تطور الكوميدي فرانسيز
ما أسرع ما تتغير أوروبا في هذه السنوات الأخيرة، لم تمض بعد سنوات ثمانية منذ زرتها للمرة الأخيرة، وهاأنذا مع ذلك أرى فيها من التبدل ما أستعد للتفكير فيه قبل الحكم عليه، أصالح هو أم غير صالح، بلغت باريس صبح السبت الحادي عشر من هذا الشهر — شهر سبتمبر سنة ١٩٣٧ — وحرصت أن أرى الكوميدي فرانسيز في المساء، فليس أحب على نفس في حياة باريس أثناء الصيف من مسارحها، وليس بينها مسرح بلغ من الكمال ما بلغته الكوميدي، وأعجبت بما رأيت يومئذ أيما إعجاب، ثم زرت الكوميدي يوم الاثنين الثالث عشر من سبتمبر، وأعجبت أيضًا، لكن … لكن هذه الكوميدي فرانسيز ليست الكوميدي فرانسيز التي ألفت أيام كانت طالبًا من سنة ١٩٠٩ إلى سنة ١٩١٢، والتي رأيت بعد ذلك في الصيف من السنوات الأربعة المتعاقبة التي زرت فيها باريس بين سنتي ١٩٢٦ و١٩٢٩، كانت الكوميدي صلة الحاضر بالماضي فكان ما يمثل فيها أكثره لمؤلفين يرجعون من عهد لويس الرابع عشر إلى القرن الماضي، وكان ما يمثل فيها لمؤلفين معاصرين لا يمثل فيها إلا بعد أن ينال إعجاب النقاد الفنيين وإعجاب الجمهور على مسارح مختلفة، بعد ذلك يمكن أن تقر الكوميدي فرانسيز تمثيله على مسرحها، وإذا قلت بعد ذلك فأنا أقصد بعد سنين من تمثيله، فلم يكن يكفي رضا النقاد أو إعجاب الجمهور بالرواية أول ظهورها، فكم رواية أعجب الناس بها أول أمرها ثم عرضت للسنة الثانية على المسرح؛ فإذا الجمهور يعرض عنها، وإذا النقاد الذين لم يتكلموا أول الأمر يتناولونها بنقدهم بما يحط من قدرها، وما يحول بينها وبين الوصول إلى هذا المسرح القومي الذي يعتبر عنوانًا من عناوين مجد فرنسا.
كذلك كان شأن الكوميدي كما ألفتها فيما مضى، أما اليوم فقد فتحت الكوميدي أبوابها للألوان الجديدة من روايات المسرح، وهي روايات لها من غير شك قيمتها الفنية السامية في نظر النقد الحديث، وهي تنال من تحبيذ النقاد ومن الجمهور حظًّا عظيما، لكنها قد أحدثت من الانقلاب الثوري في النفس المسرحي ما كانت الكوميدي تتحذ عادة أزمانًا طويلة قبل إقراره، تُرى أي شيء أحدث فيها هذا الانقلاب وقد ترددت في قبوله إلى عهد قريب؟ النقاد والجمهور لا ريب، فقد علت الصيحة بأن المسرح القومي لا بد أن يمثل الذوق القومي كما هو أيًّا ما كان، وليكن مسرح الأديون، وهو المسرح القومي الثاني، هو الحفيظ على تقاليد الماضي بعد أن يصبغها بصبغة الحاضر قدر المستطاع، فمن شاء أن يسمع تمثيل راسين وكورني وموليير وفكتور هوجو فعليه بالأديون، أما الكوميدي فيجب أن تساير العصر وأن تعيش معه، وأن تظهر الناس على خير ما تنتج القرائح الفرنسية، والقرائح العالمية من آثار الفن المسرحي التي يصبو إليها أبناء هذا الجيل.
هل لهذا التطور في الكوميدي فرانسيز دلالة اجتماعية خاصة؟ أود قبل أن أجيب عن هذا السؤال أن أذكر أن موجة الجديد لم يقف أمرها في الكوميدي فرانسيز عند الروايات التي تمثل على مسرحه، بل لقد طفت كذلك على حياته الداخلية، كان بيت موليير — وذلك اسم الكوميدي عند الأدباء الأقدمين — وقورًا في كل مظاهره، حتى مقهاه الذي كان يتناول الناس فيه المرطبات فيما بين الفصول قد كان منزويًّا في ناحية من طابقه الأول قليلة الأنوار يشعر الإنسان؛ إذ يغشاها أنها ليست مكان إقامة طويلة، فكان الناس لذلك يسرعون إلى تناول ما يريدونه منها، ثم يذهبون إلى بهو الطابق الأول، هذا البهو الفخم الجميل الذي يُشعرك عظمة فرنسا المسرحية بالتماثيل المقامة حول جدرانه يتوسطها تمثال فولتير كاملًا جالسًا على مقعده فوق نصب كبير، أما من أراد أن يدخن فقد وجب عليه أن يهبط إلى الطابق الأول، وأن يذهب منه إلى دهليز متصل بالطريق فيه تماثيل عدة كذلك، أحدها تمثل صاحب الدار موليير، أما اليوم فقد نقل المقهي، أو البار إن شئت، فاسم البار أجدر بالمكان الحالي، إلى غرفة فتح لها باب من ذلك البهو الجميل، بهو فولتير، وأضيئت إضاءة قوية تستهوي النظر بذلك لم يبق بهو فولتير هذا البهو المهيب الذي كان مرتاد المتأنقين والمتأنقات، بل صار مجالًا للبار ورواده لذاته، أما التدخين فقد صار مباحًا في الردهة الكبرى من مدخل التياترو، ولم يبق مقصورًا على دهليز موليير.
طبيعي أن لا يُعنَى الناس؛ إذ يذهبون إلى الكوميدي اليوم بتغيير ملابسهم، وهم قد عدلوا عن هذا التقليد الذي كان متبعًا قبل الحرب وبعد أن انتهت، وبعد أن جعلت الأزمة الاقتصادية الناس أدنى إلى عدم التدقيق في أمر الملابس واختيار النفيس منها لهذه الحفلات، لكن الأزمة الاقتصادية زال بأسها فكان حَرِيًّا أن يعود الناس إلى نظامهم الأول لولا أن كان التطور الاجتماعي وتطور التفكير أقوى من الأزمة الاقتصادية، فهم يدفعون اليوم أسعارًا عالية للدخول إلى بيت موليير، وهم يزحمونه كل يوم فما تجد به مقعدًا خاليًّا بعد بدء التمثيل بدقيقة أو دقائق، لكن التطور الاجتماعي بقي على عدم العناية بتغيير اللباس والتردي فيما وراء ذلك إلى تقاليد البقاء في المقهى والتدخين، ثم تناول هذا التجديد المسرحيات المعروضة على النظارة.
وملاحظة أخرى أبديها قبل الكلام عن الدلالة الاجتماعية لهذا التطور، كان بيت موليير شديد الحرص على أن لا يمثل من المسرحيات إلا ما اتفق في صفاء اللغة مع (الكلاسيك)، وكان يري نبوًّا على تقاليده أن تُمثل فيه رواية تنزل إلى لغة الحديث الدارج، لذلك كان لممثليه من الشهرة في جمال الإلقاء ما يجعل هذه اللغة الفرنسية التي صقلت على الزمان فصفاها من كل شائشبة وكأنها الموسيقى، وكان الممثلون يقفون ولا يتكلمون، وهم إنما يتكلمونها كما يجب أن يتكلم بالفرنسية أبناؤها المهذبون، لذلك لم يكن تزيين المسرح في الكوميدي فرانسيز بالأمر الجوهري إلى الحد الذي يوقف النظر ويبهره، وكان الناس إذا تحدثوا عن سلفان أو مدام بارتيه أو ألبير لامبير وغيرهم من ممثلات الكوميدي وممثليها؛ تحدثوا عن قواعد الإبداع في الإلقاء والدقة في التعبير عن العواطف الإنسانية والتفكير الإنساني، أكثر مما يتحدثون عن دقة الموافقة للطبيعة وللبيئة المحيطة بأهل العصر، أما اليوم فقد أصبح تزيين المسرح والإبداع فيه أمرًا جوهريًّا في الكوميدي حتى لقد بزت فيه أحدث المسارح، وأصبحت الدقة في موافقة الواقع حولنا أمرًا جوهريًّا إلى حيث لا يصل جمال اللغة ولا السمو في التعبير عن الإحساس والعواطف، صار الإنسان ثمرة بيئة وصار المسرح في بيت موليير يُعنَى بتمثيل البيئة وأثرها في الإنسان، ويُعنَى بتصوير الإنسان كما تثمره هذه البيئة دون تقدير لما وراء ذلك من أمر اللغة وصفائها وجمال رنينها، لم يبق رجل الصحراء يعبر عن حياته بلغة فرنسية جميلة يصف بها وصفًا شعريًّا ما يلاقي في الصحراء، بل صار ابن الصحراء بالفعل، يتكلم كما يتكلم أبناء الصحراء، وتحيط به بيئة صحراوية بالغ مزين المسرح في إتقانها، بذلك جارى بيت موليير حياة هذا العصر، وخرج من ثم على تقاليده.
دلالة هذا التطور عندي أن ثورة الحاضر بالماضي بلغت في هذا العهد الأخير من القوة أن طأطأ الماضي هامته للحاضر تاركًا المكان له، مكتفيًا بأن يبقى في ركن من أركان باريس، هو ركن الأديون، متحفًا يراه الناس فيه مصورًا لا كما كان، ولكن كما يفهمه أهل هذا الجيل، ولا عجب في أن ينتصر الحاضر في عصرنا على الماضي، وأن يسلبه أقداسه، فقد أسرع التطور في حياة العالم منذ بدأت الحرب الكبرى في سنة ١٩١٤ إلى وقتنا الحاضر حتى لا يبالغ من يقول: إن العالم خطا في هذه السنوات العشرين التي مرت منذ الحرب أكثر مما خطا في بضعة قرون في أي عهد من عهوده، عبر بتيريو المانش في سنة ١٩٠٩ على طائرته فكان عبوره المانش على الطيارة يومئذ أعجوبة الأعاجيب، ومجازفة المجازفات، وكنا نسمع الفوتوغراف في ذلك العهد على أسطوانات قلما تبين إلا إذا وضع الإنسان السماعة في صمام أذنه، وكان الحديث في أمر التليفون اللاسلكي، بل الراديو خرافة يتسلى بها الناس لقضاء الوقت حين لا يكون لديهم ما يعملونه، وكانت القيم الخلقية مقررة على صورة لا تحتمل الجدل، وها نحن أولاء في عشرين سنة نذكر ماضينا، فإذا قصصنا ذلك على أبنائنا خيل إليهم أننا نحدثهم عن أساطير الماضي، أو يدور بخلد أحد من هؤلاء الأبناء أن باريس ولندن كانتا قبل سنة ١٩١٤ لا تعرفان السيارات إلا مظهرًا من مظاهر الفخامة والعظمة، وأن عربات الخيل هي التي كانت تتولى النقل لمن أراد أن يتخذ مطية للسير غير قدميه، أو يصدق أحدهم أن الراديو والتليفون اللاسلكي وهذه الألوان البديعة العجيبة من الإضاءة الكهربائية لم تكن معروفة أول صبانا، وهذا مع ذاك هو الواقع، ونحن مضطرون للانحناء أمامه ولإقرار سلطانه، ونحن لا نسلم له أنه فكرة تسلطت وفي المقدور التغلب عليها للعود إلى فكرة سبقتها وإن اقتضى ذلك أجيالًا، بل نسلم به على أنه الأمر الملموس الذي لا يغلبه إلا أمر ملموس مثله يكون أعظم منه أو أبعد في الحياة أثرًا، أما وقد انتقلنا على الأجيال بهذه السرعة التي تتضاءل سرعة البرق أمامها؛ فلن يستطيع بيت موليير أن يحتفظ بعرفان ماضيه أو يزعم أنه يستطيع أن يسقط بهذا الوفاء على الحاضر السريع المدد والتغير، والمندفع إلى هذه الحياة الجديدة اندفاع الطفل إلى لعبة استهوته فهو يستهين بكل شيء في سييلها.
يقول الشيوخ؛ إذ يرون هذا كله، ويرون سلطان الماضي الذي ألفوا يذوي وينزوي، ولكن! أنحن بهذا التطور أسعد حالًا؟! ولعل أجدادهم الذين سبقوهم إلى العالم الآخر يبتسمون هم الآخرون حين يسمعون هذا السؤال، فهم قد سألوا مثله، وتحدثوا كما نتحدث نحن عن السعادة ثم عرفوا آخر الأمر أن السعادة ليست غايتنا من هذه الحياة، وإنما غايتنا منها أن نتعرف نعم المعرفة، العلم، هذه هي الغاية إليها يسعي الطفل، والصبي، والشاب، والرجل، في سبيلها نحتمل كل شيء ونضحي بكل شئ، وأوفرنا منها حظًّا أرفعنا في الإنسانية درجة، ولا ريب أن هذا التطور الحديث فيه من معرفة العالم شيء لم يكن معروفًا من قبل، وهو من هذه الناحية دون سواها يدل حقيقة على مظهر يفرح له كل محب لهذه الإنسانية.
من شأن كل تطور أن يقف يوم يبلغ مداه، ويومئذ يبدأ التفكير في تنظيمه والطمأنينة إليه وما يسمعونه السعادة به، عند ذلك تبدأ عيوبه تتضح للناس، وعندئذ يبدأ سلطان الماضي يملأ مقاييس قدره من جديد لنقيس بها عيوب التطور وفضائله، لكني أحسبنا بعيدين عن هذا المدي، وأحسب الكوميدي فرانسيز لا تزال لذلك تمثل التطور الحديث في صلته بالماضي وغلبته إياه، فإذا جاء الوقت الذي يبدأ فيه النقد والتقدير خطت الكوميدي خطوة غير خطوتها الحاضرة، ماذا عسى أن يكون اتجاهها يومئذ؟ هل تعرض موليير وراسين مرة أخرى؟ أيندرس عصر راسين ويبقي أثرًا شأنه شأن عصر الرومان وعصر اليونان وعصر الفراعنة الذي سبق هؤلاء وأولئك، علم ذلك عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.