برج بابل
أدى بي جهلي اللغة الفنلندية إلى أن حبست نفسي في غرفتي بقية يوم الثلاثاء أقرأ تقرير السكرتير العام للاتحاد البرلماني الدولي، فلما أصبحت يوم الأربعاء لم يكن لي بد من الاستعانة برجال الفندق؛ ليدلوني على البرلمان حيث ينعقد المؤتمر، وعلى البنك الذي حولت إليه نقوي، فالجنيهات الإنجليزية القليلة التي معي قد تكفيني ثلاثة أيام أو أربعة، وبخاصة لأنني لا أدفع أجر الفندق إلا عند سفري من هلسنكى، ودلني أحد رجال الفندق مشكورًا على بناء البرلمان، وسألته عن البناء الضخم الآخر الذي دخلته أمس فإذا هو محطة سكة الحديد.
والبرلمان قريب من الفندق، لذلك اتجهت نحوه وسرعان ما تيقنته؛ إذ رأيت أعلام الدول المشتركة في المؤتمر ترفرف أمامه، ودخلت وسألت عما عندهم بأسمي، فأعطوني حافظة بها أوراق المؤتمر، وخطابًا مرسلًا إليَّ من مصر.
ولم ألبث وأنا أدور في هذا البهو الفسيح أن التقيت بأشخاص أعرفهم، وأن تقدم إلى أشخاص حيوني بالعربية، أما الأولون فهم من وفود أوروبية مختلفة، وأما الآخرون فهم من أبناء الدول العربية، وبينهم أبناء السودان الذي اشترك بستة من أعضاء برلمانه في هذا المؤتمر، عند ذلك شعرت بأن نطاق العزلة الذي كان مضروبًا حولي أمس تحطم، وبأنني أستطيع، وأنا المصري الوحيد في هذه المدينة، أن أعتمد على صداقات آنس إليها، واطمئن إلى قدرتها على معاونتي فيما أريد أن ألتمس عندها المعاونة فيه، لكني ألفيت هذا البهو وكأنه برج بابل، فأنت تسمع فيه لغات عن يمينك ويسارك ومن أمامك ومن خلفك لا اتصال بينها على الإطلاق: مخارج ألفاظها مختلفة، ونغماتها مختلفة، وطرق التعبير بها مختلفة، وكل شيء فيها مختلف أشد الاختلاف، أنت تسمع الروسية، والألمانية، والإنجليزية والأمريكية، والإيطالية، وما شئت من لغات قد تجيدها وقد لا تجيدها، لكن هؤلاء جميعًا برلمانيون وأكثرهم يعرف الإنجليزية أو الفرنسية، وإن بقي معظمهم لا يتحدث إلا لغة بلاده.
جمعتني المصادفة ببعض إخوان من بلادنا العربية يتحدثون إلى نائب روسي لا يعرف غير الروسية، وتترجم بينهم وبينه سيدة روسية تعرف الإنجليزية بمقدار، وشاركت معهم في الحديث وجعلت السيدة تترجم ما أقول، ولم يكن هذا النائب الروسي، يقول شيئًا ذا بال، ولم يكن أينا يتحدث في السياسة العالمية، بل كنا نتحدث عن فنلندا وظرف أهلها لولا جهلهم كل اللغات الأجنبية إلا الأقلية منهم، وكل الذي عُني به إخواننا أن يسألوا النائب الروسي متي يفتح الستار الحديدي أبوابه للأجانب كي يزوروا روسيا، وكان جوابه أن روسيا تفكر الآن تفكيرًا جديًّا في أن تكون بلادًا سياحية، وأنها تتصل بالعواصم الكبرى لهذا الغرض؛ لأنها تُريد أن تتصل بالعالم، وأن يتصل بها العالم؛ ليكون هذا الاتصال وسيلة للتعايش السلمي بين الشعوب.
وبعد أن انصرف هذا النائب الروسي قال أحد إخواننا العرب في ابتسامة: أفلح عن صدق.