غرناطة وقصر الحمراء
واشنطن ارفنج من أكبر كُتَّاب الولايات المتحدة، عاش سن سنة ١٧٨٣ لسنة ١٨٥٩، وخلف وراءه ثروة أدبية رائعة طائلة، وقد عمل صدر شبابه في السلك السياسي لبلاده، وكانت إسبانيا بين البلاد التي قضى فيها سنوات من عمره، وفي هذه الفترة أقام زمنًا بالمدينة البديعة البارعة غرناطة، أو جرانادا كما يسميها الإسبان، وأقام معظم أيامه هناك بقصر الحمراء ثم ألف عنه كتابًا جعل عنوانه «أقاصيص قصر الحمراء» لا يزال مقروءا إلى اليوم.
وهذا الكتاب يقع في ثلاث مئة صفحة أو تزيد، ولست أريد أن أكتب مثل هذا القدر عن قصر الحمراء أو عن غرناطة كلها، فمقامي بها لم يتجاوز ثلاثة أيام، ولم تزد زياراتي لهذا القصر على اثنتين، مع ذلك اعترف بانني بلغ مني الإعجاب به والغبطة بالساعات التي قضيتها بين جدرانه، وفي حدائق جنة العريف المتصلة به أعظم مبلغ، حتى لا أستطيع أن أقول أكثر مما قال، لكني اكتفي بهذا المقال الذي أكتبه الآن عن غرناطة، ومعها قصر الحمراء وجنة العريف.
فقد أقلتنا عربة الأوتوكار في بكرة الصباح من قرطبة فبلغنا غرناطة بعد سبع ساعات من مسيرنا، وفي هذه الأثناء كان يتداولنا الإعجاب بمناظر السفوح والوديان الجميلة وبغراس الزيتون القائم عليها، والوجل لاضطراب العربة في تصعيدها فوق الجبال وانحدارها أحيانًا مع الطريق، فلما جاوزنا الساعة الواحدة بعد الظهر استقام الطريق، وانطلقت العربة مسرعة فيه، وقيل لي: إننا أصبحنا في مجاورات غرناطة، وبعد نصف الساعة بلغنا غايتنا وأوينا إلى فندقنا حيث نلنا حظًا من الراحة، واتصلت ابنتي بمديرة الآثار في غرناطة لتوصل إليها خطاب الأستاذ الكبير جارسيا جومز، فقيل لها: إنها لا تحضر إلى مكتبها إلا في الصباح، وإنهم سيبلغونها أمر هذا الخطاب، فإذا مرت بالفندق تناولته، وخرجت مع ابنتي نُريد الكاتدرائية، فالكنائس والمعابد في إسبانيا جديرة بأن تُزار لجمال عمارتها، وللثروة الفنية التي تحتويها، ولما تدل عليه من اتجاه التفكير القومي في كثير من النواحي.
وخرجنا نسير على أقدامنا، يا عجبًا ما أشبه غرناطة بمدريد، إنها مدينة حديثة لم يبق فيها من آثار الماضي ما بقي من إشبيلية وقرطبة، شوارعها فسيحة، والحياة فيها بادية النشاط وتبدو على وجوه أهلها سيما الغبطة والمسرة، وجلنا في أرجاء الكاتدرائية فلم يكن بها غيرنا إلا قليلون، أترى الإسبان هنا أكثر انصرافًا إلى الدنيا من أبناء جلدتهم في طليطلة وفي غيرها من المدن الإسبانية.
وكاتدرائية غرناطة لا تقاس في جمالها إلى كاتدرائية طليطلة، ولا إلى كاتدرائية إشبيلية، وإن كان بها مع ذلك من آثار الفن الشيء الكثير الذي يقف النظر.
وفي صبح الغداة من وصولنا حدثتنا مديرة الآثار، وقد علمت أنها آنسة تدور سنها حول الخمسين، وضربت لنا موعدًا بمكتبها في الساعة الحادية عشرة صباحًا، وذهبنا لموعدها فقيل لنا: إنها ترجونا أن ننتظرها بمكتبها؛ لأنها استدعيت على عجل لمقابلة طارئة، والمكتب غرفة من دار أثرية، وأمام هذه الغرفة مكتبة بها عدد ضخم من الكتب التي تتحدث عن الآثار، أما بقية الدار والطابق الأعلى منها بنوع خاص فمعرض لبقايا أثرية من العهد الإسلامي ومن غير العهد الإسلامي.
وقرابة الظهر جاءت الآنسة المديرة فاعتذرت بأن سيدة من جزر الكناري تمت بصلة نسب إلى قائد منطقة غرناطة جاءت إلى الأندلس تشهد آثارها، وأن حرم القائد دعتها لتحدث التعارف بينها وبين هذا السيدة لنزور معها قصر الحمراء، وسألتنا إن كنا نرى بأسًا بأن نكون جميعًا معًا في هذه الزيارة.
ولم نر بطبيعة الحال بأسًا بذلك، بل لقد سمعت من قبل عن جزر الكناري هذه ما جعلني حريصًا على أن أرى هذه السيدة، فقد قيل لي: إن الناس يتداولون أن الذين زاروا جزر الكناري من الرجال خرجوا منها جميعًا متزوجين لجمال نسائها.
وضربت الآنسة المديرة موعدًا بعد الظهر لنزور قصر الحمراء، وفي الموعد أقبلت وذكرت لنا أن السيدة الكنارية تنتظرنا في عربة الجنرال، وخرجت وأنا أُريد أن أتحقق صدق ما يقال، وأحدثت المديرة التعارف بيننا فحدقت بالسيدة فإذا هي تُجاوز الأربعين، وتحدثنا فنمَّ حديثها ونمّ احترامها لذاتها عن أنها من أسرة كريمة، وزرنا القصر هذا اليوم ثم زرناه الغداة، وحانت فرصة تركتنا المديرة أثناءها وذهبت ابنتي تشتري لي كتبًا عن غرناطةأ فسألت السيدة الكنارية إن كانت أمًّا لأولاد، وحجب هذا السؤال بعض النور الذي كان يشيع في وجهها، وأخرجت من حافظتها صورتين أرتني إياهما؛ فإذا هما لشابين في الحادية عشرة والثانية عشرة، وقالت: لقد ماتا في حادث غرق واقع بين جزرنا، وسألتها عن سائر أبنائها فعلمت أن لها غير هذين الابنين سبعة أطفال، أرتني صورهم جميعًا، وقد أشاع منظر هذه الصور روح البهجة في نفسها من جديد، قلت في نفسي: ترى أي أثر تركته هذه الحوادث في حياة هذه السيدة المهذبة وفي جمالها، ثم حاولت ما استطعت أن أهون عليها ما بدا من ألمها حين ذكرت حادث ولديها اللذين ماتا.
زرنا قصر الحمراء في يومين متعاقبين، ولا أظن مع ذلك أننا أحطنا بكل جوانبه، والقصر يقع على هضبة عالية تتحكم في غرناطة من كل نواحيها، فأنت تصعد إليه في السيارة دائرًا حول جوانبه متلويًا كما تتلوى حين تصعد الجبل، فلما وقفنا أمامه اليوم الأول أسرعت المديرة فنبهتنا إلى أن هذا البناء الذي نراه ليس من بناء المسلمين، وإنما بناه الملوك المسيحيون من بعد، كما فعلوا في جميع المباني التي تركها المسلمون بإسبانيا، وقد تخطينا هذا البناء مسرعين، وأخذنا ندور في جوانب القصر الإسلامي البارع البديع، لا تستطيع كلمات الدهشة والإعجاب والبهر وما إليها أن تُعبِّر عما تشعر به وأنت تنتقل بين أبهائه وأفنيته وردهاته وما إلى ذلك من إيواناته ودواوينه التي لا يحصيها العد، وأول ما يلفت نظرك روح البهجة التي يتضوع بها هذا البناء، خصوصًا إذا قارنته إلى المباني الغوطية المسيحية في القصور والمعابد، فقصر الحمراء كله ضياء، وارتفاعه فوق الهضبة ونوافذه الواسعة تزيده ضياء ونورًا، وقد عُنيت الحكومة الإسبانية بتعهده وصيانته عناية فائقة، بعد أن كادت بعض العهود السابقة تدك جدرانه؛ إذ أصبح فيها نهبًا للصوص وقطاع الطرق، وأن من أبهائه وأفنيته وإيواناته لما يقف النظر حتى لا يكاد الإنسان ينصرف عما سواه، ثم إذا ما سواه لا يقل عنه بهاء، من ذلك بهو السفراء، ومنه فناء الريحان، وفناء الريحان هذا تجري في وسطه المياه ويحيط به غراس من الريحان يشيع فيه بهجة وغبطة، ومجاري المياه في قصر الحمراء بديعة التنسيق حتى لتشك في أنها كانت كذلك يوم إنشائه، وتحسب أنها أدخلت عليها من آثار الصناعة الحديثة أسباب الدقة والجمال.
ولست أستطيع أن أقف عند كل بهو أو ردهة أو فناء من هذا القصر البديع الساحر، وحسبي أن أذكر أننا قضينا اليوم ساعات في أرجائه، فلما أذن النهار أن يولى قالت لنا مديرة الآثار: إننا يجب أن نعود الغداة لنرى بقية القصر، ولنرى كذلك حماماته فهي طراز جدير بالتفرج عليه.
وقضينا صبح الغد نجوس خلال غرناطة متنقلين بين أسواقها ومقاهيها وكنائسها، ونحن نمرح في جوها البديع يزيدنا متاعًا بجمالها ورقة أهلها، فلما كنا بعد الظهر جاءت مديرة الآثار في مثل موعدها بالأمس فذهبنا نتم دورتنا في قصر الحمراء، ولم تقف عند شيء مما رأينا من قبل، بل تقدمتنا المديرة في طرق من حولها آثار جدران تشهد بأن المباني التي كانت هناك هدمت، وأن هذه المباني كانت بعض ما خلّفه المسلمون، وها هنا وهناك جعلنا نقف أمام بناء تقص مديرة الآثار من أخباره ما يشوق، ولعل للتاريخ في شأنه رأيًا آخر، فهذا البيت الأنيق الصغير كان لملكة غضبت أن تزوج عليها الملك، فبنى لها هذه الدار تتبتل فيها بقية حياتها، وهذا البناء كان لبعض الأمراء ممن تغير عليهم صدر الملك فاتخذوه ملجأ من غضبه حتى يعود إلى رضاه، وبين كل واحد من هذه المباني والآخر فسحة من الأرض تذكرك بما يقوله المؤرخون من أن قصر الحمراء وملحقاته كان يتسع لجيش عدته أربعون ألفًا يستعين بهم الملك على أعدائه، وعلى الثائرين به من أمراء العرب أنفسهم.
وانحدرنا ثم انحدرنا وإذ بنا ندخل أسفل القصر حيث الحمامات، فلما جلنا خلالها ونظرت إلى مغاطسها ومتكآتها ورفعت بصري إلى سقفها المقوسة المفرغة أحجارها ليوضع الزجاج فيها فيضمها؛ ابتسمت وذكرت حمامات القاهرة العامة في أوائل هذا القرن العشرين، وما لعله لا يزال باقيًا من مثل هذه الحمامات التي يسميها الناس الحمام التركي.
على أن حمامات قصر الحمراء تمتاز بالسعة وبالتعدد، فبعضها للملك أو للأمير، وبعضها لزوجته، وبعضها مزدوج حتى يرى كل واحد منهما الآخر في مغطسه، وكذلك بلغ الترف من بناة هذا القصر ذلك المبلغ العجيب.
وتركنا الحمامات والقصر وذهبت بنا السيارة إلى جنة العريف، وألفينا حرم قائد المنطقة تنتظرنا، فتركنا السيارة وفتحت أمامنا أبواب الجنة، وجعلنا نصعد فيها ثم نصعد ونحن في كل خطوة نخطوها في نشوة بل في ذهول، فهي جنة حقَّا، مياه جارية، وشذى يتضوع من نبات شتى، وأشجار باسقة تحيط بهذا النبات، وجو منعش يحتمل هذا كله، وهذا كله يتدرج ثم يتدرج وأنت تقف منه في مرحلة بعد مرحلة؛ فتشعر كأنك في حلم من الأحلام أو في ليلة من ليالي ألف ليلة، كل ما حولك يتضوع جمالًا ورقة وطيبًا، وما شئت فقل من هذه المعاني المحسوسة التي تبعث إلى النفس الصبوة، وتجعلك تقدر ما للطبيعة من ساحر البهاء والجلال.
قيل لي ونحن في هذا الجو: إن بعض الشعراء والمؤلفين المسيحيين كانوا يجيئون إلى جنة العريف يقضون فيها الأيام يستلهمون وحيها لشعرهم ولموسيقاهم، ولعمري لقد اهتدوا إلى خير مكان ينزل فيه هذا الوحي وينبعث منه هذا الإلهام، إن هذه الجنة لتُريك من طيب الحياة وبديع أنعمها ما يزيدك تعلقًا بها وحبَّا لها وإمساكًا عليها.
وتركنا جنة العريف بعد مغيب الشمس بساعة، وعدنا أدراجنا إلى غرناطة نتتظر فيها صبح الغد لنستقل الطائرة عائدين منها إلى مدريد.
وكذلك قضيت في غرناطة ثلاثة أيام متعت بها خير متاع، ثم عدت بعدها إلى مدريد، لأعود منها إلى مصر فانهض بأعباء الحياة بعد أن قضيت شهرين في ربوع أوروبا استمتعت فيهما بخير أنعم الحياة.