في البلطيق حول هلسنكى
في العالم عجائب يقال: إنها سبع، وفي مقدمتها الأهرام وأبو الهول، وهذه من صنع الإنسان، وفي العالم كذلك عجائب من خلق الله جلّ شأنه، وهي لا تعد ولا تحصي، ومن هذه العجائب ظهور الشمس في منتصف الليل، والبلاد الشمالية هي التي تبدو فيها هذه الظاهرة العجيبة، كما تبدو كذلك في البلاد الجنوبية وفي شمال فنلندا بلاد ترى الشمس في منتصف الليل أول أيام الصيف، وأحسبها لا ترى الشمس أبدًا أول أيام الشتاء.
وليست هذه هي العجيبة الوحيدة في فنلندا، فهي بلاد صغيرة لا يبلغ سكانها أربعة ملايين، ومع ذلك تذكر الإعلانات السياحية التي تنشرها أن بها ستين ألف بحيرة، ولم يسعدني الحظ بأن أتجول في داخل البلاد لأرى هذه الألوف المؤلفة من البحيرات، ولأرى الغابات الكثيفة التي تكتنفها، ففنلندا بلاد الغابات، ولذا تصنع من أخشابها الورق، وتصدره إلى أنحاء العالم، لكن الحظ أسعدني فشهدت منظرًا آخر عجبًا، فكما أن بفنلندا ستين ألف بحيرة، ففيها كذلك، فيما يقول أهلها، ستون ألف جزيرة منتشرة على شواطئها، وقد نظمت الشعبة البرلمانية الفنلدنية فيما نظمت سياحة بحرية على ظهر باخرة تكبر بواخرنا النيلية الكبيرة؛ ليرى أعضاء المؤتمر البرلماني ومرافقوهم ما ينتشر في البلطيق حول هلسنكى من الجزر التي يتعذر عدها لكثرتها.
وليست هذه الرحلة البحرية أبدع ما نظمت الشعبة البرلمانية الفنلندية لمسرة أعضاء المؤتمر، بل نظمت مشاهد غيرها سأتكلم عن بعضها من بعدُ، لم يمنعها من ذلك ما ذكره لورد ستانسجيت في حفلة الافتتاح من أن المؤتمر البرلماني ليس منظمة سياحية لمسرة الأعضاء، والشعبة الفنلندية فيما صنعت من ذلك قد سارت على غرار الشعب البرلمانية الأخرى في البلاد المختلفة، فليس طبيعيًّا أن يعمل البرلمانيون نهارهم ثم لا يجدون آخر النهار أو أثناء الليل تسلية تسري عنهم مشقة العمل، وتتيح للذين لا يعملون منهم فرصة تشغلهم فلا يضيقون بالفراغ الذي يحيط بهم.
وكانت الرحلة البحرية لمشاهدة الجزر المحيطة بفنلندا ممتعة حقًّا، استمرت من الساعة الثانية بعد الظهر إلى ما بعد الساعة السادسة، وقد شاهدنا فيها من الجزر ما تعذر إحصاؤه كما سبق القول، وسألت بعض الفنلنديين أمسكونة هذه الجزر؟ … فقالوا: إن بعضها القريب من هلسنكى به مصايف لذوي اليسار، وإن البعض الآخر به منازل أو أكواخ إن شئت للصيادين الذين يلتمسون رزقهم فيما يستكن في جوف البحر من الأسماك المختلفة.
وكانت بعض الأحاديث التي دارت أثناء هذه الرحلة البحرية ظريفة ممتعة، جمعتني مائدة الغداء بالباخرة بأحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي وكانت معه زوجته، وبوزير الدفاع في وزارة العمال البريطانية، وقد تحدثا في شئون مختلفة منها أن البرلماني البريطاني ذكر للشيخ الأمريكي أن الذين يحضرون المؤتمرات البرلمانية من الأمريكان أسعد حظًّا ممن يحضرونها من البريطانيين؛ لأن البرلمان الأمريكي يدفع نفقات الزوجة التي تسافر مع زوجها، وأجابه الشيخ الأمريكي، كلا يا سيدي، صحيح أننا نحضر على طائرة أمريكية ولا ندفع أجرًا عن سفرنا عليها، وأن زوجاتنا لا يدفعن أجرًا إذا حضرن معنا؛ لأن الطائرة تتناول أجرها من خزانة الدولة إن لم تكن مملوكة لها، لكننا ندفع نفقات الفندق لهن كما ندفعها لأنفسنا، وهن يعاونّ أزواجهن على الأقل في غسل الملابس، والتفت إلى زوجته فابتسمت وقالت: هذا إن لم يحضر الزوج، ولم تحضر الزوجة ملابس تكفي الرحلة كلها من غير حاجة إلى غسلها.
ولما تتابعت ساعات الرحلة وزادت على الثلاث صعدت إلى صالون الباخرة، فألفيت إخواننا البرلمانيين العرب والسودانيين مجتمعين به، وقد بدءوا يضيقون ذرعًا بتشابه ما يرون من ماء وسماء وجزر، فلما أرست الباخرة من جديد بهلسنكى أسرع أعضاء المؤتمر إلى البرلمان يتمون أعمال اليوم، لكن هواء البحر مال بالكثيرين منهم إلى الدعة بل إلى النوم، ولذلك لم يتموا في هذا المساء شيئًا يُذكر.