المسلمون في المجر
زرت بودابست من عشر سنوات وليس يجول بخاطري أن بها أحدًا من المسلمين، أو أن بها منهم عددًا يُذكر، ودارت الأيام بعد ذلك دورتها واتصلت بالأستاذ جول جرمانوس الذي أسلم وتسمي باسم عبد الكريم، وزار مكة وأتم فرائض الحج، فعلمت منه أن ببودابست عددًا من المسلمين يتجاوز الخمس مئة أو الست مئة، وأن بالمجر عددًا يزيد على ثلاثة آلاف، فلما كنت ببودابست هذا العام بين ممثلي مصر في مؤتمر بلاد المياه المعدنية جمعتني الصدفة في بلاتون الحمامات برجل ذكر لي أنه يُعنَى بأمر المسلمين، وأنه يعرف مفتي بودابست الأكبر الأستاذ حسني حلمي، وإني كمسلم يجمل بي أن أزور قبر جل بابا، فهو قبر يجله مسلمو أوروبا جميعًا، ويجله عدد عظيم من المسيحيين في بلاد المجر ويزورونه ويتبركون به.
وعدت إلى بودابست من بلاتون ثم لقيت صاحبي هذا فاستصحبني وصديقًا من إخواننا المصريين المسلمين حتى بلغنا منزل المفتي الأكبر، وذهب يلتمسه ثم جاء به وذهبنا جميعًا نزور قبر جل بابا، وكان موعد الزيارة مثيرًا للدهشة، كانت الشمس قد غربت لساعتين مضتا، وكنا نجوب طرقًا لا تكاد تكون مطروقة، والمفتي يحدثنا أثناء ذلك عن مسلمي المجر وعما يعتزمه من إقامة مسجد لهم يقيمون فيه صلواتهم، ويذكر ما اكتتب به المسلمون من الهند ومن غير الهند لهذا الغرض، ولما سألته عن حال هؤلاء المسلمين المجريين بدت في نبرة صوته رنة الأسف، وقال في عربية تشوبها العجمة: «نحن مساكين فقراء، والمسلمون هنا جهلاء لا يعرفون شيئا من أمر دينهم، فليست لنا مدارس إسلامية، ولسنا نملك ما نتعلم به في غير هذه البلاد، والأموال التي اكتتب بها المسلمون لا تزال محجوزة عنا ننتظر إذن إنجلترا بالسماح لها أن تدخل المجر». وبعد هنية صمت كرر: «نحن مساكين، وأكثر المسلمين لا يعرفون من أمرنا شيئًا، ومن عرف منهم إنسانا لم يفد منه أكثر من السماع به؛ ولذلك نخاف على الإسلام في المجر».
وقفت السيارة في خانة طريق يكاد يكون مهجورًا، وتقدم الرجل الذي لقينا في بلاتون إلى باب في جانب الطريق الفسيح فدخل منه مسرعًا، وسرنا يحدثنا المفتي متمهلين، فلما اجتزنا الباب كان صاحبنا قد سبقنا إلى اليسار فأردنا أن نتبعه، لكن المفتي تيامن قائلًا: لقد ذهب يجئ بمفتاح القبر من حارسته، وارتقينا سلمًا أمامنا ثم تيامنا وارتقينا سلما آخر، ثم إذا بناء إلى يسارنا يبدو عليه أثر القِدم، وسأل صاحبي عن البناء فأجاب المفتي، هذه نكية قديمة بنيت في عهد الأتراك، وأنا أعتزم أن أقيم المسجد ها هنا، ولذلك سنهدمها، قال صاحبي: إنكم لا تحسنون بهدمها صنعًا، فهي أثر قديم، وللآثار حديث عميق المغزى، وليتكم تجدون الوسيلة لإقامة المسجد دون هدمها.
وسرنا إلى جانب الجدار ثم ارتقينا سلما ثالثًا أو رابعًا، فالمكان هضبة من الهضبات المحيطة ببودابست، والتي يقع أكثرها بناحية بودا، وبعد مسيرة بضع مئات من الخطى تقدمتنا امرأة في يدها شمعة تضيء لنا الطريق، وإن أضاء لنا هذه اللحظة ضوء القمر بما اتاح لنا السير فيه دون كبير عناء، وبلغنا بناء وقفت هذه المرأة أمام بابه وفتحته فدخلنا مقصورة جل بابا.
والمقصورة غرفة بسيطة يتوسطها القبر، وقد بني على طراز قبورنا المصرية، فجعلت عليه تركيبة ووضع على شاهده غطاء رأس أشبه بالعمامة لعله هو الذي كان يلبسه جل بابا، من أربع مئة سنة، وقد حدثني المفتي عن تاريخه فلم يزد على أنه كان رجلًا عادلًا بلغ من عدله أن النصاري لا يزالون يذكرونه بالخير، ولا يزال ألوفهم يجيئون إلى قبره للتبرك به، وبعد حديث بالعربية المعجمة عن فضائل هذا الفقيد الذي يُذكِّر المفتي المسلم بعهده الذي كان المسلمون أثناءه بالمجر أصحاب الكلمة النافذة لم يكونوا «مساكين» كما هم اليوم، طلب الرجل إلينا أن تُقرأ الفاتحة على روح هذا الفقيد العادل، وسبقنا إلى تلاوتها بصوت لم يرفعه ولم يخافت به، بعد ذلك درنا في أنحاء الغرفة البسيطة التي ليست فيها نافذة يدخل منها الهواء ثم خرجنا نتحدث في أمر المسلمين بالمجر وما هم عليه من فقر وجهل، وما يجهل المسلمون في أنحاء العالم المختلفة من أمرهم حتى ليظنوا حديثهم حديث خرافة.
خرجنا تتقدمنا المرأة بمصباحها، فلما بلغنا سيارتنا عدنا بالمفتي إلى مقره في أونيل اسبلاناد ثم رجعنا أدراجنا إلى فندق صاحبي.
•••
تحدثنا أثناء الطريق عن هؤلاء المسلمين في أوروبا، فلما بلغنا الفندق ومقهاه وضجته نسيناهم، وتحدثنا في شئون أخرى، وتحدثنا في وليمة الليلة التي أقامتها البرنسيس جوزفا فرانسيس بفندق جران لأعضاء مؤتمر المياه المعدنية، على أنني ما لبثت حين خلوت إلى نفسي أن عدت أفكر في المسلمين وأمرهم، هؤلاء جماعة قليلون من إخوانهم المؤمنين ألقت بهم أيدي المقادير في بلاد مسيحية، وعهدنا بالأقليات أن تتعاون وأن يعاونها إخوانها في البلاد الأخرى بحياتهم وبمالهم وجاههم، فما لنا لا نعرف من أمر هذه الأقلية المسلمة بالمجر شيئًا، وما لنا لا نمد إليها يد المعونة، والأقليات المسلمة في بلاد العالم المختلفة كثيرة، ففي بولونيا عدد لا يستهان به من المسلمين، وفي روسيا عدد من المسلمين غير قليلين، وفي أنحاء العالم كله من يذكر الله ويذكر التوحيد ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، أفبلغت بنا الأنانية في البلاد الإسلامية، ولا أخص مصر وإن كنت أحملها النصيب الأوفى أفبلغت من الأنانية ألا نعرف إلا أنفسنا، ولا نفكر إلا في أنفسنا، ولا نذرك إخواننا هؤلاء في الدين، ولا يدور بخاطرنا أنهم قد يصبحون بنا قوة حاسمة الأثر في حياة العالم، وأنا قد نصبح وإياهم عنصرًا فعالًا لخير الإنسانية، أم أن اليأس تولانا من صلاح أنفسنا فكنا أشد يأسًا من إصلاح غيرنا أو مد اليد إليه بأي نوع من أنواع المعاونة.
إن هؤلاء المسلمين من أهل المجر غير ملومين لفقرهم وجهلهم، فهم أقلية لا يمكنها أن تحيا حياة استقلال ما لم تجد عونًا وعطفًا من أمة أخرى، والأكثرية المسيحية من أهل المجر غير ملومة إذا لم تعلم المسلمين تعليمًا إسلاميًّا، فلا تطالب حكومة في أمة من أمم العالم بأن تعلم أبناءها دينًا غير دينها الرسمي، والأقليات التي تبلغ من القوة في أمة ما بحيث يصبح لها الحكم والتصرف في أمر الأكثرية، هي التي تستطيع أن تفرض تعليم دينها في مدارس الدولة، فلا بد إذن من أن يجد هؤلاء المسلمون المقيمون بالمجر، وأن يجد غيرهم من أقليات المسلمين في بلاد مسيحية أو غير مسيحية عطفًا عليهم من إخوانهم في بلاد العالم الإسلامية؛ لتكون لهم مدارس تعلمهم دينهم وتفقههم فيه، وليكون لهم إلى جانب المدارس مستشفيات وجمعيات تقوم بأعمال البر والخير، وليجدوا ما ينقذهم من مخالب الفاقة والجهل، وليستطيعوا المعاونة على النهوض الإنساني والقيام من ذلك بحظ محمود.
أعلم أن قومًا سيزعمون أني أكتب من ذلك ما أكتب بدافع ديني إسلامي لعلهم يسمونه التعصب، ولو أن الأمر كان كذلك لما تبرأت منه ولا التقيته، لكنني أقول مع ذلك لهؤلاء أنتم مخطئون، إنما هو عامل إنساني يدفعني إلى تحريض المسلمين على معاونة هذه الأقليات لخير الإنسانية ولمصلحة السلام العالمي، فكما أن هذا السلام لا يتم في عالمنا الحاضر ما لم يوجد التوازن السياسي بين الأمم فهو كذلك لا يوجد ما لم يوجد التوازن بين الأديان وبين أسباب المعيشة في الحياة الاقتصادية، والمسلمون إذ يسمعون بما عليه إخوانهم في الدين ممن يقيمون بالمجر وبغير المجر من البلاد ذات الأغلبية المسيحية لا ينظرون إلى ما عليهم من تبعة التقصير في حق إخوانهم، بل ينظرون إلى الأمر على أنه ظلم المسيحيين للمسلمين، هنالك تغلي في النفوس حفائظها ويظل السلم بذلك معرضًا للقلاقل.
ولو أن المسلمين نظروا إلى الأمر من ناحية ما عليهم فيه من تبعة فعملوا لإزالة تقصيرهم؛ إذن لرأيت هذه الأقليات الإسلامية المهددة بالفقر والزوال تنهض من كبوتها لتعود إلى الحياة بعودها إلى نور العلم وبمعرفتها طريق الحياة الروحية، إذ بذلك تنفض عنها غبار الجمود وتصبح قوة عاملة للخير والسلام، وبذلك ينتفي من نفوسهم الظن بأن المسيحية تعمل للقضاء على أقلياتهم كيما تعفي على الإسلام ما استطاعت، كما فعلت من قبل مع المسلمين في إسبانيا وغير إسبانيا في العصور الماضية.
إذا دعوت المسلمين إذن في مشارق الأرض ومغاربها ليمدوا يد المعونة إلى هذه الأقليات الإسلامية في المجر؛ فإنما يحركني دافع إنساني لا يقف الداعي إليه عند العاطفة الدينية، وها نحن أولاء نرى في مصر وفي غير مصر من بلاد الشرق الإسلامي جهود المسيحيين من أقطار الأرض المختلفة لخير المسيحية والمسيحيين، ونرى هذه الجهود تبلغ في بعض الأحيان مبلغًا يكاد يكون معجزًا، فالمدارس المسيحية في مصر وفلسطين، وهما بلدان إسلاميان تثير في النفوس عوامل العجب تارة والإعجاب تارات، وجمعيات الشبان المسيحية أكثر نشاطًا في البلاد إلى تكون المسيحية فيها أقلية منها في البلاد المسيحية بطبيعة أكثريتها، بل أكاد أقول: إنني لم أر جمعية شبان مسيحية في بلاد مسيحية، بينما أراها تبذل جهودها الضخمة في البلاد التي يكون المسيحيون فيها أقلية، وتكون الكثرة فيها لغيرهم، وإذا كان المسلمون يصيحون بين حين وحين وينادون في خوف مما لهذه المؤسسات من أثر على المسلمين وعقائدهم؛ فخير من ذلك أن يعملوا مثل هذا العمل في البلاد التي يكون المسلمون فيها أقلية كما هو الشأن في المجر وفي غير المجر من البلاد الأوروبية.
كم أود أن تثمر هذه الدعوة، وأن تتكون هيئة في مصر تدعو غيرها من الهيئات في البلاد الإسلامية للعمل لإنشاء مسجد ولإنشاء مستشفى ومطعم للفقراء وهيئات خيرية مختلفة، وأن لا يقف ذلك عند الكلام فيكون أقل ثمراته، وكم أود أن يكون تكوين هذه الهيئة فاتحة عمل منتج في هذه النواحي من الحياة في البلاد التي يكون المسلمون فيها أقلية محتاجة لعون المؤمنين من إخوانها في الدين، وما أشك في أن غير المسلمين ينظرون إلى ما يبذل من مجهود في هذه الناحية بعين الغبطة إذا كانوا قومًا مستنيرين لم يغش التعصب الأعمى على عيونهم، فكل مجهود أساسه التضامن تبذله الجماعات للخير فيه فائدة للإنسانية وفائدة لنشر العرفان فيها، وفيه كذلك فائدة للسلام العالمي.
إننا معشر المسلمين متهمون بأننا نقول ولا نفعل، ويعلو صياحنا في بعض الأحايين، ثم إذا هذا الصياح يخفت، وإذا كل منا اتقلب إلى داره لا يفكر إلا في نفسه وفي مصالحه، ثم لا يكون له من صياحه إلا أنه خدع الناس عن أنانيته، أفنستطيع أن ندفع هذه التهمة بعمل في هذا الأمر الخاص بأقليات المسلمين يكون له في العالم كله مظهره وأثره، إن للأمر من الخطر في شتي صوره ما لا يغيب عن النظر، فليعمل المسلمون، وليكونوا بذلك قوة ذات أثر فعال في حياة العالم.