صور فنلندية
ذكرت أن الشعبة البرلمانية الفنلندية نظمت مشاهد عدة للترويج عن أعضاء المؤتمر، ولم تغرني الدعوات للطعام والشراب يشترك فيها الأعضاء وزوجاتهم، ويشترك فيها عدد كبير من رجال البرلمان الفنلندي وزوجاتهم كذلك، فمثل هذه الحفلات في فنلندا وفي غير فنلندا تكون أشبه شيء ببرج بابل، تتعدد فيها اللغات واللهجات، وأنا بعد المصري الوحيد في هذا المجتمع، فليس يسيرًا أن أقدم نفسي للناس، لكنني كنت حريصًا على أن أشهد الحفلات التي تصور جانبًا من حياة الشعب الفنلندي، أو تصور حياته المعنوية في الفن، والحفلات التي دُعي إليها أعضاء المؤتمر من هذا القبيل هي حفلات الموسيقى والغناء والرقص (الباليه).
وقد شهدت ثلاثًا من هذا الحفلات كانت أولاها لموسيقي فنلندي، وكانت الثانية مقطوعات موسيقية تصاحب الغناء، وكانت الثالثة باليه على أنغام الموسيقى.
أما الحفلة الأولى، حفلة الموسيقى الصرف، فقد عبرت عن الروح الفنلندي تعبيرًا قويًّا غاية القوة، ففنلندا بلاد بحيرات وغابات، وهي تقع في الشمال الأوروبي حيث تكتسي الأرض طول الشتاء بالثلوج، فتكتسي الحياة معها بألوان من الرهبة إن لم يواجهها الإنسان ببأسه وقوته تغلبت عليه وقهرته، لذلك كانت هذه الموسيقى وفيها من العنف ما يصور معاني المقاومة لشدة الطبيعة ولقسوة سلطانها قلما تعبر أنغامها عن هذه النغمة الهادئة المطمئنة للحياة مما تُعبر عنه الموسيقى التركية والموسيقى الشرقية بوجه عام، وقلما تُعبر كذلك عن المعاني (الرومانتيكية) التي تصور الغزل الرقيق والحب المستسلم، بل أنت تراها وهي في روعة تناسقها أحيانا وقد انقلبت دفعة واحدة إلى العنف، وكأنما هي النذير بأن خطبًا يلم أو خطرًا يقترب، كان ذلك شأن المقطوعات الثلاث التي سمعنا في مدرج غير فسيح من مدرجات جامعة هلسنكى، وقد سألت بعض الفنلنديين إن كانت موسيقاهم كلها من هذا الطراز، فابتسم وقال: بل إننا نحب (الرومانتيكية) ونحب سماع الموسيقيين الأوروبيين الذين يعبرون عن معاني الحياة ونعيمها أعمق الحب.
أما الحفلة التي صحبت الموسيقى فيها الغناء فأحيتها ممثلة كانت في الأوبرا ثم تركت عملها؛ لأنها تجاوزت الخمسين وأثرت وأصبحت في غنى عن العمل، فرأت أن تترك المجال لمن هم في حاجة إلى المجد فيه، ولم تكن هذه الحفلة بطبيعة الحال من طراز الحفلة الموسيقية، فليس طبيعيًّا أن تكون السيدة عنيفة ولا قاسية إلا إذا أكرهتها الظروف على العنف أكراهًا وقسرتها عليه قسرًا، لذلك كان فيما سمعنا من الأغاني ما يشجي وما يطرب، وما يهز القلب هزًّا رقيقًا لا عنف فيه، وذلك دليل على أن الطبائع الإنسانية تتشابه وإن اختلفت البيئات الجغرافية، وأن صلة المرأة والرجل في شئون العاطفة وما تدعو إليه من مودة وتجاذب هي في أقصى الشمال مثلها عند خط الاستواء، وفيما بين الشمال وخط الاستواء.
أما حفلة البالية، وكانت خاتمة الحفلات، فقد أثارت حماسة شاهديها، رجالًا ونساء، فصفقوا للراقصات إعجابًا تصفيقًا كان يستمر أحيانا دقائق متوالية.
لم يكفني أن أشهد هذه الحفلات (الرسمية) التي نظمتها الشعبة البرلمانية الفنلندية، بل ذهبت مع إخوان من السوريين، ومع الشباب الفنلندي الذي يجيد الفرنسية إلى منزل أسرة فنلندية ربها مدرس وله ستة أبناء، ثلاثة أولاد وثلاث بنات، وكلهم يتعلمون، بلغ بعضهم الجامعة، وما زال بعضهم في التعليم الابتدائي، ومنزل هذا الأسرة متواضع، لكن أهلها كانوا اللطف والرقة في استقبالنا، وكان أحدهم يعرف الفرنسية وآخر يعرف الإنجليزية، فكانا يجيبانا إلى ما نسألهم عنه.
وفي منزل هذه الأسرة شهدنا ظاهرة يقولون: إنها فنلندية بحتة، تلك ما يسمونه (السونا)، وهي مكان مقفل من كل نواحية يُدفأ تدفئة شديدة يصهر (الطوب الأحمر) داخله، فإذا دخله أحدهم تصبب العرق منه، وهو لا يستحم بعد ذلك كالشأن في الحمام التركي، بل يدلك نفسه بنوع من الشعب، ثم يخرج مطمئنًا بأن جسمه قد برأ من الرطوبة التي يدفعها إليه برد الشتاء.
وفي فنلندا غير ذلك من المشاهد الشيء الكثير، ولعلي أكتب عما تركته هذه البلاد في نفسي من أثر، وما ارتسم لها في ذهني من صورة، إذا أنا قدرت أنني أستطيع أن أنقل هذه الصورة، وهذا الأثر إلى نفس القراء.