قصران، وحدائق، ومكتبة
إذا زرت باريس فقد زرت فرنسا، وإذا زرت لندن فقد زرت إنجلترا، فأما إن زرت مدريد فالأمر مختلف، وسبب ذلك أن تاريخ فرنسا مرتبط بتاريخ باريس، وأن تاريخ إنجلترا مرتبط بتاريخ لندن، أما مدريد فلا يرتبط تاريخها بتاريخ إسبانيا، وهناك مدن إسبانية غير مدريد كان لها في بعض الحقب أثر في حياة الإسبان لم يكن لمدريد، بل إن من هذه المدن ما كان عاصمة في عهد من العهود، وما احتفظ لذلك بمكانة خاصة تجعل العناية به لا تقل عن العناية بمدريد.
من هذا البلاد (توليدو) أو طليطلة كما كان العرب يسمونها أيام حكمهم إسبانيا، كذلك مدن الأندلس، ولن يتسع مقال للحديث عن هذه المدن كلها، ولم يتسع بي المقام في إسبانيا لأزورها جميعًا، لكن تستطيع أن تقول: إن كل واحدة أو كل مجموعة منها تحتل مكانًا من تاريخ إسبانيا القريب أو البعيد، وأن هذا التاريخ ترك أثره في مدينة بذاتها، ثم حرصت الحكومات الإسبانية المتعاقبة على أن تحتفظ لهذه المدينة بطابعها الخاص لتجعل منها مدينة سياحية أو مدينة تاريخية أن شئت.
وقد حكم الفرنسيون إسبانيا، وترك بعض ملوكهم فيها آثارًا لا تزال باقية إلى اليوم، من ذلك أن فيليب الثاني خلف من آثاره بلدة (لاجرانخا)، وهذه البلدة لا تزال اليوم عنوانًا للعهد الذي أقيمت فيه، وأقول البلدة؛ لأنها ليست مدينة بل ليست قرية، إنما هي قصر وحدائق وحراس للقصر والحدائق، أما فيما وراء ذلك فلا شيء فيها، حتى لقد أردنا بعد زيارتها أن نتناول طعام الغداء، فقيل لنا: إنها ليس بها مطعم، وإننا يجب أن نذهب إلى بلد قريب منها اسمه (سيجوبيا) بينه وبينها أحد عشر كيلومترًا، وأشير علينا أن نتناول غداءنا في سيجوبيا بمطعم اسمه (بيت كانديدو).
على أن ما رأينا في (لاجرانخا) يستوقف النظر بالفعل، وحسبك لتقدر ذلك أن تعلم أن الملك فيليب الثاني لم تعجبه مدريد، ولم تعجبه مدينة إسبانية أخرى يشيد بها قصره؛ لأنه رأى أن ينشئ في إسبانيا ما يشبه (فرساى) من ضواحي باريس، ويشبه فرساي بحدائقها وتماثيلها ومباهجها الجارية، فاختار لاجرانخا وأيقن أنه وُفق في الاختيار، وأن حدائقه ستكون أبهى من حدائق فرساي؛ لأن طبيعة الأرض في لاجرانخا ليست مستوية سهلة، بل فيها ارتفاع وانخفاض يجعل منظرها أكثر اجتذابًا للعين، ويجعل التماثيل فيها أكثر استهواء للنظر، ولم يخطئ تقديره، فقد درنا في جوانب هذه الحدائق البديعة التي تُعنَى بها الحكومة الإسبانية إلى اليوم، فكنا نقف بعد كل بضع عشرات من الخطي وقد فتحنا أفواهنا وعيوننا؛ إعجابًا وإكبارًا، وخالط الإعجاب والإكبار دهشة حين علمنا أن الحكومة الإسبانية لا تزال إلى اليوم تُقيم بعض الأعياد في هذه الحدائق، وعند ذلك تجري المياه في جوانبها جميعًا بما يُعيد إلى الذهن صورة من مياه فرساي وألوانها البديعة تحت أضواء الكهرباء.
أما القصر فلا شيء فيه يستوقف النظر؛ ذلك لأنه احترق في بعض العهود، ولم تُعنَ حكومة بترميمه، وإن جاءت بعض الحكومات إليه بمجموعة بارعة من سجاد (الجويلان) نقشت فيها أبدع المناظر وأروع الصور، وسترت بها جدرانه.
ليس في لاجرانخا سوي القصر والحديقة وحراسهما، لذلك ذهبنا بعد أن درنا في أنحائهما إلى سيجوبيا نتناول غداءنا في بيت كانديو، والطريق بين البلدتين فسيح جميل، ومطعم كانديو يقع على أول ميدان تقف فيه السيارة حين دخولها إلى سيجوبيا، وهذا الميدان تاريخي يقوم به من آثار الرومان ممر رفيع للمياه يعلو أربعين مترًا أو تزيد، ويشهد بأن الرومان عمروا في إسبانيا كما عمروا في بلاد إمبراطوريتهم كلها، أما بيت كانديدو فكان طعامه شهيًّا حقًّا، جديرًا بأن يسجل على أنه من الأماكن ذات التاريخ في سيجوبيا.
لم تكن سيجوبيا مقصدنا ساعة غادرنا مدريد في الصباح إلى لاجرانخا، لكني أشهد لقد سررت بها غاية السرور، وسررت بآثار فيها قيل: إن بعضها يتردد بين فاتحين عدة، منهم العرب المسلمون.
والأثر الذي رأيناه في سيجوبيا أقرب لأن يكون حصنًا منه لأن يكون قصرًا، ولعل بناءه يرجع إلى عهد الرومان وإن كان قد استعمل بعد ذلك في مناسبات عدة لغزاة مختلفين، على أن بلادًا أخرى ليست بعيدة عن مدريد بعد لاجرانخا أو بعد سيجوبيا بها قصور ملكية تحيط بها آثار خلدت اسم هذه البلاد، من ذلك قصر (الاسكوريال).
واسم (الاسكوريال) ليس غريبًا على الأذن العربية، وليس غريبًا بخاصة على أذن عشاق الكتب والمكاتب، ففي الاسكوريال إلى جانب القصر والمعبد المتصل به مكتبة عظيمة ذات صيت عالمي ذائع، يزيده ذيوعًا أن بها ألفي مخطوط عربي محتفظ بها على خير نحو.
وقد زرت القصر والمكتبة ولم يتسع الوقت لزيارة المعبد، والقصر على كثرة غرفه وأبهائه بسيط غاية البساطة؛ لأن الملك الذي شاده وأقام به كان ملكًا شديد التدين، شديد الزهد في الدنيا وزخرفها، يرى في ألوان المتاع بها انحرافًا عن طريق الدين القيم.
فأما المكتبة فبديعة حقًّا، بها قاعة فسيحة يزورها الجمهور جميلة كل الجمال، صورت على سقفها وعلى جدرانها لوحات بارعة تُصور ما يهدي إليه العلم مما قدم الإنسانية في طريق الحضارة، وعرضت في دواليبها مجلدات ضخمة تستلفت النظر طويلًا.
لكن هذا البهو المفتوح للجمهور لا يُصور مكتبة الاسكوريال إلا كما يُصور المدخل الجميل قصرًا من القصور الكبرى، أما خزائن الكتب فتقع في الطابق الأسفل، وينحدر الإنسان إليها عشرات بعد عشرات من درج لا يكاد ينتهي، وقد تكرم مدير المكتبة فأذن لنا في زيارتها، والاطلاع على بعض مخطوطاتها العربية فتمنيت إذ رأيتها لو أنها جميعًا نُقلت ونُشرت على الناس، ودرس الأخصائيون ما فيها وأذاعوا منها ما ينفع أبناء هذا العصر؛ ليكون لأهل البلاد العربية عبرة تنبههم لما قام به أسلافهم من أعمال جليلة تسجل لأصحابها أعظم المجد.
بل لقد بقيت أصعد بنظري إلى أعلى هذه الصالات الرفيعة التي تشتمل تلك الكتب العربية وغير العربية تعد بعشرات الألوف، ثم أخفضه حين يجيء حارس المكتبة بكتاب قديم قيم لأطلع عليه ولو لم أعرف لغته، ثم يسرح بي الخيال مثل مسرحه كلما وقفت في مكتبة كبرى، فتصورت مؤلفي هذه الألوف من الكتب وكأنما اجتمعوا في هذا المكان الذي يحتوي ما ألفوا، على اختلاف الأجيال التي عاشوا فيها، وكأنما ينظر بعضهم إلى بعض نظرة مودة تدل على أنهم شركاء في تراث الإنسانية العقلي، وأن اختلاف الأجيال التي عاشوا فيها، واختلاف البلاد التي قضوا حياتهم بها، لا يجني على هذه الشركة، بل يزيدها قوة وتماسكًا؛ لأنها شركة بالعقل والروح في هداية بني الإنسان طريق الحق والخير والجمال، هذا الطريق الذي سعت ولا تزال الإنسانية تسعى إلى بلوغ غايته، ولا تدري إن كان قد قُدِّر لها أن تبلغ هذه الغاية.
كنت أزمع أن أتحدث في هذا المقال عن طليطلة، وإن لم يكن بها قصر ملكي، ولم تكن بها مكتبة عامة، لكني أوثر أن أرجئ الحديث عنها الآن؛ لأن ما بها يستحق مقالات وحده، ولعلي أستطيع من بعد أن أحدث شيئًا من الصلة بينها وبين بلاد الأندلس على بعد الشقة بين الموقعين، على أن لها إلى ذلك طابعًا خاصًّا ليس لأي من البلاد التي تحدثت عنها في هذا المقال، فليعذرني القارئ، وإلى المقال المقبل.