في لندن … وفي بلاد الغال (ويلز)
كان برنامج رحلتي، حين أزمعت شهود المؤتمر البرلماني الدولي بهلسنكى عاصمة فنلندا صيف هذا العام، أن أذهب بعد هلسنكى على لندن، وأن اقطع الطريق بينهما في كوبنهاجن عاصمة الدانمرك لمدة ثلاثة أيام، وبعد هذه الأيام الثلاثة أقلتني الطائرة من كوبنهاجن إلى لندن، فلما بلغتها ألفيت ولدي يستقبلني بمطارها الفسيح الجديد، وقد كنت أتوقع أن يسألني رجال الجمرك بها عما معي من جنيهات إسترلينية، فلا يجوز أن يدخل أحد إنجلترا ومعه أكثر من عشرة جنيهات إنجليزية، وإن جاز أن يحمل ما شاء من العملات الأجنبية، ومن الشيكات على البنوك الإنجليزية، وقد كان رجال الجمرك هناك يتشددون في السؤال عما يحمله المسافر من الجنيهات الإنجليزية إلى سنتين مضتا، أما هذه المرة فلم يسألني أحد منهم عن ذلك، ولم يسأل غيري من المسافرين، كما أنهم كانوا اللطف كل اللطف في استقبالنا جميعًا، وفي التأشير على متاعنا من غير أن يطالبونا بفتح شيء منه، هذا مع العلم بأنني كنت أحمل جواز سفر عاديًّا، وكنت فيما مضى أحمل جوازًا دبلوماسيًّا أو جوازًا خاصًّا.
وقد أدهشني هذا التبدل في معاملة الإنجليز للمسافرين، ثم قيل لي: إن ما يدخل إنجلترا من أموال السائحين يقدر بالملايين، وإنهم لذلك يحرصون على تشجيع السياحة، فلا يضعون العراقيل في سبيلها، ولا يضايقون المسافرين إلا أن تقوم لديهم الشبهة القوية التي تحملهم على مضايقة مسافر بذاته، وكذلك انطلقت بمتاعي مع ولدي إلى فندق دورشستر حيث حجزت لي الغرفة التي أنزل بها.
وكان مراسل جريدة الأخبار، الأستاذ زغلول السيد، هو الذي حجز لي هذه الغرفة، لذلك حرصت أول ما وصلت على أن أتصل به، لكن محاولاتي ذهبت عبثًا، فلما سألت عنه السفارة المصرية قيل لي: إنه قام بالإجازة من أول سبتمبر، وكنت أنا قد وصلت إلى لندن في الثالث من سبتمبر، فأسفت لأنني لم أتمكن من شكره والتحدث إليه.
وسافر ولدي مساء الغد من وصولي إلى جنوب بلاد الغال؛ إذ كان يقيم في ذلك الوقت بكارديف، أما أنا فبقيت بلندن أربعة أيام ذهبت بعدها إلى كارديف، وفي هذه الأيام الأربعة أجوس خلال لندن مع ابن عم لي يعرف المدينة الكبيرة تمام المعرفة، وذات مساء شهدنا بها مسرحية مضحكة أثارت عجبي، فهي نقد لاذع للأمريكيين على الرغم من أن للولايات المتحدة بلندن مقرًا للقيادة العامة للقوات الأمريكية المرابطة في إنجلترا، وتدور هذه المسرحية حول جزيرة كانت اليابان تحتلها، ثم احتلتها الولايات المتحدة، وأرادت أن تقنع أهلها بأنها إنما احتلتهم لخيرهم وكفالة حريتهم، فإذا التعاليم التي يحاول رجالها أن يقنعوهم بها هي بعينها التعاليم التي كان اليابابنيون يلقونها عليهم، وبعبارة أخرى أن الاستعمار هو الاستعمار يابانيًّا كان أو أمريكيًّا، وأن ذرائعه هي هي بعينها لا تتغير.
وقد قيل لي: إن كثيرين من الأمريكيين يحضرون هذه المسرحية، وإنهم يضحكون ملء أشداقهم لكل ما يقال أو يجري فيها.
وفي السابع من سبتمبر انتقلت بالقطار من لندن إلى كارديف، وهو قطار سريع يقطع الطريق في ثلاث ساعات لا يقف أثناءها إلا مرة واحدة في نيويورك، وكان معي بديوان سكة الحديد رجل اتصل بينه وبيني حديث متقطع عرفت من خلاله أنه من أهل كارديف، وأنه شديد الإعجاب بها وبنظامها في شوارعها وحوانيتها وعربات الأتوبيس فيها، أليست هي عاصمة بلاد الغال، فسألته عن عدد سكانها، فقال: إنه ربع مليون أو حول ربع المليون، فلما سألته في أي حي من أحيائها يقيم، قال: إنه يقيم خارجها في المرتفعات حيث مناجم الفحم، وأردت أن أعرف منه ما صورة الحياة في مناجم الفحم فأنكر عليَّ سؤالي، وقال: إنه لا صلة له بالفحم واستخراجه، بل هو معلم في المعاش يحب كارديف؛ لأنها المدينة التي وُلد فيها وقضى حياته بها.
وبلغت كارديف ساعة المغيب ونزلت فندق الملاك، وكان أول ما فاجأني بها وأثار دهشتي أني وجدت في غرفة الحمام الملحقة بغرفتي ورقة صغيرة كتب عليها أنه لعدم نزول المطر خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة؛ فعلى النازلين بالفندق ألا يستحموا توفيرًا للمياه، وإنما أدهشني ذلك لأني أعلم أن الإنجليز من أحرص أهل الأرض على الاستحمام، وأنهم لا ينهون عنه على نحو ما ورد في هذه الورقة إلا لقحط في المياه شديد، وقد تناول هذا النهي جميع الفنادق، وأبلغ أمره إلى الناس في منازلهم مما دل على أن الماء غير متوافر بالفعل.
مع ذلك لاحظ بعض الإسبانيين حين زرت مدريد بعد سفري من إنجلترا أن مثل هذا الأمر لو حدث في إسبانيا لنددت بها صحافة العالم واتهمتها بالقذارة، ولم تلتمس لها من العذر ما تلتمسه لإنجلترا، لغير شيء إلا أنها إنجلترا، وإن لم يكن الإسبان أقل حرصًا على النظافة من الإنجليز.
وأصبحت أدور في أرجاء كارديف، هي بلد صغير ولكنه ظريف حقًّا، صدق زميلي في القطار من لندن إلى هنا، أن شوارعها لفسيحة، وأن متاجرها لظريفة، وأن بها لممرات تجارية حوت من ألوان البضائع كل ما تشاء، وعربات الأتوبيس فيها لا تقل حسنًا عن عربات لندن، وأن بها لقلعة قديمة فسيحة الأرجاء يحدث ما فيها عن جوانب من تاريخ إنجلترا ومن تاريخ بلاد الغال حديثًا تسمعه من دليلها الشيخ فيروقك، ويجعلك أكثر إعجابًا بما ترى من فاخر الأثاث، ومن بديع الثريات، ومن بارع الصور التي تحدث عن وقائع حربية، أو تحكي صورة ملك قديم، وقد كانت تلك القلعة ملكًا لأسرة من أشراف إنجلترا فأهدوها إلى مدينة كارديف منذ عهد غير بعيد، وأن بالمبنى غير القلعة لمباني فخمة غاية الفخامة، وفي مقدمتها دار البلدية حيث ترى من التماثيل والتحف ما بلغت النظر بدقة صنعه، وحسن حديثه عن التاريخ الذي يرمز له، وبدار البلدية هذه بهو فسيح للحفلات العامة التي تُعزف فيها الموسيقى، ويرقص فيها الراقصون، وميادين كارديف ومتنزهاتها تنفس عن المدينة وعن أهلها، وعن الأطفال المحتاجين أكثر من غيرهم للهواء الطلق وللتنفس ملء صدورهم.
وتضاهي دار البلدية في فخامتها دار القضاء ودار الجامعة، وبعض المباني العامة بالمدينة مما تقتضيه حياتها كالمستشفيات وما إليها.
ورأى ولدي أن نقضي عطلة آخر الأسبوع نجوب أرجاء بلاد الغال من جنوبها عند كارديف إلى شمالها على مقربة من ليفربول، ثم ننحدر من الشمال إلى كارديف عن طريق آخر بعد أن نكون قد قضينا الليل في مصيف غاب عن بالي الآن اسمه؛ لأن اسمه معقد بلغة أهل البلاد، فلغة بلاد الغال تختلف كل الاختلاف عن الإنجليزية، وأهل هذه البلاد يتشبثون بلغتهم هذه، ويعيبون على أهل كارديف أنهم قلما يعرفونها، ولا يتكلمون لذلك إلا الإنجليزية.
وأقررت رأي ولدي وجبنا بلاد الغال من أقصاها إلى أقصاها، يا للجمال والروعة والجلال! أن بها مناطق تكاد تنافس سويسرا الجبلية في جمال منظرها وارتفاع جبالها، وكثافة غاباتها ورقة هوائها وعذوبة نسيمها، وأن بها مناطق أخرى ينفسح بها السهل إلى مدى النظر، وتستمتع فيها العين بمنظر الأفق وبمغيب الشمس على حافته، والمناطق الجبلية هي التي تشاطئ البحر الممتد من سواحل الغال مختلطًا بالمحيط الأطلنطي إلى أمريكا، وإلى هذه المناطق يقصد من يريدون الاصطياف والمتاع بهواء البحر وهواء الجبل مجتمعين.
وأنت لا ترى هذا الجمال البديع البارع لأول ما تخرج من كارديف، فالمنطقة المحيطة بها والتي يسميها أهل كارديف الوديان منطقة قليلة الارتفاع، تحيط بها هضاب تتوسطها، في الوديان مصانع عدة لشركات الطيران ولغير شركات الطيران، وبها كذلك مناجم الفحم.
فإذا انطلقت السيارة بك بعد ذلك متياسرة إلى ناحية البحر البعيد عنك ما يزال بدأت تتسنم المرتفعات شيئًا فشيئًا حتى تعلو شواهق الجبال، وحتى تراك أحاطت بك الغابات الكثيفة، وأنت مع ذلك تعلو وتهبط طرقًا عبدت خير تعبيد، حتى لا تكاد تسمع لعجل سيارتك أي صوت.
بعد خمس ساعات أو نحوها من مسيرتنا دلتنا خريطة الطريق على أننا أصبحنا على مقربة من البحر فلما بلغناه ألفيناه متلاطم الأمواج، لا نكاد نطيق هواءه لشدة برده وعاصف اندفاعه، وعدنا إلى سيارتنا فأقلتنا إلى حيث نزلنا نقضي الليل في تلك القرية التي لا أذكر اسمها، وكم أدهشنا؛ إذ قصدنا على كورنيشها الذي يُحاذي البحر أو وجدنا جميع المباني المطلة عليه فنادق، وأن وجدناها جميعًا ملأى بقصادها آخر الأسبوع حتى لقد صعب علينا أن نجد غرفة توافق اختيارنا، فاضطررنا لقبول الغرفة التي قيل لنا: إنها الوحيدة الخالية في أكبر فندق هناك.
واستأنفنا السير في الصباح إلى الشمال، فمررنا بقرى عدة كما مررنا بقرى عدة في اليوم الذي سبقه، وأنت تجد في كل قرية من هذه القرى ما تحتاج إليه، تجد المأوى الذي تلجأ إليه إذا هبط الليل وأنت في الطريق، وتجد المطعم الذي تتناول فيه غداءك وعشاءك كما تشتهي، وتجد المقهى الذي تجلس فيه تتناول فنجانًا من القهوة أو الشاي، وتجد على العموم كل ما يُرضي حاجاتك أيًّا كانت.
وحين بلغنا غايتنا شمالًا انحدرنا متيامنين نلتمس طريقًا آخر يؤدي بنا إلى كارديف، ونحن منها على ما يزيد على ثلاث مئة كيلومتر، ولم يكن هذا الطريق وعرًا كطريق مجيئنا، بل كنا نهبط فيه على طرق جميلة فسيحة، وكنا نرمي ببصرنا عن يميننا وعن يسارنا إلى الأفق من حولنا، وكنا نرى الشمس لا تحجبها قمة من القمم، وبلغنا كارديف بعد ساعة من مغيب الشمس.
أيهما أروع بهاء: الجبال والغابات أم السهل المنبسط، أما أنا، فأحب الجبال إذا كانت خضراء السفوح بالأشجار الباسقة، وكانت الغابات تقوم على حافتي الطريق الذي يسير الإنسان فيه، ذكرت ذلك إلى جماعة كانوا مثلي ينتظرون الطائرة المسافرة إلى مصر، فقالت سيدة: فسحة الصحراء يتنفس فيها الإنسان ملء رئتيه، أيستطيع القراء أن يذكروا رأيهم في ذلك الأمر، ولهم مني جزيل الشكر؟!