آثارنا الباقية في الأندلس
فكرت منذ نزلت مدريد في زيارة الأندلس، وطبيعي أن يدور هذا التفكير بخاطر كل مسلم تطأ قدماه أرض إسبانيا، فالمدن التي يسميها الإسبان اليوم سيفيليا وكوردوفا وجرانادا هي إشبيلية وقرطبة وغرناطة، الحواضر الإسلامية التي ازدهرت حين حكم العرب بلاد الإسبان، وكانت درة في تاج الحضارة لذلك العهد، ولا تزال في هذه المدن إلى اليوم آثار إسلامية تشهد بماضيها المجيد كمسجد قرطبة الجامع، وقصر إشبيلية، وقصر الحمراء ذو الشهرة العالمية بغرناطة.
طبيعي إذن أن أفكر في زيارة الأندلس لأول ما نزلت مدريد، ولكن متي أزورها، وكيف أزورها، من الذي يرشدني إلى أسرار هذه الآثار من غير حاجة إلى دليل من الكتب يقرأ الإنسان فيه ما شاء، ويقف منه على دقائق المظاهر البادية لهذه الآثار، ثم تفوته مع ذلك إسرار كثيرة يعرفها أولو العلم، ثم بين مدريد وكل واحدة من هذه المدن خمس مئة كيلومتر أو تزيد، فالقطار يقطع الطريق إلى أيها في يوم كامل، أو في ليلة كاملة، كنت أتحدث في هذه المصاعب بحضرة المستشرق الكبير الأستاذ جارسيا جومز فقال: إن بين مدريد وإشبيلية وبين مدريد وغرناطة خط طيران يقطع المسافة في ساعة ونصف ساعة، وتستطيع أن تنظم الرحلة مع مكتب من مكاتب السياحة الكثيرة في مدريد، فإذا نظمتها مع ابنتك أعطيتكما خطابات للقائمين على هذه الآثار والعالمين بدقائقها فسهل ذلك زيارتكم إليها، وشكرت الرجل وطلبت إلى ابنتي أن تزور مكاتب السياحة، وأن تدبر لنا أمر الرحلة.
وبعد أن تم هذا التدبير، وجاءت الخطابات التي كتبها المستشرق الكبير حسبت أن الأمر أصبح يسيرًا، فسنقطع أطول الطرق بالطيارة مبتدئين بإشبيلية، وسننتقل منها بالقطار إلى قرطبة، ثم نستقل الأوتوكار من قرطبة إلى غرناطة، وقطعت الطيارة ما بين مدريد وأشبيلية في ساعة ونصف ساعة، لكن ظني لم يصدق فيما قطعناه بعد ذلك بالقطار وبالأوتوكار، فلم أتنفس الصعداء إلا حين بلغنا غرناطة، وأيقنت أني سأستقل الطائرة منها عائدًا إلى مدريد.
وعربات الدرجة الأولى بالسكة الحديد الإسبانية ليس بها دواوين منفصلة، وليس بها ماء للشرب ولا محل للغسيل، وعربة الأوتوكار التي قطعت الطريق بين قرطبة وغرناطة قديمة متعبة يخشاها الإنسان في أماكن كثيرة من الطريق الذي يتسلق الجبال، وينحدر ويدعك ويدك على قلبك في أماكن كثيرة منه حيث تشعر كأنك موشك أن تهوي مع الركب جميعًا إلى قاع الوادي السحيق عن يمينك وعن يسارك.
مع ذلك فهذا الطريق الجبلي بديع بالغ الجمال يختلط أثناءه شعورك بالإعجاب مع شعورك بالخوف والحذر، ويتغلب الإعجاب في كثير من أجزائه فتنسى العربة التي تركبها، وتنسى ضجتها واضطرابها، وتحدق عن يمينك أو عن يسارك مأخوذًا بهذا الجمال الفاتن للسفوح الخضراء كستها أشجار الزيتون، وانتشرت عليها القرى الصغيرة، فإذا طال بك الإعجاب لم يسعك إلا أن تحدق بالسماء وأن تشكر البارئ جل وعلا؛ إذ أنعم عليك وعلى إخوانك بني الإنسان بما ترون.
أقلتنا الطائرة إلى إشبيلية في يسر وراحة، ومن مطار إشبيلية ذهبنا إلى الفندق وكانت الساعة الثانية ظهرًا، فنلنا طعامنا ثم نلنا حظًّا من الراحة، وسألنا عن مدير قصر إشبيلية فقيل: إنه ليس بمكتبة، وطلب إلينا أن ندع خطاب الأستاذ جارسيا جومز إليه حتى يبعث في طلبه، عند ذلك قالت ابنتي: فنلذهب إلى الكاتدرائية فقد رأيتها الصيف قبل الماضي، وعرفت ما فيها حين رحلتنا إلى إسبانيا مع مدرسة الألسن، وأنا واثقة من أنك ستعجب بها كل الإعجاب.
وخرجنا نريد الكاتدرائية، ولم يكن الطريق إليها هو الذي يعتبر كورنيشًا لنهر الوادي الكبير، بل كان هذا الطريق يمر بميدان غير بعيد عن فندقنا تكاد الكاتدرائية تصل به، ورأيت بعد الميدان بناء ضخمًا جعلنا نسير حذاءه ولا يكاد ينتهي، قلت لابنتي، فأين الكاتدرائية؟ … قالت: هذه هي مشيرة إلى البناء الضخم، وبعد لأي بلغنا آخر الجدار القريب من الميدان، ثم استدرنا إلى جدار عرضي، واستدرنا كرة أخرى إلى الجدار الذي سرنا طويلًا حذاءه، وبصرت في نهاية هذا الجدار ببرج ضخم رفيع، قالت ابنتي: إنه «الخيرالدا»، وإنه البقية الوحيدة من البناء الإسلامي الذي كان يقوم في هذا المكان ثم هدمه المسيحيون بعد خروج المسلمين من إسبانيا، ويروى أن هذه الخيرالدا كانت مئذنة لمسجد قامت الكاتدرائية مكانه، ثم بنى المسيحيون فوق المئذنة قبة لنواقيس الكنيسة، وقد أدهشني ما سمعت من ذلك، فأنا لم أعرف مئذنة مستقلة عن المسجد الذي تعلوه، ولم أعرف مئذنة بهذه الضخامة التي تعيد الخيرالدا بها إلى الذاكرة صورة الأبراج القائمة في البندقية على مقربة من كنيسة القديس مرقص، ومهما يكن من شيء فهذه الخيرالدا تشهد ضخامتها ويشهد جمالها بارتقاء الشعب الذي شادها في فن المعمار.
وتياسرنا بعد أن توقفنا طويلًا أمام هذه المئذنة التي صارت برجًا للنواقيس، ودخلنا الكاتدرائية، فبابها يجاور الخيرالدا ولم نخط فيها إلا قليلًا حتى امتلأت نفوسنا رهبة وإكبارًا، فالبصر لا يحيط بالكاتدرائية من أولها إلى آخرها؛ لفسحة رقعتها، وللظلمة التي تملأ جوها وتغمر كل ما فيها ومن فيها، فإذا أنت تيامنت أو تياسرت إلى جوانبها ألفيت في كل منها صفًا من المحاريب الكبيرة أو المعابد إن شئت؛ ليتسع كل واحد منها لعشرات من المؤمنين الذين يقصدون إلى العبادة فيها، وفي كل واحد من هذه المحاريب قطع فنية بارعة تمثل الحياة الدينية، فيها لوحات وتماثيل وأيقونات وصلبان محلاة بأنفس الجواهر، وبعض هذه المحاريب ملابس كبار القساوسة المطرزة بأسلاك الذهب والمزركشة بأنفس الجواهر.
وغادرنا الكاتدرائية إلى كورنيش نهر الوادي الكبير، وملنا إلى مقهى هناك قضينا به زمنًا، ثم عدنا إلى فندقنا حيث آوينا إلى الصباح.
وفي الصباح علمنا أن مدير قصر إشبيلية ينتظرنا لنزور القصر معًا؛ استجابة لكتاب الأستاذ جارسيا جومز، فلما كنا عنده مر معنا في جوانب القصر المختلفة وفي أبهائه وأفنيته العديدة، وبينما نحن في أحد الأبهاء أشار إلى طابق يعلو الطابق الأول وقال: إنه من بناء المسيحيين بعد جلاء المسلمين عن الأندلس، وذكر اسم الملك المسيحي الذي بناه، ثم قال: إن المباني التي تركها المسلمون كلها قد بنى المسيحيون فوقها أو أضافوا إليها، فلم يبق أثر منها خالصًا كما بناه المسلمون، وإن أمكن بيان الأثر الإسلامي وما أضيف إليه أو عليه.
ومن أروع ما يأخذ بالنظر في هذا القصر وفي محيطاته الحدائق المتصلة به، وأنت تشرف على هذه الحدائق من ممر طويل متصل بالطابق الأعلى يزيد طوله على مئة متر، وفي هذه الحدائق بطبيعة الحال أشجار غرست بعد العهد الإسلامي بزمن طويل، ولست أظن أن فيها ما يرجع إلى العهد الإسلامي، لكن عناية إدارة القصر بتعهدها ورعايتها وصيانة الجواسق المنتشرة في إرجائها تجعلها ناضرة أبدًا، وتجعله متاعًا للناظرين.
ومن بعد الظهر ركبنا عربة دارت بنا في أنحاء المدينة، ثم تخطت بنا إلى الجانب الآخر من الوادي الكبير حيث رأينا من مظاهر الحياة الإسبانية ما رأينا، ثم إننا عدنا بالعربة إلى الكورنيش الذي أدى بنا إلى غابة بديعة فيها تماثيل كان سائق العربة يذكر لنا ما تدل عليه، كما مررنا بمبان قال لنا: إنها مباني المعرض الذي أقيم بإشبيلية منذ سنين، وبعض هذه المباني متقن غاية الإتقان، وبعضها جميل يقف الناظر إليه طويلًا.
وفي البكرة من صبح الغد أقلنا القطار من إشبيلية إلى قرطبة، إلى هذه المدينة التي كانت يومًا ما حاضرة زاهرة تنشر العلم والحضارة في ربوع العالم، والتي تجاهد لتحافظ على هذا المجد ما استطاعت بعد أن جثت عليه السنون، وذهبنا بعد أن أزلنا عنا غبار السفر إلى المسجد الجامع بقرطبة؛ لأننا علمنا أن المسئول عن آثار المدينة يُصاحب الدكتور ناجي الأصيلي العراقي إلى هذه الآثار، ولأن برنامجنا لزيارة الأندلس كان يخصص لقرطبة يومًا واحدًا، واقتحمنا طرقًا ضيقة إلى المسجد أو «المسكيتا» كما يقول الإسبان، حتى إذا دخلناه ألفيتني في حيرة أدير بصري يمنة ويسرة؛ فإذا أنا في غابة من عمد ما أشبهها بعمد مساجدنا بالقاهرة، وبعمد الجامع الأزهر بنوع خاص، ولكنها غابة يتوه فيها البصر فلا يعرف أين أولها ولا أين منتهاها، وأخذنا ندور بالمسجد ثم ندور لنرى بعض جوانبه، وقد أحالها الإسبان كنائس تقام فيها صلواتهم المسيحية، وعلقوا على جدرانها الصورـ وأقاموا التماثيل والمذابح والصلبان … فلما درنا في أرجاء المسجد وما فيه من كنائس عدنا إلى الفندق؛ فإذا مدير الآثار يقبل علينا يدعونا لتناول الغداء، وإذا هذا الغداء في برج على شاطئ يرأسهم الوادي الكبير مع صحبة من الإسبان، العمدة يذكر لنا أنه يريد أن يقيم بالمدينة بعد سنوات معرضًا يدعو إليه البلاد العربية والإسلامية، قلت في نفسي: هذا مجهود صالح للمحافظة على مجد قرطبة بعد أن جنت عليه السنون.
ولم نزر مدينة الزهراء القريبة من قرطبة وقد قيل لنا: إنها أطلال يعمل المنقبون على الكشف عما تكنه من آثار إسلامية، وإن التنقيب لا يزال في مراحله الأولى، وقد آثرنا أن نشهد مصارعة الثيران التي أقيمت بعد ظهر اليوم نفسه بقرطبة.
وفي البكرة من صبح الغد أقلنا الأوتوكار من قرطبة إلى غرناطة، فلا أقف الآن هنا لأن غرناطة لا تكفيها بقية مقال، وقد لا يكفيها مقال كامل.