خان الخليلي في طليطلة
نزلت مدريد في منتصف سبتمبر الماضي، وكانت زيارة الأندلس على رأس برنامجي لإسبانيا؛ إذ كنت حريصًا على أن أقف فيها على الآثار الإسلامية في المدن التي كانت عواصم في العهد الذي كان فيه الحكم للعرب، أمثال: إشبيلية وقرطبة وغرناطة، لكني علمت غداة نزولي مدريد أن بينها وبين كل واحدة من هذه المدن خمس مئة كيلومتر أو تزيد، وأني يجب أن أضع لزيارتها نظامًا خاصًّا، وأن أستعين بمن يرشدني فيها إلى أسرار الآثار التي أُريد الوقوف عليها، قال صاحبي بعد أن قضيت في العاصمة الإسبانية أيامًا، وما لنا لا نذهب إلى توليدو — طليطلة، كما كان العرب يسمونها — إن بينها وبين مدريد مئة كيلومتر أو نحوها، ونستطيع أن نصل إليها بالسيارة في أقل من ساعتين، وبها من الآثار ما لا يقل عما بالأندلس، وقد كانت زمنًا غير قليل عاصمة الحكم في عهد المسلمين، وقد احتفظت إلى اليوم بطابعها القديم أكثر مما احتفظت به غيرها من بلاد الإسبان، هذا إلى أن الطريق إليها جدير بأن يرسم أمامك صورة من الريف الإسباني أكثر مما يرسمه الطريق إلى الأندلس إذا جال بخاطرك أن تذهب إليها بالطائرة، وأقنعتني أقواله واتفقنا على الذهاب إلى طليطلة الغد، وأقلتنا السيارة في طريق جميل استمر كذلك زهاء عشرين كيلومترًا بعد خروجنا من مدريد، ثم استمر جميل الرصف إلى توليدو، لكنه كان في كثير من أجزائه يخترق صحراء جرداء شبيهة بصحارينا، كما أن القرى الواقعة على جانبيه كانت تشبه القرى المصرية، وإن كانت أغلب أمرها أحسن نظامًا وأجمل بناء.
وبلغنا توليدو، أو طليطلة ووقفت بنا السيارة في ميدان أستوقف نظري، ما أشبه المباني المحيطة به بالمباني التي كانت في القاهرة القديمة أوائل هذا القرن العشرين، والتي اندثرت أو هي في طريق الاندثار؛ لأن المباني الحديثة تحل محلها، أما توليدو فبقيت على حالها لم يحل جديد فيها محل القديم، بل ظلت مبانيها اليوم وكأنها هي هي التي كانت قائمة منذ مئة سنة أو مئتي سنة أو أكثر من ذلك، وجلسنا إلى مقهى في جانب من الميدان، فذكرت ونحن في مجلسنا مقاهى قديمة كانت حول مسرح الأوبرا بالقاهرة، وكان الناس يجلسون إليها، وكان آباؤنا وأعمامنا يذكرون لنا أن السيد جمال الدين الأفغاني كان يجلس في أحدها، فلما تناولنا قهوتنا وغادرنا المقهى وقع نظرنا على متجر به أوان نحاسية كالتي يراها السائحون بخان الخليلي بحي سيدنا الحسين، وبه أسلحة بيضاء صغيرة، وتقدم منا غلام لا تزيد سنه على الثانية عشرة يقول بالإسبانية: إن بضاعة هذا المتجر متهاودة الثمن، وإنه يستطيع أن يعاوننا في تخفيض هذا الثمن المتهاود، لكن صاحبي كان يعرف توليدو، وكان يطمئن بها إلى متجر خاص اشترى منه غير مرة أشياء لنفسه ولأهله، فآثر هذا المتجر الذي يعرفه، ودعانا لنذهب إليه بعد أن نشهد دارًا قريبة من الميدان استحالت اليوم متحفًا فيه معروضات من العهد الإسلامي، ولعلها كانت في ذلك العهد مصحة أو مستشفى.
وذهبنا إلى هذا المتحف فإذا به فناء كبير يطل عليه بهو طويل به معروضات عربية إسلامية ومعروضات أخرى قيل: إنها من قرطاجنة أو من بلاد المغرب، ومعظم الآثار الإسلامية في هذا المعرض لوحات من الجبس أو الحجر نُقشت عليها آيات قرآنية أو حكم عربية قديمة بالخط الكوفي، وبعض هذه الآثار لوحات وُجدت على قبور كانت للمسلمين وعليها أسماء أصحابها وتاريخ ميلادهم ووفاتهم، وتمتاز هذه الآثار الإسلامية جميعًا بالبساطة غاية البساطة، وقد كان معنا دليل يشرح ما تدل عليه، فإذا ما كنا نقرؤه مكتوبًا فيها أفصح دلالة مما كان يذكره.
وصعدنا إلى الطابق الأعلى ودرنا في أرجائه؛ فإذا معظم معروضاته لا تتصل بالعرب ولا بالمسلمين، بل جيء بها من عهود مختلفة في نظام يفضله بعضهم على نظام البهو الذي اشتمل الآثار العربية الإسلامية.
وغادرنا هذا المتحف وقد تخطت الشمس الزوال، واجتازت بنا السيارة المدينة، ووقفت بنا عند المتجر الذي يؤثره صاحبي؛ فإذا على بابه فتاة صبوحة الوجه واسعة العينين حلوة النظرات قمحية اللون، ترتسم على ثغرها ابتسامة رقيقة كأنها ابتسامة الجوكندا، وقد ائتزرت بمئزر من حرير مطرز، ووضعت على رأسها شالًا إسبانيًّا جميلًا، قال صاحبي: إن لباسها هذا هو لباس أهل توليدو القومي منذ عصور خلت، بل منذ العصر الإسلامي، ثم إننا رأينا على مقربة من الفتاة فتى يلبس سراويل ضيقة وقبعة من الجوخ عالية، قيل لنا: إنهما لباس أهل المدينة القومي، وعلمنا أن الفتاة والفتي هما ابنا صاحب المتجر، وأنه ألبسهما هذا اللباس؛ لأنه يبيع هذه الألوان من الأقمشة المزركشة، فهما نوع من الإعلان عن بعض ما عندهم من صناعة توليدو.
وذهبنا نتناول غداءنا؛ فإذا طرق المدينة تشهد بقدمها أكثر مما يشهد الميدان الذي وقفنا به أول وصولنا إليها، فهي طرق ضيقة لا تتسع لمرور السيارة بها، فكنا نضطر إلى الدوران حول المدينة؛ لنتمكن من بلوغ المكان الذي نقصد إليه، والمباني في هذه الطرق الضيقة قديمة الطراز فكأنها شيدت من مئات سنين خالية.
وكنا بعد الغداء نُريد أن نزور ما بقي من آثار المدينة، فزرنا دارًا قيل: إنها كانت مسجدًا إسلاميًّا، ثم أضيفت إليها مبان لتجعلها كنيسة، لكنا حين دخلنا المكان ألفيناه أدنى إلى أن يكون أطلالًا تثير في النفس حسرة، منه إلى أن يكون مسجدًا أو كنيسة.
وزرنا كذلك معبدًا لليهود لم يبق معبدًا، بل صار متحفًا أثريًّا يزوره السائحون ثم لا يجدون به الشيء الكثير.
فأما ما يقف النظر ويستحق التسجيل فالكاتدرائية وبيت الجريكو.
والجريكو مصور مشهور، ولد بكريت من جزر شرق البحر الأبيض المتوسط، ثم ذهب إلى إيطاليا، واستقر به المقام بعد ذلك في إسبانيا، ثم بقي اسمه الجريكو نسبة إلى الجريك؛ أي: الإغريق، وقد تبنت إسبانيا هذا المصور كما انتسبت هو إليها، وأصبح اسمه علمًا من أعلام مصوريها أمثال جويا وفلاسكيز وأمثالهما من كبار المصورين، وللجريكو صور كثيرة معروضة في مدريد، ولعل له كذلك صور في مدن أخرى.
فأما بيته في توليدو فمتحف صغير بديع بالفعل، تعهدته السلطات الإسبانية خير تعهد، فعُنيت بحدائقة عناية تامة، وعُنيت كذلك بصيانته وصيانة أثاثه حتى يبقى أمام زائره وكأن ساكنه غائب عنه، فإذا عاد إليه وجده مستعدًا للقياه أحسن اللقيا، تدخل من بابه إلى فنائه فترى به غرفًا عدة، إحداها مرسم يحسب الإنسان أن الجريكو كان يعمل به منذ قليل، وطائفة أخرى من الغرف في الطابقين الأسفل والأعلى أصغرها لنوم المصور، مما يدل على أنه لم يكن متزوجًاـ وبعضها لراحته، وبعضها لأهوائه، وسعة البيت تدل على أن الجريكو قد بلغ حين مقامه فيه حظًّا من الثراء غير قليل.
وفي جانب من البيت بهو فسيح عرضت فيه صور بارعة من ريشة صاحبه، ولست أدري أشيد هذا البهو من بعدُ ليكون متحفًا تُعرض فيه هذه الصور، أم كان البهو مشيدًا في حياة الجريكو ليعرض فيه ما تنتجه ريشته، أقول هذا لأنني رأيت بمدريد في بيت الرسام الكبير الأستاذ كوماندادور، وفي طابقه السفلي بهوين معروضة فيهما تماثيله وهو يغتبط إذ يقف أمام هذه التماثيل مع زواره بين حين وحين.
هذا بيت الجريكو، فأما الكاتدرائية فتحفة في فن العمارة بعظمتها وجلال ظاهرها ومهابة داخلها، وقد وقفنا طويلًا فجعلت أجيل النظر في بابها الفخم وفي نقوشه البارعة وأقواسه الجميلة، أما داخلها فرهيب بضخامة عمده، وبزجاج نوافذه البديع التصوير والتلوين، وبما ترى في جوانبه المتعددة من صور وتماثيل وآثار دينية لها في الكنائس الكاثوليكية نظائر، وإن كانت هنا أكثر عددًا وأغلى قيمة، وتلك لعمري ثروة بل هي ترف يؤاخذ البروتستنت الكاثوليك بالغلو فيه؛ لأنهم يرون أن الدين ينهى عن الترف ويدعو إلى التقشف.
على أن بكاتدرائية توليدو من هذه المظاهر ما يُبهر النظر ويدعو إلى التفكير الطويل، فهناك أكثر من غرفة بها لملابس كبار القسيسين طرزت من أبدع صنوف الحرير، وزركشت بالجواهر الكريمة الغالية الثمن حتى لتتمنى أجمل حسناء أن يكون في ثوبها بعض هذه الجواهر، وأن يطرز من هذا الحرير، وليس ذلك كل ما هنالك، ولقد نبهت أصحابي إلى أن الوقت يمضي فقيل لي: إننا يجب أن نزور غرفة الكنوز، وألقيت بنظري إلى باب هذه الغرفة الفسيحة؛ فإذا صدرها يلمع بالذهب الخالص صيغ في أشكال مختلفة من الصلبان والتماثيل وغيرها، فلما جاء دورنا ودخلنا الغرفة ودرت إلى جانب جدرانها الأربعة لم أكن أصدق نظري في بعض الأحيان، فالثروة الضخمة التي احتوتها هذه الغرفة تجعلها غرفة الكنوز بالفعل، والذهب والماس والجواهر الكريمة المختلفة الدقيقة الصنع تُزيدها قيمة وقدرًا من الناحية المادية ومن الناحية الفنية.
وغادرناها ثم غادرنا الكنيسة وغادرنا توليدو عائدين إلى مدريد، ولا يزال الكثير من صور الآثار التي رأيتها يبتدي لناظري ويُثير اعجابي، ولا تزال عمارة توليدو وقدمها وضيق طرقها أشد إثارة لعجبي، كيف لم تُغير الحضارة الحديثة هذه الصورة مع ما لهذه الحضارة من بأس وسلطان، لا بد أن يكون لماضي توليدو سلطان أقوى من سلطان الحاضر هو الذي يحفظ عليها جلال قدمها وبراعة آثارها، والطابع الفذ الذي تمتاز به على غيرها.