في برلين
للمدن الكبيرة روح تميز كل واحدة منها عن الأخرى وتبعث إلى نفسك، لأول ما تتصل بإحداها، شعورًا يختلف عن شعورك حين اتصاله بغيرها من المدائن، ولقد أذكر ملاحظة سمعتها من كثير من المصريين الذين قصدوا إلى باريس تعبر عن شعورهم أول ما اتصلوا بروح باريس، سمعت هذه الملاحظة من رجال وسيدات لما تمض عليهم في العاصمة أيام رأوا فيها خلالها ضجة المدينة وازدحامها وحركتها الدائمة، ونشاطها الذي لا يعرف الونى، وما يشتمل ذلك كله من ابتسامة لا تفارق ثغر مدينة النور: «هل هذا مولد النبى» بهذه الجملة عبر غير واحد عن شعوره، كما عبر غيره بما يقرب منها، والحق أنك تشعر وأنت بباريس بمثل شعورك وأنت في أحد هذه الأعياد التي تقام في مولد النبي، والتي يؤمها ألوف ألوف الخلائق، فكلهم مشغول من غير شغل، وكلهم طائر لا يدري إلى أين، وكلهم نشيط أعظم النشاط، وكلهم مع ذلك قرير النفس باسم الثغر؛ لأن ما حوله من دواعي الحياة باسم قرير برغم نشاطه وحركته، ذلك بأن روح باريس مرح ونشاط وغبطة بالحياة، أو استخفاف على الأقل بها، وحرص على النهل من مواردها إلى غاية ما تستطيع النفس، إلى الغاية التي تجعلك — على حد قول آنسة مصرية — تستيقظ أربعًا وعشرين ساعة في اليوم؛ لأنك واجد في كل ساعة منها متاعًا ترد منهله.
روح لندن تختلف عن روح باريس … باريس هي التي تجذبك إليها، وتجلي عليك جمالها وتحدثك بروعة ما فيها، ولو حاولت أنت أن تغمض عينك عن ذلك كله، هي معطاء وهوب، وإن كانت آخر الأمر تسترد أكثر مما أعطت عن جذل منك بما تهبه لها وشكر إياها على حسن قبولها، فأما لندن فلا تبتسم لك ولا تغازلك، يجب أن تبحث عنها أكثر مما تبحث هي عنك، ويجب أن تكلف نفسك في البحث غير قليل من العناء إن كنت ممن لا يقنعون بالفتات، فإذا أنت أحسنت التعرف إليها ووصلت إلى مكان العطف منها أسلمت نفسها في غير رياء ولا تحفظ، وبلغت في ذلك أن جعلتك أسيرها بأن أطلعتك من خباياها على ما لا تراه معروضًا في الأسواق ولا مشاعًا لكل زائر مولد النبي، على أنك يجب ألا تطمع من عطفها في متاع أربع وعشرين ساعة كل يوم، بل يجب ألا يعدو هذا العطف ساعات معدودات أنت في حل بعدها من أن تجعله صداقة عمل صريحة لا يتظنن أحد بها، وروح العمل في لندن أنشط وأكثر وضوحًا منها في باريس، فأنت ترى حتى في متاجر الحديد في باريس زينة للنظر على حين ترى متاجر أقمشة السيدات في لندن متاجر عمل جد ونشاط متصل، ذلك بأن نشاط السعي والعمل يستقل عن الفن وجماله والعاطفة وميولها في لندن، على حين يخضع كل ما في باريس لجمال الفن وميول العاطفة.
برلين تُريد أن تكون لندن وأن تكون باريس معًا، بل تُريد أن تكون أعظم من لندن وأبهى من باريس، ويكفي أن تعلم أن الميزانية البلدية لبرلين في هذا الوقت الدقيق من حياة ألمانيا الاقتصادية تبلغ خمسين مليونًا من الجنيهات لترى مبلغ ما يريد أهلها لها من عظمة وجمال، ولم لا؟ وماذا في لندن من عظمة وفي باريس من جمال مما لا يستطيع المال والعمل تحقيقه متعاونين؟ في باريس قوس النصر على مدخل الشانزليزيه فليكن في برلين قوس للنصر على مدخل الإنتردن ليندن، وفي ميدان يسميه الألمان خصيصًا ميدان باريس، وفي باريس عماد الفندرم مطلًّا من بعد على حدائق التويلري من ناحية، وعلى ميدان الأوبرا من الناحية الأخرى، فليكن في برلين عماد النصر مطلًّا من ناحية على التيرجارتن، وهي أضعاف حديقة التويلري وفيها من التماثيل ما يزين شارعًا بأكمله زينة ناطقة بتاريخ ألمانيا المجيد، ومطلًّا من ناحية أخرى على الريخستاج، وتحيط به من مظاهر الجمال ما لا يحيط بالفندوم شيء من مثله، وبرلين فيها كنائس لا تقل روعة ولا جمالًا عن كنائس لندن ولا كنائس باريس، ونهر الأسبري يخترق برلين كما يخترق التيمس لندن والسين باريس، ولندن تمتاز على باريس بنظافتها التي يُضرب بها المثل فلتتميز برلين على لندن نفسها في نظافتها وفي شوارعها، والحق أنه ليس في أوروبا كلها مدينة بلغ نظام شوارعها من الدقة، وبلغت هذه الشوارع نفسها كما بلغت المدينة كلها من النظافة مبلغ برلين، غادرناها إلى الجبل في الخامس والعشرين من أغسطس سنة ١٩٢٨، ثم ذهبنا إلى باريس في الثاني عشر من سبتمبر، فبدت باريس رغم الزمن الذي فصل بين وصولنا إليها ومغادرتنا برلين قذرة حتى في أجمل أحيائها، حتى في ميدان الكونكورد والشانزليزيه، وإذا ذكرت لك أن باريس قذرة وهي المدينة التي تغسل شوارعها كل مساء حتى لتكون كالمرآة ترى فيها خيال كل ما يمر بها، كان لك أن تقدر نظافة برلين، ورونق شوارعها وبديع النظام فيها.
لكن ما روح برلين من روح لندن ومن روح باريس؟ لست أدري ما يقول عنه أهل العاصمة الإنجليزية، أما أهل باريس فيقولون: إنه روح المُحدث الذي جمع مالًا فحسب، إنه بالمال يقيم له حسبًا ويقيم له تاريخًا، فبنى قصرًا وأنشأ حدائق وغرسها وجمع حوله بطانة من رجال ونساء وحاشية وحشمًا وخدمًا، وظلت نفسه مع ذلك نفس المُحدث برغم ما يحاول من اصطناع أخلاق ذوي الجاه والحسب، ولقد كنت من قبل سريعًا إلى تصديق هذا إذا كانت برلين مدينة حديثة لم تمض على عمارتها في صورتها الحاضرة أكثر من مئة سنة، لكنني الآن أعترف بأن هذا المُحدث الذي بنى برلين جمع إلى الذكاء المثابرة والنشاط؛ فاستطاع بقوة جلده وصبره وبمداومته الجد والعمل أن ينشئ في المدينة روحًا هي روح النظام، وأن يسمو في تقليده لندن وباريس على كثير مما في لندن وباريس وإن بقي برغم سموه مقلدًا، وإن كانت حداثته قد جعلت عظمة برلين وجمالها لما يأخذا طابعًا خاصًّا، ولم يخلع عليهما الزمن من قداسة القدم ما يبعث إلى روح باريس بنوع خاص قوة وروعة تشهدهما في طرقها الضيقة المحاطة بالمباني القديمة الجميلة، أكثر مما تشهدهما في الأحياء المحدثة البرلينية.
•••
هبطت بنا الطيارة من برلين في مطار تميلهوف يوم ١٣ أغسطس سنة ١٩٢٨، بعد أن أرتنا نظرة الطائر منها غابات تلمع من خلالها مياه بحيرات تمتد حولها مروج فسيحة وأحراش واسعة تحيط بها منازل وعمائر، وأقمنا بعد ذلك ببرلين اثني عشر يومًا نجوس خلال الغابات والبحيرات والمروج والأحراش وخلال المدينة العظيمة كلها، ولعل أول ما يلفت النظر في العاصمة الألمانية إرادة العظمة، فالألمان ميالون للضخامة في كل شىء، وميلهم هذا يبدو أمامك صريحًا واضحًا في كل ما ترى، فهذه التيرجارتن غابة فسيحة جميلة النظافة تنبسق أشجارها وسط برلين، وتقوم منها — على حد تعبير الألمان — مقام الرئة من الإنسان، وخلال هذه الغابة تتقاطع الشوارع العريضة المتقنة الرصف المحدثة عن إرادة العظمة، وعن الحرص الدقيق عن النظام، والتيرجارتن يقصد منها، كما قدمت، إلى مضاعفة غاب بولونيا في باريس، لذلك تجد فيها ما تجده في غاب بولونيا من أسباب الرياضة والمسرة، تجد فيها الطرق المرصوفة للاتومبيلات، كما تجد الطرق الفسيحة المتروكة من غير رصف لرياضة راكبي الخيل، وتجد في ناحية منها حديقة الحيوانات كما تجد حديقة «الأكليماتاسيون» في غاب بولونيا، وتجد متصلًا بها بعض البحيرات على نظام يختلف بعض الشيء عن بحيرات غاب بولونيا التي تتوسط الغاب فتزيده روعة وجلالًا، على أن لهذا الخلاف سببه، فالتيرجارتن ببرلين تتوسطها على خلاف غابة بولونيا الواقعة خارج باريس، وبرلين يقع خلالها وخارجها من الغابات والأحراش والبحيرات الشيء الكثير مما لا تجد له نظيرًا في باريس، وإن كنت تجد مشابهة في الهيديارك والكنزنجتون بارك، وسائر رياض لندن المتصلة بعضها ببعض أو تكاد، وتكثر هذه الغابات في الأحراش ببرلين كثرة ما أحسبها اجتمعت لعاصمة غيرها، وهذا هو ما يخلع عليها نضرة وبهاء وشبابا غضًّا قد يتنافر بعض الشئ مع إرادة الضخامة والعظمة البادية في جميع نواحيها، فإذا أنت قصدت إلى أي طرف من أطرافها قابلتك غابات وأحراش أخرى فسيحة ممتدة إلى ضواحيها وإلى ما بعد الضواحي، وهذه الجرونفالد تكاد تكون غابة لا يدرك لها النظر حدودًا، وهي ليست بعد من أحياء برلين الواقعة في أطرافها، فإذا أنت خرجت بعد ذلك قاصدًا بوتسدام أو غير بوتسدام من الضواحى انفسحت أمامك مروج وتوسطت المروج بحيرات، وخطرت فوق البحيرات زوارق وقوارب، وقامت على شواطئها مقاه ومحال اجتماع تراها في أيام الأحاد والعطلة مكتظة بالحاشدين إليها من أهل المدينة يبتغون عندها مذهبات الشجن من خضرة وماء ووجه حسن، ويستمتعون حولها بجمال الهواء وشذى الزهور ومسرة الاجتماع وعبث السوابح بصفحة الماء المتألقة تحت أشعة الضياء.
وكما ترى هذا الجلال في المروج والغابات، ترى جلالًا وعظمة تفوقه في شوارع برلين، فهي أكثر فسحة واتساعًا من شوارع ما سواها من المدن، وما يجري التزام خلاله منها يجري منه في وسطة فوق زروع من الحشيش البهيج الخضرة، والذي يفصل بين ناحيتي الطريق التي تسير فيها العجلات ويسير على أفاريزها المارة، ولئن كان حقًّا أن لا تجد في برلين ولا في غير برلين مجموعة كمجموعة التويلري وميدان الكونكورد بمسلته المصرية وبتماثيله ونافوراته والشانزليزيه بحدائقه عن الجانبين وقوس النصر تتفرع عنده شوارع باريس الكبرى، وينبعث منه شارع الغاب لينتهي إلى غاب بولونيا؛ فأنت واجد برغم ذلك في برلين من الشوارع الفسيحة الممتدة الطول إلى غير نهاية ما لا تجد له في غير برلين شبيهًا، وسبب ذلك أن برلين بلد حديث وضع نظامه متفقًا مع مطالب هذا العصر الحديث، فلم يجد واضعوه ما يحول دون تنظيمهم مدينتهم على ما يريدون، فأما برلين القديمة فيقف فيها النظام أمام ما يقف من عقبات في كل بلد قديم، فهنا جامعة وهناك كنيسة وثَمَّ أثر محبوب من الشعب، والطرق بين هذه ضيقة أو ملتوية، ولا سبيل إلى الإصلاح فيها، وهذا ما تجده في أنحاء كثيرة في لندن وفي باريس حيث وقف النظام عاجزًا أمام أقداس خلفها الماضي، لها من الروعة والجلال والجمال، ولها من الذكري المحببة إلى نفوس الشعب أكبر مما للنظام الحديث من أثر في الصحة وفي الرفاهية وفي حسن المتاع بالحياة.
نظام المرور في هذه الشوارع الكبرى ببرلين عجيب، كنت أعتقد أن ليس في العالم كنظام لندن نظام، والحق أن البوليس الإنكليزي مثل أعلى للبوليس في العالم كله، والحق كذلك أن برلين ليس بها من حركة المرور مثل ما بلندن وباريس زحامًا ونشاطًا مستمرًا، لكن نظام المرور في برلين يرجع إلى روح النظام القائمة بنفس الشعب الألماني أكثر مما يرجع إلى شيء آخر، لذلك كانت الحاجة فيه إلى البوليس أقل من حاجة النظام إليه في مدن غيرها، ولذلك لجأت بلدية برلين إلى تنظيم المرور على طريقة أوتوماتيكية تخفف من عبء العمل على رجل البوليس بمقدار كبير: ففي كل تقاطع للشوارع الكبيرة مصباع كهربائي فيه أنوار ثلاثة تضيء على التعاقب فترات غير طويلة: أخضر وأصفر وأحمر، فالأحمر يقف حركة المرور ولو لم تكن في الطريق عربة، والأصفر ينبه إلى أن اللون الآخر وشيك الظهور كي يستعد السائق للوقوف أو السير، وكذلك تسير العربات، وفق هذا النظام الآلي فتنتقي بذلك كل تصادم أو خطر، ولما كان النظام في الروح الألمانية بعض فطرتها فليس يرى أحد في التنظيم إلا ما يستحق كل ثناء وإعجاب، وليس يتبرم أحد لأنه وقف في طريقه دقيقة أو دقائق من غير حاجة إلى هذا الوقوف.
على أن هذا النظام والجمال في شوارع برلين، لا يقابلهما جمال ونظام مثلهما في عمارتها، فأنت تسير في شوارعها الكبرى فلا يأخذ بنظرك شيء من مبانيها، ولا يسترعي نظرك إلا المباني العامة الفخيمة بطبعها، فأما منازلها ومصارفها وحوانيتها فلا تجذب الناظر إليها، كما تجذبه مباني باريس وعماراتها جميعًا، فأنت إذ تسير في شوارع باريس الكبرى لا تفتأ ترى ما يستوقفك عنده من جمال البناء، وما يستوقفك أكثر من ذلك من جمال عرض ما في المتاجر، وفي الأحياء التي لا تطغى التجارة فيها على المساكن، تراك في كثير من الأحيان أمام منازل في عمارتها جمال جذاب، وكثيرًا ما يسترعى نظرك وأنت بباريس نظام تخطيط العمارة في شارع أو حي بأكمله، فأنت لا ترى نافذة أعلى من نافذة، ولا منزلًا متواضعا إلى جانب عمارة كبيرة، فأما برلين فيظهر أن التخطيط فيها لا وجود له أو يكاد، ففي كثير من الشوارع الكبيرة الفخيمة منازل عالية وأخرى منخفضة عنها، ونوافذ المنازل المتجاورة لا تكون في كثير من الأحيان على خط واحد، وأشهد لقد كنت أشعر لذلك بغضاضة على النظر حين يقع على هذا الاضطراب الذي لا نظم ولا عناية فيه بالجمال إلى أي حد، وكان يزيد شعوري بالغضاضة هذه جمال الشوارع التي تقوم هذه المباني على جانبيها، فأما تنظيم ما يُعرض في المتاجر فلا يأخذ بالنظر ولا يثير من الأعجاب شيئًا بالقياس إلى ما في باريس، ولقد حدثنا مدير مكتب الصحافة الألمانية يومًا عن برلين، وذكر لنا متجرها الكبير باريس الكبرى ويزيد عليها، بل الذي يضارع سلفردج وهارودز من متاجر لندن، ولقد قصدنا إلى فيرتهايم وجسنا خلاله فوقفنا مأخوذين أمام ضخامته وعظمته، وأمام ما اجتمع فيه من كل أنواع البضائع وصور التعامل لكنا دهشنا مع ذلك إن لم نجد في تنظيمه هذه الروعة الحلوة الجذابة التي تستهويك إلى حوانيت باريس، والتي يفر الكثيرون منها بسبب ما تستنفده من أموالهم.
بل إن أكثر ما حول برلين من قصور لا يقاس جماله إلى ما في باريس ولندن، وإذا كان الوصف يقصر عن أن يصف حديقة قصر بوتسدام وروعة الجمال الباهر فيها، فإن القصر لذاته يتضاءل إلى جانب قصور فونتنبلو وفرساي ووندسور، وإلى جانب قصر الهابسبورج في بودابست وقصري فيينا وشنبرن، فأما بيت رئيس الجمهورية الألمانية ببرلين فهو في ظاهرة بسيط غاية البساطة حتى لتمر به مرات فلا تلتفت إليه؛ إلا أن يذكر لك من يعرفه ما هو.
على أن ذلك كله ينسى حين تتخطى ميدان باريس إلى الانتردن ليندون فتمر به حتى تبلغ الأسبري فترى أمام نظرك الكاتدرائية، وترى حولك القصر الملكي والجامعة والأوبرا الكبيرة والمتاحف، ويتخلل ذلك كله حديقة اللستجارتن نثرت خلالها التماثيل في نظام بديع، وتوسطها تمثال فردريك غليوم الثالث، هذه حقًّا مجموعة من أبدع ما تقع العين عليه في مدائن العالم، وكلها اجتمع فيها الجلال والجمال والبهاء، وتجلت فيها الروح الألمانية روح النظام والجدية، وتجلت هذه الروح في الكاتدرائية (الدوم)، وإني ما أزال أذكر المرات العديدة التي مررت أثناء مقامي القصير ببرلين خلال هذه المجموعة البديعة فتهيج هذه الذكري من نفسي أعظم الإعجاب الممزوج بشيء غير قليل من الدهشة، ومعظم دهشتي يرجع إلى الكاتدرائية، فلقد عنيت في كل مدينة زرتها بزيارة كنيستها؛ إذ كانت الكنائس هي المثل الأعلى للعمارة في بلاد النصرانية، كما أن المساجد هي المثل الأعلى للعمارة في البلاد الإسلامية، وكانت عمارة الكنائس كلها تبعث إلى نفسي شيئًا غير قليل من الرهبة والإجلال؛ لعظمتها ودقتها وبديع تلوين زجاجها، ولهذه الظلمة التي تشتمل كل أنحائها، بذلك شعرت حين زرت كنيسة القديس بطرس في روما، وحين زرت كنائس ميلانو كولونيا، وأثناء ترددي على كنائس باريس، فأما كاتدرائية برلين فشعرت فيها بإجلال ولكن عن غير رهبة، ذلك بأن النور الذي يسقط إليها من السقف يجعلها مضيئة لا رهبة للظلمة فيها، ولأن الروح الدينية فيها تخضع للروح الجندية، وتجعل من هذه الكنيسة لذلك معرضًا لتمثال بسمرك وغير بسمرك ممن لا صلة لهم بالدين، ولا بما يبعث به الدين إلى النفس من رهبة.
لكن هذه المجموعة البديعة الجميلة عبوسة الظاهر فيها روح الجندية والنظام، وتنقصها الرقة التي تجتليها نظرتك حين تقف على نهر السين عند كوبري الإسكندر فتحيط نظرتك بالأنفاليد والقصر الكبير والقصر الصغير، وكلها على عظمتها وجلالها أنيقة رشيقة، يحدثك ظاهرها عن جمال لا يقل عما يحتويه داخلها من الجمال، ولست أدري هل يشعر الذين أكثروا التردد على برلين أو أقاموا بها ما أقمت أنا بباريس بمثل هذا الشعور أم أنهم يرون غير رأيي، فقد أعلم أن للمدن سحرًا يتغلغل في النفس أثره كلما ازددنا بها معرفة، ووثق ما بيننا وبينها من اتصال، لكني على كل حال أعتقد أن هذا الرواء البهيج الذي يزين مجموعة باريس ليس منه في مجموعة برلين كثير، وإن كانت المجموعة الألمانية كما قدمت مما يثير في النفس الإعجاب أكبر الإعجاب.
وما دمنا قد عرضنا إلى هذه المجموعة وتعرضنا بذلك للعمارة الألمانية؛ فلا نستطيع أن نغفل مبنى البرلمان الألماني (الرايخستاج) فهو ضخم فخيم ككل ما في برلين، ولكنه تنقصه كذلك الرشاقة وتنقصه الرقة، وهو بعد — كأكثر برلمانات أوروبا — دون برلمان بودابست جمالًا وغنى وروعة أخاذة بالنظر.
على أن ما تشعر به في مباني برلين من نقص في الجمال يعوضه تعهد أهل هذه المباني إياها، وحرصهم على نظافتها إلى أقصى حدود الحرص، وإني لا أزال أذكر خدم فندق «الاسبلاناد» الذين كانوا لا يفتئون به تعهدًا وتنظيفًا وتنظيمًا في كل ساعة من النهار، نخرج من غرفتنا في الصباح فإذا هم يقومون بعملهم في نشاط وجد، ونعود ساعة الظهيرة فإذا هم لا يزالون جادين نشيطين، وننزل العصر وهم، أو من حلوا محلهم، قائمون بعملهم بالجد والنشاط عينه، ولقد أبديت ملاحظتي هذه لبعض من عرفنا ببرلين فذكر لي أن الشعب الألماني كله، غنية وفقيرة، مموله وعامله، يقدس النظافة أعظم تقديس، وإنك إذا ذهبت لمنازل أهل الطبقة الوسطى أو الطبقة الفقيرة وجدتها رغم ما قد يكون من صغرها أو ضيق غرفها أنيقة نظيفة، وأن هذه العقلية هي التي جعلت شوارع برلين على ما ترى من نظافة ليس لها في غير برلين من المدن مثيل.
•••
قد يصبح بعد الذي تقدم أن يسائل الإنسان نفسه، أليس للفن إذن عند أهل برلين مقام؟ وأحسبني لا أخطئ كثيرًا إذا قلت: إن فن التصوير والنحت مقامهما في برلين دون مقامهما في باريس وفي روما، فأما الفنون المتصلة بالأذن فللألمانيين فيها على غيرهم تبريز معروف، ولقد حاولت لذلك أن أسمع الموسيقى والغناء في العاصمة الألمانية فكان حظي من ذلك غير عظيم، فأربع من دور الأوبرا الخمس في برلين تقفل أبوابها في الصيف، والخامسة كانت قد عادت إلى العمل بعد نزولنا برلين بأيام، لذلك لم نكد نرى في برنامجها (كفالريا رستكانا) وقطعة أخرى صامتة حتى قصدنا إليها نسمع ونرى، وأشهد لقد كان بديعًا ما سمعنا وما رأينا وإن لم نفهم من ألفاظ الغناء شيئًا، كانت الموسيقى ساحرة وكان التمثيل باهرًا، وكانت تهيئة المسرح بدقة وإتقان يفوقان ما شهدنا في أوبرا باريس نفسها، ويزيدان الموسيقى والتمثيل سحرًا وبهرًا، والرواية الصامتة كانت تجري بين طائفة من الشياطين وبعض الحور العين، وكان الرقص فيها وحسن أداء المعاني عن طريقه يطرب العين بمقدار ما تطرب الموسيقى السمع، وأشهد لقد كانت الأضواء المختلفة تلقي على المناظر ما يزيدها روعة ووضوحًا، ولا عجب فتهيئة المسرح الألماني مشهود لها بالسبق على غيرها من تهيئات المسارح.
ولست أستطيع أن أحيط في هذه الكلمة السريعة بتفاصيل عن ذلك ولا عن غيره، ولكني إنما أردت أن أضع أمام القارئ فكرة مجملة عن العاصمة الألمانية، أوضح بها شيئًا من روح تلك العاصمة بمقارنتها إلى العاصمتين الفرنسية والإنكليزية.