الديمقراطية في الدانمرك
للديمقراطية تعريف أساسه أن الناس يولدون ويعيشون أحرارًا متساوين في الحقوق والواجبات، ولا أريد مناقشة هذا التعريف هنا، وأني أذكر أنني شعرت بأن هذا التعريف أكثر ما يصدق بحذافيره في بلاد أوروبا الشمالية، وبخاصة في بلاد الدانمرك، فلا تفاوت هناك بين الناس بسبب ثروتهم أو مراكزهم الاجتماعية، وكل عمل هناك شريف ما دام القانون يبيحه.
ولا يستثنى أحد من هذه القواعد، ولا يستثنى ملك الدانمرك نفسه منها، فهذا رجل كغيره من رجال الدانمرك له احترامه وله مكانته، ولكنه لا يزيد في حقوقه ولا تزيد واجباته على غيره من الناس إلا بقدر ما يشعر هو أن مركزه يقتضيه أن يزيد في هذه الواجبات. لما احتل الألمان الدانمرك بموافقة أولي الأمر فيها منذ سنة ١٩٤٠ إلى آخر الحرب كان الدانمركيون يتوقعون أن عدم معارضتهم الاحتلال الألماني تعفيهم من النتائج التي تترتب على الاحتلال بالقوة، وتدعم وشأنهم، لكن الألمان رأوا أن لا مفر لهم من الاحتياط لموقفهم الحربي فكانوا يعاملون أهل الدانمرك بالشدة التي يعاملون بها غيرهم من الدول التي احتلوها عنوة منتصرين عليها، وترتب على ذلك أن قامت في البلاد حركة امتعاض تلتها حركة مقاومة لهذا الاحتلال، وشعر ملك الدانمرك يومئذ بأن عليه لوطنه واجبًا، فالملك يجب أن يقوم بعمل يشهد بعدم رضاه عن أعمال الاحتلال، لهذا كان يمتطي جواده كل يوم ويخرج به ويطوف أنحاء كوبنهاجن منفردًا لا يحرسه أحد، لا يسير أمامه ولا من خلفه حاجب راجل أو فارس دلالة على أن شعبه وبعده يحميه، وأنه في أمن بهذا الشعب من أن يحتاج إلى أية حراسة، وضاق الألمان ذرعًا بهذا المنظر الذي يتكرر كل يوم ليثير أهل كوبنهاجن بهم، لكنهم لم يكونوا يستطيعون أن يقولوا شيئًا، أما الشعب الدانمركي فأدرك أن الملك يريد بهذه الجولات أن يشعر الشعب أنه يحس بإحساسه، ويضيق مثله بالاحتلال الألماني وأفاعيله.
وتوفي الملك وخلفه ولده الملك الحالي على العرش، وولده موسيقي بارع يتقن إدارة الجوقات الموسيقية، وهو لا يرى بأسًا بين الحين والحين، وهو الملك وصاحب العرش، أن يذهب إلى حفلة من الحفلات الكبرى، وأن يخلع سترته وأن يدير الفرقة بعصاة كما يفعل مديرو الفرق الموسيقية البارعون، وقد ازداد الشعب تعلقًا بالملك لما يفعل من ذلك؛ لأنه رأى فيه مثلًا من أمثلة الديمقراطية العليا، فهو ملك يتولى مهام الملك، لكن ذلك لا يرفعه عن مقام الإنسان، ولا يجعل له حقًّا مقدسًا من عند الله، وإدارة فرقة موسيقية عمل شريف فلا بأس بأن يتولاه الملك بنفسه أرضاء لمزاجه، لا منافسة للذين يكسبون عيشهم من هذا العمل.
والدانمركيون يتحدثون عن أنباء ملوكهم بمحبة وإعجاب، وليس ذلك شأنهم اليوم وكفي، بل هو شأنهم من زمن بعيد، فهم يسمون ملكهم الذي كان على العرش في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن العشرين (حمو أوروبا) ويكادون يفاخرون بهذا اللقب، ذلك أنه كانت لملكهم هذا ثلاث بنات بارعات الجمال خطبن ثلاثتهن إلى ملوك أوروبا، وأصبحن ملكات لثلاث دول فيها، وكانت أحداهن الملكة ألكسندرا ملكة إنجلترا، وقرينة الملك إدوارد السابع، وإحدي البارعات الجمال في أوروبا كلها، ولم يقتصر أمر هذا الملك على أن صدق عليه أنه (حمو أوروبا)، بل اختير ولده كذلك ملكًا لليونان.
ألا يدل ذلك على أن هذا الشعب الصغير، شعب الدانمرك، شعب سعيد بملوكه، وبحسن إدراكه لمعاني المساواة في الحقوق والواجبات.
وللديمقراطية التي تقوم على أساس من أن الناس يولدون ويعيشون أحرارًا متساوين، وأن العمل الشريف مقدس ما دام القانون يبيحه، مظاهر شتى متأصلة في نفس الشعب تكاد تراها في كل حركة من حركاته، وفي كل صورة من صور نشاطه، وهذا النشاط جم يزيد على ما يراه الإنسان في غير كوبنهاجن من عواصم أوروبا، وفيه ما يدل بوضوح على أن كل إنسان يحترم العمل الذي يزاوله أشد الاحترام، كم من مرة كنت أدخل مطعمًا من المطاعم فابتسم حين أرى رئيس الخدم فيه مرتديًا لباسه الرسمي يدور هنا وهناك وعليه من سيما الوجاهة ما قل أن تلمح مثله على رئيس وزارة في أوروبا أو غير أوروبا، وكم من مرة كنت أدخل فيها المتاجر فأرى البائعين والبائعات رغم ابتساماتهم ورقتهم وظرفهم يشعرون بأنهم يؤدون عملًا لا يقل مكانة عن عمل الوزير أو المحامي أو الطبيب أو الموظف الكبير، وأدلاء المتاحف الذين يرشدونك في لطف إلى تاريخ كل قطعة تحت إشرافهم بالمتحف ليسوا أقل أكبارًا لعملهم واحترامًا إياه من غيرهم، وتستطيع أن تقول ذلك بالنسبة لسائق التاكسي، ولغيره من العمال في البنوك وفي الأماكن العامة ممن يقتضيك الأمر أن تتصل بهم، وليس هذا الاحترام للعمل نوعًا من الكبرىاء يريد الشخص أن يستر به ضعف نفسه، بل الكل يحترم عمل الكل، ويتبادلون فيما بينهم هذا التقدير لمعنى الجهد الإنساني أيًّا كان العمل الذي يبذل هذا الجهد فيه، فالعمل لذاته لا يُعاب، وإنما يُعاب التراخي فيه أو عدم إتقانه.
ونشاط أهل الدانمرك عجيب، كنت أقيم في كوبنهاجن بفندق إنجلترا، والفندق يقع على ميدان فسيح، وتحته قهوة ومطعم متصلان به، وقد جلست ساعتين في هذه القهوة قبيل سفري من عاصمة الدانمرك إلى لندن فأدهشني ما أرى؛ مئات السيارات وألوفها، ومئات الموتوسيكلات وألوفها بأشكالها المختلفة، ومئات الدرجات وألوفها تمر كلها من أمامك في سرعة مدهشة، هذا عدا السائرين على أقدامهم ممن يخطون أمامك مسرعين بنشاط يدهشك، وعلى ثغورهم رغم ذلك ابتسامة تشهد برضاهم عن الحياة، وهؤلاء وأولئك جميعًا، رجالًا ونساء، يسرعون إلى عملهم الذي يحبونه ويحترمونه ويجنون منه رزقهم ورزق من يعولون وكأنهم ذاهبون إلى نزهة محببة يخشون أن تفوتهم.
وكما يسارع أبناء الدانمرك إلى عملهم في احترام وإعزاز، فهم حريصون كذلك على أن يعوضوا أنفسهم عن مشقة العمل بألوان من التسلية والمرح يسارعون إليها في نشاط كنشاطهم في إقبالهم على العمل، وفي كوبنهاجن مسارح شتى للتمثيل وللموسيقى وللرقص, فيها أثناء الصيف مكان فسيح يسمونه (التيفولي) تشبها بتيفولي روما، أنا لم أر هذا المكان في روما رغم أنني زرتها مرات عدة، وقد يكون ذلك لأن بروما من المشاهد ما ينسيك التيفولي، أما تيفولي كوبنهاجن فلا يمكن لزائرها في الصيف أن يتجاهله، وأنت إذا قصدت إليه ليلًا بهرتك أضواؤه، فلا أحسبني أبالغ إذا قلت: إن بها ملايين من ثريات الكهرباء، وبها عدد كبير من المطاعم تزيد على سبعة أو ثمانية، وبها من ألوان الملاهي ما لا يقع تحت حصر، بها المسارح وملاعب الموسيقى وباليه الرقص، كل ذلك منثور في فسحتها المترامية الأطراف الرقيقة الهواء بما تبعثه بحيراتها الصغيرة الواقعة هنا وهناك من أرجائها المختلفة، والتي تقوم على جوانبها أشجار نثرت بين أغصانها أضواء خافتة تسمح للشباب بأن يجدوا في حماها مرتعًا لهواهم ومسرحًا لتبادل أسرارهم، وقد قيل لي: إن هذا المكان يقصد إليه كل ليلة نحو سبعين ألفًا من المتنزهين، ولست أشك في أنهم يجدون فيه متعة خير متعة تعوضهم عن عمل نهارهم، فمطاعمه تتفاوت لتتفق مع تفاوت القدرة على النفقة بعضها من الطبقة الممتازة والبعض أقل كلفة، ومسارح التيفولي في الهواء الطلق يرى الناس فيها ألوانًا من التمثيل والموسيقى والرقص من غير أن يدفعوا أي رسم، وقد حاولت أن أتفرج على الباليه فتعذر ذلك عليَّ لكثرة الجالسين والواقفين يشهدونه، ولولا أنني التمست فجوة أنظر من خلالها لما استطعت أن أرى شيئًا، وكذلك تقضي هذه الألوف المؤلفة التي تجهد نفسها طول النهار في العمل والدأب فيه سويعات من الليل تروح عن نفسها في أماكن اللهو من مشاهد كوبنهاجن الرقيقة الظريفة.
ولا تمنع الديمقراطية الشعب الدانمركي من أن يعتز بتاريخه، وأن يكسبه في نفوس أبنائه منذ نعومة أظفاره، وهم يعتمدون في هذا الشأن على متاحفهم، ففي هذه المتاحف صور للأسرة المالكة في مختلف العصور، وأخرى لمشاهد تاريخهم المختلفة، كما أن بها من آثار الفن والفكر ما يأخذ بالنظر وما يهوي إليه الفؤاد، وأنت كثيرًا ما ترى في هذه المتاحف طائفة من الصبية والأطفال أولادًا وبنات ومعهم معلمهم أو معلمتهم يفسر لهم مدلول كل صورة وكل أثر، ويشرح لهم ذلك شرحًا وافيًا يقفون منه على تاريخ بلادهم مرتسمًا أمامهم في صور جميلة وآثار للفن بارعة فلا ينسونه من بعد ذلك أبدًا.
وقد أثارت مبالغة بعضهم في الحديث عن تاريخ الدانمرك ابتسامتي، كان دليلي يشرح بعض الآثار التي وقفنا أمامها فذكر لي أن عهدها يرجع إلى ستة آلاف سنة، عند ذلك نظرت إليه في دهشة وقلت له: الذي أعرفه أن الدانمرك وبلاد أوروبا كلها كانت من ستة آلاف سنة، بل من ألف سنة فقط غارقة في بحار من الجهل والهمجية، ثم أضفت، ولا تنس أنك تُحدث رجلًا من مصر لبلاده تاريخ يرجع بالفعل إلى ستة آلاف سنة، وأن مصر كانت إذ ذاك مصدر حضارة العالم.
لا أدري لماذا تركت الدانمرك في نفسي أثرًا عميقًا، رغم أنها بلد لا يزيد سكانه على أربعة ملايين، وكم أود لو استطعت أن أزورها مرة أخرى عما قريب، فريفها بديع ومظاهر حياتها جميلة في مجموعها، وأهلها كلهم رقة وظرف.
ترى أيتاح ذلك لي؟!