلة بطمأنينتنا وراحتنا، لكننا مع ذلك نشعر حين نقف أمامها بمعنى من معاني القدسية لعل مرجعه ما وصلنا إليه من خير أو شر.
ولم أحاول حين زرت «سان كلو» أن أبحث عن البنسيون الذي أقمت به فيها عدة أشهر من حياتي طالبًا بباريس؛ هربًا من ضجة باريس ومتاعبها، لكنني وقفت أمام البيت الذي كنت أقيم به في الحي اللاتيني وأطلت النظر إليه، وحييته اعترافًا بما له عليَّ من فضل، ابتسم كلما ذكرته مغتبطًا به راضيًّا عنه.
فقد حببت إليَّ رفقتني في هذا البيت دراسة اللغة الفرنسية؛ لأن زملائي به لم يكونوا يزيدون على اثنين مع صاحبة البنسيون، أما أحدهما فكان أستاذًا للأدب الفرنسي في إحدى المدارس الثانوية، وأما الآخر فكان شابًّا من أسرة فرنسية كريمة في شمال فرنسا يدرس الحقوق بباريس، وكان أستاذ الليسيه يختار لي الكتب التي أقرؤها فكان اختياره هذا خير عون لي على معرفة هذه اللغة ومعرفة آدابها إلى حد كبير، ولي في هذا البيت قصة طريفة، كنا في الأيام الأخيرة من السنة الدراسية، وكان الامتحان شفويًّا، وكان الطالب يختار إحدى فترتين لامتحانه، وفاتني أن اختار الفترة الثانية لأتم استذكار المواد التي سأمتحن فيها، وأنني لمجد في مذاكرتي؛ إذ جاءني إعلام من كلية الحقوق بتحديد يوم لامتحاني في الفترة الأولى، هنالك أسقط في يدي، فلو أنني تقدمت في هذه الفترة الأولى لكان حظي من النجاح قليلًا جدًّا، ماذا أصنع؟ ذهبت إلى الكلية وشكوت أمري، فقيل لي: إن غاية ما يستطيعون أن يؤجلوا امتحاني لنوفمبر، إذن تضيع عليَّ إجازة الصيف، وكنت معتزمًا أن أزور خلالها إنجلترا وسويسرا، عند ذلك استشرت أستاذ الآداب الفرنسية، فقال لي: إن طبيبهم يستطيع أن يمنحني شهادة بأنني كنت مريضًا فلم أتمكن من الاستذكار، وإن تأجيل امتحاني إلى ما بعد الصيف يضيع عليَّ فترة الراحة التي تكفل شفائي، وأشار عليَّ بأن أرفق هذه الشهادة بخطاب لوكيل المعارف ألتمس فيه أن تُقدم الكلية امتحاني للفترة الثانية، أي في شهر يوليو إلى منتصف يوليو، وفعلت، أعطاني الطبيب الشهادة التي طلبتها وأرفقتها بطلب للوزير، ثم لم تمض على ذلك ثمانية أيام حتى إذا كلية الحقوق تبعث إليَّ بأن امتحاني تحدد موعده في الأيام الأخيرة من شهر يونيو، واغتبطت لذلك أشد الاغتباط وأديت الامتحان في موعده وأبرقت لوالدي بنجاحي.
ألا تستحق هذه الأمور وأمثالها أن يقف الإنسان أمام هذه المنازل يحييها، بل ألا تستحق أن يعود الإنسان في كهولته للمقام بها ذكرًا لأيام الشباب، أقول هذا فأذكر فندقًا أمام السوربون أقمت به شهورًا أيام الدراسة، فلما عدت بعد ذلك بعشرين سنة أو نحوها إلى باريس وكان المرحوم شوقي بك أمير الشعراء فيها أردت زيارته؛ فعلمت أنه ينزل بهذا الفندق الذي كنت أنزل فيه أيام مجاورتي السوربون طالبًا، قلت يومئذ فيما بيني وبين نفسي: هذه روح الشاعر، إنه يريد أن ينزل حي الشباب، في فندق الشباب، ليوحي إليه هذا الشباب معاني لا توحيها أحياء السائحين الذين يلتمسون الراحة والنعمة، والتي لا يعرفها الشباب ولا تعرف هي الشباب.
والحق أننا نحن المخطئون وأن شوقي قد كان على حق؛ إذ ينزل الحي اللاتيني على الشاطئ الأيسر لنهر الصين، وحين ينزل على مقربة من السوربون ومن كليات جامعة باريس ومن الكوليج دي فرانسن، فهذا الشاطئ الأيسر يحتوي تاريخ باريس من أقدم عهودها، فيحتوي إلى جانب ذلك حياة العقل والقلب والروح في باريس قديمًا وحديثًا، فعلى مقربة من هذا الفندق الذي كان ينزل به أمير الشعراء، بل إلى جواره تترامى صفوف من المكتبات تجد فيها كل ما تطمع أن تقف عليه من فن وعلم وأدب، وهناك تقع حديقة اللوكسمبورج الجميلة بنظامها وحسن تنسيقها، الجميلة أكثر من ذلك بزوارها من الشباب ومن الأطفال ومن الأمهات الحاديات على فلذات أكبادهن، وأنت لا تجد في هذا الحي من المتاجر ما تجده على شاطئ الصين الأيمن، بل تجد به المدارس والمعاهدت والكليات يجاور بعضها بعضًا، وتتحدث كلها عن الثقافة الفرنسية، وعن التفكير الفرنسي، وعن الفن الفرنسي، وعن كل ما جعل لفرنسا في أعز أيامها مكانتها وسلطاتها، وأنت ترى به من المتاحف أكثر مما ترى على الشاطئ الأيمن، وأنت ترى في شبابه فورة الروح والفكر تطلعا إلى مستقبل أحسن وإلى عالم أفضل، إنه الرأس المفكر من فرنسا كلها، قد يكون رأسًا منكوش الشعر كرأس (أينشتاين)، ولكنه يحتوي ذكاء كذكاء هذا العالم، وفنًا كخير ما أنتج أرباب الفن، وحياة عقلية متوثبة يبدو على وجوه أصحابها الألم؛ لأنهم يريدون أن يحققوا أمالًا كبارًا، وقد تستعصي عليهم هذه الآمال الكبار.
وأشهد لقد استمتعت بهذا الجانب الأيسر من باريس في الأيام القليلة التي قضيتها بها، وإن لم يمنعني هذا المتاع من أن أستمتع كذلك بأجمل ما في الجانب الأيمن، وأجمله عندي هذا الطريق الرائع الممتد من اللوفر عبر التويري إلى ميدان الكونكورد وإلى قوس النصر، فقد عاهدت نفسي أن أقطع هذا الطريق سعيًّا على القدم كلما زرت باريس، وكم سعدت يوم بررت بهذا العهد قبيل مغادرتي باريس؛ لأنني كنت أقطعه في خير صحبة وأحبها إلى نفسي صحبة أبنائي الأعزة البررة.
مع ذلك ضقت ذرعًا بباريس وبقيظها، وزادني غيظًا منها أن كانت الأخبار ترد إليَّ من مصر بأن الصيف بها لطيف بأبنائها، فهل ترى يتغير جو العالم الطبيعي كما يتغير جوه السياسي، فيصبح وطننا العزيز مصيفًا ظريفًا كما أنه مشتى بديع؟
وغادرت باريس وأنا أشد ما أكون تعلقًا بمقامي بها، لكني كنت أشد تعلقًا لشهود المؤتمر البرلماني بهلسنكى، ولذلك طرت إليها في الثاني والعشرين من أغسطس؛ إذ ودعني أبنائي وودعتهم بمحطة الأنفاليد.