الإسبان ومصارعة الثيران
للإسبان مظاهر قومية في حياتهم تختلف عن مثلها عند غيرهم، وفناؤهم ليس كفناء الأوروبيين ورقصهم ليس كرقصهم، وألعابهم الرياضية المفضلة خاصة بهم، لا يعرفها إلا أبناء جنسهم في أمريكا الجنوبية، وفي المكسيك.
ومصارعة الثيران رياضة إسبانية لا يألفها غير الإسبان وهم يهيمون بها أكثر من هيام الإنجليز بكرة القدم، وأكثر من هيام الأمريكان (بالبيسبول)، ومصارعة الثيران منتشرة في كل المدن الإسبانية طيلة فصل الصيف، وأهل المدن يهرعون لمشاهدتها ألوفًا ولا يتخلفون عنها، ولا يسأمون مشاهداتها، فإذا رأوها أخذت منهم الحماسة كل مأخذ، فأنستهم في كثير من الأحيان أنفسهم، ودفعتهم إلى صيحات الإعجاب أو صغير الإنكار في عنف لا يندفعون إليه في غير هذا الموقف.
والناس في غير إسبانيا يتحدثون من مصارعة الثيران، لكن الأقلية منهم شهدوا بالفعل هذه المصارعة وعرفوا تفاصيلها، لذلك لا يكاد سائح ينزل إسبانيا حتى يسأل عن ميادين الثيران ومواعيد مصارعتها؛ ليشهدها ولتتكون عنده فكرة دقيقة عنها.
وكان ذلك شأني، لم أكن أتصور من مصارعة الثيران إلا ما سمعته في قصة كارمن الغنائية حين تمثل على المسرح، وكنت أظن أن هذا الذي يسمونه (التوريادرو) في قصة كارمن يتصدي للثور بقماشة حمراء يهيج الثور منظرها، ثم يظل يداور الثور والثور يداوره حتى يتغلب أحدهما على الآخر ويصرعه.
فلما ذهبت إلى مدريد هفت نفسي إلى مشاهدة هذا الصراع، رغم ما قيل لي من أنه وحشي، وأن كثيرين ممن يشهدونه لا يستريحون له، على أني لم تتح لي الفرصة التي أردتها وأنا في مدريد، فلما كنت بقرطبة من بلاد الأندلس دعانا بعض أهل المدينة لتناول طعام الغداء في حفل يرأسه عمدة المدينة، وبعد الطعام دعانا العمدة لنشهد حفلة مصارعة الثيران التي تبدأ في الساعة الخامسة بعد الظهر، وقال لنا: إنه سيمر قبل الحفلة على الفندق الذي نقيم به، وذكر لنا أن الحفلة تبدأ الساعة الخامسة تمامًا، وأن الإسبان لا يهتمون بالدقة في مواعيدهم إلا في حفلات مصارعة الثيران، فهي تبدأ في الدقيقة المحددة لها، ولا يجوز التأخر عنها أبدًا.
وجاء العمدة لموعده وشاهدنا الحفلة من بدئها إلى منتهاها، ولا أريد أن أذكر الآن ما تركته في نفسي من أثر، بل أصفها وصفًا موضوعيًّا خاليًا من التعليق لأجعل للقراء تقدير أثرها في نفوسهم، وكان أول ما وقع عليه نظري حين دخلت إلى مكان المصارعة هذه الألوف المؤلفة من المتفرجين جلسوا في مقاعد متدرجة بعضها فوق بعض حول حلقة مستديرة تعيد إلى الذهن صورة ملاعب الرومان القديمة التي يسمونها (الأرينا)، ويزيد قطرها على مائتي متر أو نحو ذلك، وكانت الحلقة ساعة دخلناها خالية ليس بها ثور ولا مصارع، ثم إن ستة من الشباب أو من الرجال يلبسون البياض الملتصق على أجسامهم إلى ما فوق ركبهم، دخلوا هذه الحلقة المستديرة يتقدمهم فرسان على خيول ثلاثة، فصفق لهم الناس طويلًا حتى انصرفوا، ثم اتجهت أنظار الجميع إلى باب هو الذي يخرج منه الثور الذي يصارع أولئك الأبطال ويصارعونه.
ولقد قيل لي: إن الثيران التي تُعد لهذه المصارعة تُحبس في مكان مظلم أربعًا وعشرين ساعة قبل بدء الحفلة، فإذا خرجت إلى هذه الحلقة التي تعج بالنور وبالناس أذهلها النور وأذهلها منظر الناس، وبخاصة لأنها أقرب لأن تكون ثيرانًا برية ترعى الكلأ على سفوح الجبال في رعاية راعٍ قل أن ترى من الناس غيره، فإذا دخل الثور الحلقة تولاه نوع من الذهول فدار ببصره يمنة ويسرة لا يدري ما الذي جاء به إلى هذا المكان.
وسألت أين (التوريادور) بين هؤلاء المصارعين الستة الذين دخلوا الحلقة بعد أن دخلها الثور، قيل لي: إنهم هؤلاء الستة جميعًا، وإن الإسبان يسمونه (التوريرو)، ويمسك كل في يده قماشة أدنى في لونها إلى الوردي منها إلى الأحمر القاني والستة موكلون بمعابثة الثور في أول أدوار المصارعة.
وخرج من الباب الذي اتجهت إليه الأنظار ثور يبدو عليه أنه لا يزال في فتوة شبابه، وإن لم يبلغ عنفوانه، خرج من هذا الباب فأذهله النور وأذهله منظر المتفرجين، وكانوا يبلغون يومئذ بين الثمانية آلاف والتسعة آلاف، فتقدم في الحلقة حيران مضطربًا، ووقف برهة فتقدم منه أحد هؤلاء (التوريرو) وأخذ يلوح له بقماشة مقتربًا منه حتى يكاد يصفعه بالقماشة.
هنالك خرج الثور من حيرته ومن جموده، وأندفع نحو هذا الذي يُعابثه فإذا هو يفر أمامه، ويدور حوله ثم يلوح له من جديد بقماشة، ولا يكاد الثور يستدير ليندفع نحوه حتى إذا (توريرو) آخر يلوح للثور بقماشته فيحار الثور إلى أية ناحية يندفع، وتبلغ الجرأة وتبلغ المهارة وخفة الحركة عند هؤلاء الذين يصارعون الثور مبلغًا يثير الدهشة والإعجاب، ويستدعي من الحضور التصفيق الطويل في حماسة ليس بعدها حماسة، ويزيد التصفيق الصادر من هذه الألوف اندفاع الثور ومداورات ملاعبيه الستة الذين يحيرونه فهو يدور حول نفسه أحيانا، وهو يندفع نحو أحدهم يريد أن يصرعه بقرنيه الحادتين؛ فإذا هذا الذي اندفع نحوه قد تواري، وإذا بلاعب آخر ظهر أمام الثور فزاد اندفاعه حيرة واضطرابًا.
وعلى أن حركات الملاعبين ترمي إلى غرض بعينه، فهم يريدون أن يجروا الثور إلى ناحية من الحلقة ليصطدم بلاعب أقوى، فلو أنهم أقاموا يلاعبونه لأجهدهم ساعات ثم لتغلب عليهم آخر الأمر.
والغرض الذي يريدونه إذ يجرون الثور إليهم هو استدراجه إلى مكان معين من حلقة المصارعة، فإذا اقترب من هذا المكان دقت الموسيقى فخرج من باب جانبي غير الباب الذي خرج منه الثور فارس مدجج بيديه أكثر من خنجر، وهذا الفارس يسمونه (البيكادور) يمتطي جوادًا معصوب العينين عليه درع يحميه من كل جانب، فقد يهاجمه الثور، وفارسه تحميه كذلك دروعه، وهذا الفارس لا يجوز له أن يتخطى في حلقة المصارعة خطًّا معينًا مرسومًا على الأرض، فإذا استدرج الملاعبون الثور فأصبح قريبًا من الفرس ورأى الجواد وفارسه اندفع نحوهما في بطء وحيرة، ولا يدري كيف ولا لماذا جاء، عند ذلك يقترب منه (البيكادور) ويغرس خنجرًا أو خنجرين في كتفه، فيسيل منه الدم غزيرًا، ويشعر الثور بهذه الضربات فيندفع كأنما يُريد أن يُدافع عن نفسه، ويضرب الجواد وفارسه بقرنيه فلا يؤثر في دروعهما، ولكنه في بعض الأحيان يُلقي الفارس أرضًا، أو يُلقي الفارس وجواده أرضًا، عند ذلك يُسرع الملاعبون بقماشاتهم يلوحون بها إلى الثور أو يضعونها بينه وبين (البيكادور)؛ ليدعوا لهذا الأخير فرصة للنهوض من سقطته، ويغرس البيكادور خنجره مرة أخرى في كتف الثور ليسيل دمه فيضعف، وينصرف البيكادور وجواده من الباب الذي دخل منه، وتدق الموسيقى إيذانًا بأنه قد أتم مهمته.
ويرتد الثور مثخنًا بالجراح إلى وسط الحلقة، وتبلغ منه الجراح أحيانًا فينفرج حلقة عن صيحات تُعبِّر عن ألمه، وفي هذه اللحظة يذهب إليه (البندريلا) فيغرس في جراحه ستة حربات تزيد دمه سيلانًا، وتبلغ هذه الحربات التي يتحملها الثور وهو في شبه دوار مبلغًا يحول بينه وبين الدفاع عن نفسه.
فإذا بلغ الثور أن أضعفته الجراح تقدم إلى النظارة (المتادور) يلوح بقبعته ثم يلقيها إليهم؛ شارة أنه سيقتل الثور، ويقدم لهم هذه الضحية، على أن الثور لا يلبث بعد قليل أن يسترد نشاطه، وكأنه يشعر بأن أمامه معركة حاسمة لا بد له كي يخوضها من أن يستجمع كل قوته.
والواقع أنه في هذه المرحلة الأخيرة من الصراع يُصبح ضاريًا، ولا بد (للمتادور) من أن يكون بارعًا في مداورة الثور ليزيده ضعفًا، وليتمكن آخر الأمر من أن يغرس الخنجر الذي يمسكه بيده في مقتل الثور من رقبته، وهذه المداورة تطول أحيانًا حتى يضج المتفرجون، ويطلبون إلى (المتادور) أن يجهز على الحيوان المسكين، وكثيرًا ما يُهاجم الثور في هذه الأثناء مصارعه وقد يصيبه، بل رأيت في هذه (الكوريدا) التي شهدتها بقرطبة هجوم الثور على البيتادور وإصابته إياه بقرنه في فخذه، وإلقائه إياه أرضًا، وفي مثل هذه الحال يتماوت حتى لا يكر عليه الثور فيقتله، ويهرع الملاعبون الآخرون لشغل الثور بقماشاتهم الحمراء، وقد كبر على (المتادور) القرطبي الذي ضربه الثور في فخذه ألا يقتل هذا الغريم الخطر، فقام يمرح ثم انقض على الثور بخنجره في حركة اليائس وضربه في مقتله، وهوى الثور إلى الأرض، عند ذلك انطلقت الأكف بالتصفيق والحناجر بالهتاف؛ إعجابًا بهذا البطل الذي أبى أن يترك الميدان قبل أن يتم ما تعهد للمتفرجين بإتمامه رغم إصابته.
فلما أيقن أنه أجهز على الثور خر إلى الأرض صريعًا وكأنما أغمي عليه، فقد تقدم زملاؤه وحملوه في رفق ودخلوا به من الباب الذي دخل منه البيكادور بجواده، ولعل طبيبًا كان هناك ليواجه مثل هذه الحوادث.
ضج الحضور إعجابًا بهذا البطل، وقرر المحكمون أنه جدير بمرتبة الشرف، وأوسمة الشرف في مصارعة الثيران تتفاوت، فأدناها أن تُعطى أذن الثور لمن قتله فيعلقها في بيته، وأرفعها أن يُعطى ذنب هذا الثور ليعلقه البطل في بيته، وقد تقرر أن يُعطى البطل الذي قتل الثور رغم أصابته مرتبة الشرف العليا؛ فيُمنح ذنب الثور، لكنه لم يتمكن من الحضور لتسلم هذا الوشاح بسبب إصابته، فحضر والده وناب عنه، وأكبر رجائي أن لا تكون إصابة هذا البطل خطيرة أو قاتلة.
ومصارعة الثور من بدئها إلى منتهاها تستغرق ما بين ثلث الساعة ونصف الساعة، وحفلة المصارعة تستغرق نحو الساعتين، ويقتل فيها ستة ثيران على النحو الذي قدمته يتولى قتل اثنين منها (متادور مشهود له بالبراعة).
هذه حفلة مصارعة الثيران أرجو أن أكون قد صورتها على نحو يصفها أمام القارئ وصفًا دقيقًا، ولا أريد أن أذكر الأثر الذي تركته في نفسي، وإن كان بعض من غير الإسبان الذين شهدوا الحفلة قد قرروا ألا يشهدوا حفلة أخرى، أما الإسبان فيهرعون إلى هذه الحفلات التي تروقهم، وتدل عندهم على البراعة والشجاعة.
حسبي اليوم هذا الوصف من غير تعليق، ولكل قارئ أن يعلق عليه بما شاء.