الملاك الأسود
منذ سنتين أو نحوهما تحدثت عن قصة «سنوحا المصري» للكاتب الفنلندي الكبير «ميكا فالتري»، وقد نقلت هذه القصة إلى العربية، وكانت موضع التقدير لدقتها التاريخية في كثير من الأمور، فهي تروي حديث العقائد السائدة في مصر وفي الشرق الأوسط منذ ثلاثة آلاف سنة أو تزيد، وهي تتحدث عن عبادة آمون وآتون في مصر، وتقص ما أصاب الملك أخناتون وما كان بينه وبين كهنة آمون من نزاع انتهى بموته، وبانتصار كهنة آمون، هذا القصص مستمد من التاريخ، مبسط لقرائه تبسيطًا يجعل هذا الموضوع في متناول القراء من مختلف الأوساط.
وأتحدث اليوم عن قصة أخرى لميكا فالتري، تلك «قصة الملاك الأسود»، وهي تتفق مع قصة سنوحا في أن موضوعها تاريخي، وأنه يتحدث عن الشرق، وتختلف عنها في طريقة التصوير وفي السياق، فهذه القصة الثانية تتحدث عن فتح القسطنطينية، لكنها لا تتعدي القسطينطينية في أكثر من حديثها عن الخلافات المذهبية بين أهلها وأهل روما، وما كان لهذه الخلافات من أثر في الدفاع عن العاصمة البيزنطية.
وتختلف هذه القصة كذلك عن سنوحا في سياقها، فهي مصورة في صورة يوميات يكتبها بطلها «حنا الملاك» عن حصار الأتراك المسلمين هذه العاصمة ودفاع أهلها ودفاع المسيحية عنها، وفي هذه اليوميات يتحدث البطل كذلك عن قصة حبه، ولكنه يتحدث عنها حديثًا متقطعًا يجعلها من عنايته في المحل الثاني، بينما المحل الأول هو لهذا التاريخ الذي عُني به المؤلف عناية خاصة وأبرزه أبرازًا قويًّا.
وقصة سنوحا، وهذه القصة الثانية، تشهدان بأن «ميكا فالتري» يعتمد في هذه المؤلفات على مكتبته، ويوجه كل عنايته إلى الأسانيد والوثائق المختلفة التي تتحدث عن الموضوع الذي يُؤرخ له، فأما القصة، فأما حديث الحب أو الزواج وما يجعله القصاصون أساس قصصهم عن عواطف الرجال والنساء فذلك ما يعيره الكاتب الفنلندي عناية طارئة، وإن أسبغ عليه مع ذلك من فنه قوة تدعو القارئ لالتماس حديثه في تضاعيف القصة التي يقرأ وتمتعه بها خير متاع.
وقصة الملاك الأسود عجيبة فيما يتصل بعلاقة «حنا الملاك» بمحبوبته أنا نوتاراس، فهذان رجل وامرأة لا يعرف أيهما صاحبه، ثم يلتقيان مصادفة في كنيسة، فإذا كل منهما يقع من قلب الآخر ويمس شغافه، وإذا «حنا الملاك» يُفكر في هذه التي رأى، والتي لا يعرف، تفكيرًا يدعوه إلى التماس الوسيلة للقائها من جديد، ولا شبهة في أن فتنة جمالها كانت قوية الأثر في هذه العاطفة التي ملكت قلب ذلك الرجل رغم أنه تخطى حدود الشباب، لكن الفتاة تشعر هي الأخرى بدافع قوي يُحركها إلى السعي إليه، وإن لم تكن تعرف من هو، ولم تكن قد رأته إلا تلك المرة الواحدة في ظلال بيت الله.
وأنت تتبين بعد أن تتوغل في قراءة القصة أن هذه الفتاة الفائرة أنا نوتاراس ليست من بنات الشعب، ولا من طبقاته الوسطى، وأنها بنت قائد أسطول القسطنطينية، وأنها كانت عروسا للإمبراطور ثم تزوج غيرها، كما تتبين بعد أن تزداد إيغالًا في القراءة أن حنا الملاك ليس شخصًا عاديًّا، وأنه من أسرة مالكة، وأنه وُلد في فرنسا ثم خاض الحروب في بلاد مختلفة، وانضم إلى الأتراك أثناء حروبهم في المجر، ثم جاء إلى القسطنطينية، ونذر حياته للدفاع عنها ضد الأتراك، فلم ينجه هذا النذر من أن تحوم الشبهات حوله، وأن يظن كثيرون أنه جاسوس للسلطان، أو أنه يستطيع على الأقل أن يكون كذلك أليس عجبًا أن تشب عاطفة حب عارم بين فتاة تلك مكانتها، ورجل تخطى الشباب لا تعرفه ولا يعرفها، ويزيد الأمر عجبًا أن «حنا الملاك» كان متزوجًا امرأة انقطع عنها، وأن الطلاق لم يكن معروفًا في المسيحية، فلم يكن التفكير في ارتباط أنا نوتاراس بحنا الملاك يتعدى هذه العاطفة.
ومع ذلك ظلت أنا تتردد عليه حتى عرف أبوها أمرها؛ فأمرها أن تهجر القسطنطينية، أتراها أذعنت لأمره … لقد تظاهرت بالإذعان، ولكنها لم تُنفذ الأمر، بل لجأت على دير ترهبنت فيه، ولم تمنعها رهبنتها حين لج بها الشوق إلى محبوبها من أن تذهب إليه في لباس رهبانيتها وتكرر زيارتها له.
وزاد الشوق بها لجاجًا فألقت لباس الرهبانية، وأسلمت محبوبها قلبها وجسمها وعفتها، فلما آفاق حنا من غشيته رأى أنه أتى معها أمرًا نكرًا، فلجأ إلى قسيس من أهل القسطنطينية وقص عليه الأمر، فرأى القسيس أن المذهب الكاثوليكي الذي عقد من خلاله زواجه الأول مذهب باطل، وأن الزواج في ظلاله زواج باطل، ولذلك عقد زواج حنا الملاك وأنا نوتاراس في ظلال العقيدة اليونانية، وأصبحا بحكم المذهب زوجين أمام الله.
وبعد زمن عرف قائد الأسطول فرار ابنته ورهبانيتها وزواجها من حنا الملاك، ماذا تراه يفعل، أيدس عليهما من يقتلهما أو يقتل أحدهما، لعله فكر في هذا، لكن أحداث الحصار والحرب وموقفه منها لم يدفعه إلى تنفيذ تفكيره، فقد كان مؤمنًا إيمان الكثيرين من أهل العاصمة بأنها ستفتح أبوابها وتسلم مقاليدها للأتراك لا محالة، وكان يرى كما يرى الكثيرون غيره من اليونانيين أنه إذا حدثت المعجزة وانصرف الأتراك عن الحصار تكون الكلمة النافذة في المدينة العاصمة للإيطاليين وأبناء روما، أي للكاثوليكية، بحجة ما عقده الإمبراطور مع البابا من اتفاق على توحيد المذهب، وذلك شر عنده من حكم الأتراك، أو لا يستطيع قائد الأسطول أن يستعين بحنا الملاك ليكون رسوله إلى السلطان، فإذا دخل الأتراك القسطنطينية كان لهذا القائد نوتاراس ما يطمع فيه من مكانة وسلطان، لهذا دس أحد أبنائه فجاء بأخته «أنا» على بيت أبيها، ثم بعث بهذا الابن فدعا إليه حنا الملاك فسمح له أن يقابل «أنا» في بيته، وقالت له «أنا»: إنها زوجته، وأنها مستعدة للذهاب معه إلى بيته كما كانا بشرط واحد ذلك أن يكون سفير أبيها إلى السلطان، فإذا سلمت المدينة كان أبوها وكان زوجها حكام المدينة، وكانت لهم بذلك حياة النعمة والنعيم.
ولكن حنا الملاك رفض ما عرضته عليه زوجته رفضًا باتًّا، وقال: إنه جاء هذه المرة على القسطنطينية وقد نذر أن يدافع عنها إلى آخر نقطة من دمه، وأنه لن يخون نذره إرضاء لأبيها، ولا إرضاء لحبها وإن بقي حبها في قلبه الضياء الفرد الذي يبعث إلى حياته دفئًا ونورًا.
وأيقنت الزوج أن لا فائدة من استدراجه، فهو على عزمه لا يحيد عنه، وغلبها حبها على طاعة أبيها فعادت إلى بيت زوجها تقاسمه الحياة في هذه الأيام المضطربة القاسية.
وأنهم كذلك؛ إذ فتح الأتراك المدينة اقتحموها، اقتحموها حين كان حنا الملاك يُدافع عنها، وحين كانت زوجه في بيته ليس معها فيه إلا خادمه العجوز، أما الخادم ففر هاربًا يلتمس النجاة من الموت حين أيقن أن الغزاة اقتحموا المدينة وفتحوها، وأما أنا نوتاراس فلبست دروعها وأقامت بالمنزل حتى مر بها جنود الأتراك فقتلوها وأنهوا بذلك حياتها وحبها.
ودخل محمد الفاتح عاصمة بيزنطة منتصرًا تلمع الغبطة في عينيه، ثم يزداد غبطة حين يرى جنوده تضرب سيوفهم يمنة ويسرة فتهوي رءوس أهل المدينة عن أجيادهم، وتجري طرق المدينة أنهارًا من الدماء، واستسلم له حنا الملاك كما استسلم له نوتاراس قائد الأسطول وولداه، ولم يلبث، بعد حوار قصير مع قائد الأسطول أن أمر بقتله وقتل ولديه، والتمس منه نوتاراس أن يقتل الولدين قبله؛ مخافة أن يدفعهما الخوف حين يرياه قتيلًا فيدينا بدين محمد الفاتح ويكفرا بالمسيحية لينجوا من الموت، وقدم الولدان إلى النطع واحدًا بعد الآخر، فلما قُتلا تقدم أبوهما إليه مطمئنًا أنه أرضى المسيح وأنه يرضى نفسه.
فأما حنا الملاك فوقف ينازع السلطان الفاتح، ويزعم أنه صاحب القسطنطينية، وبرم السلطان بمحاورته فأمر بقتله لأنه لم يرد أن يعيش بعد أن ماتت أنا نوتاراس.
هذه قصة حنا الملاك وحبه، وهي تستغرق من مؤلف «ميكا فالتري» ستين صفحة أو نحوها، من مجموع صفحات الكتاب وعدت بثلاث مئة وعشرين، وهي مشتتة في يوميات حنا الملاك، فأنت تقع عليها كلما أوغلت في قراءة القصة، أما بقية اليوميات فهي عن حصار عاصمة بيزنطة ودفاعها عن نفسها ودفاع المسيحية عنها، والنزاع بين المذاهب الدينية فيها …
ومن العسير تلخيص ما صورته هذه اليوميات من أعمال الدفاع وتحصيناته، ومن تجهز الأتراك بعد تضييقهم الحصار على العاصمة، فهذا كله مفصل تفصيلًا يكاد يكون فنيًّا فيما يزيد على مائتين وخمسين صفحة.
لكن ما يقف النظر من أسباب ضعف الدفاع هذا الاختلاف الذي كان قائمًا بين المذاهب المسيحية في بيزنطة وفي روما، وما اضطر الإمبراطور إليه من الموافقة على توحيد هذه المذاهب رغم ما بينها من تباين في الأسس، وما أدى ذلك إليه من برم أهل القسطنطينية بالإمبراطور وضعفه، وبهذا الاتحاد في المذاهب اتحادًا لم تستطع نفوسهم أن تسيغه، وما نشأ عن ذلك من تقاعس الكثيرين عن القيام بواجبهم في الدفاع إيثارًا لحكم الأتراك على تحكم روما، وما كان الإيطاليون الذين جاءوا ليدافعوا عن عاصمة الإمبراطورية الشرقية يريدونه لأنفسهم من مغانم، وعزيمة الأتراك بقيادة سلطانهم محمد الفتاح على فتح المدينة عزمًا لا يتطرق إليه الوهن، هذا كله تصفه اليوميات وصفًا دقيقًا يحييه أمامك ويبعثه من مرقده في القرن الخامس عشر، ويجعلك تشعر وكأنه وقع بالأمس القريب.
وهذا ما تميزت به هذه القصة من قصص ميكا فالتري، فالقصص التاريخية كثيرة في آداب الأمم كلها، وبعضها بالغ من الروعة أعظم مبلغ، لكن القليل من يبعث الحياة إلى الماضي بقدر ما تبعثه «الملاك الأسود»، ولعلي لا أبالغ إذا قلت: إنها من هذه الناحية أقوى من قصة «سنوحا المصري» لميكا فالتري نفسه.
و«الملاك الأسود» تثير أمام الذهن مسألة يحار أمامها، فقد اشترك بطلها حنا الملاك في أكثر من حرب، وقد واجه الموت غير مرة، ولكنه استطاع في كل مرة أن يفر من ملاك الموت، وأن يفر من مواجهة نفسه، أما حين حصار عاصمة الإمبراطورية الشرقية فقد أتيحت له فرصة الفرار من الموت، بل أتيحت له فرصة الحياة الناعمة، ودعاه السلطان العثماني فاتح القسطنطينية أن يعيش عزيزًا مكرمًا فأبى إلا أن يموت، فلماذا؟ أفكان حبه أنا نوتاراس وميتتها ميتة الأبطال هما اللذان صغرا قدر الحياة في نفسه، وجعلاه يُؤثر الموت عليه، أم أن مسيحيته هي التي أبت عليه أن يذعن مخافة أن يُؤدي به الإذعان ليكون مسلمًا، أم أن دوافع أخرى أقوى من فطرة الاحتفاظ بالحياة هي التي جعلته يختار هذا الطريق، ويقول حنا الملاك في آخر القصة لمحمد الفاتح: إنه سيعود فيبعث فيرجع إلى القسطنطينية على حين يموت هذا الفاتح، ثم لا يرى القسطنطينية من بعد أبدًا، فماذا يقصد البطل بهذا؟ وماذا يقصد المؤلف به؟
على أية حال فقصة «الملاك الأسود» جديرة بأن تُقرأ، جديرة بأن تُنقل إلى العربية كما نقلت قصة «سنوحا المصري» وأن تكون موضع دراسة وتأمل.