هلسنكى والمؤتمر البرلماني
ولعل هذا كان طبيعيًّا بالنسبة لي، فقد رأست مؤتمر القاهرة في سنة ١٩٤٧ بوصفي رئيس مجلس الشيوخ المصري، ثم انتخبت في المؤتمر المذكور عضوًا باللجنة التنفيذية للاتحاد البرلماني الدولي، فكنت أحضر اجتماعات الاتحاد ثلاث مرات في كل عام، وكنت متتبعًا خطواته بدقة وعناية، فلا عجب وقد انقطعت عنه سنتين أن تنازعني نفسي إلى شهوده، وبخاصة بعد أن انعقد مؤتمر جنيف لرؤساء الدول الأربع الكبرى فاتجه بالسياسة الدولية اتجاهًا جديدًا.
لذا كتبت إلى لورد ستاستجيت رئيس الاتحاد، وإلى مسيو أندريه دبلوني سكرتيره العام، فرحبا بشهودي المؤتمر، وبعثا إليَّ يشجعانني على تحقيق هذه الرغبة.
وزادني إقبالًا على تحقيق هذه الرغبة اعتبار عائلي واعتبار شخصي، أما الأول فلأن ابن أخي يقيم بزيوريخ في سويسرا يدرس بها، ولأن ابني مقيم في إنجلترا كذلك، ولأن ابنتي تقيم بإسبانيا تدرس الأدب المقارن بها، لذا جعلت خط سفري إلى زيوريخ فباريس فهلسنكى فكوبنهاجن عاصمة الدانمرك فلندن فمدريد، واطمأن بالي حين وضعت هذه الخطة إلى أنني استطيع أثناءها الاستجمام والاستشفاء، وبهذا السفر وبهذه الخطة أكون قد حققت أغراضًا عدة كلها حبيب إلى نفسي، وكلها جم النفع عظيم الفائدة.
وذهبت من باريس إلى هلسنكى فوصلت الطائرة عاصمة فنلندا منتصف الليل من يوم ٢٣ أغسطس، ولم ألبث حين نزلت من الطائرة وتخطيت إلى المطار أن لقيني شاب حياني بالفرنسية، وذكر أنه موفد من قبل الشعبة البرلمانية الفنلندية لاستقبال أعضاء الوفود والذين يشهدون المؤتمر، وجلس هذا الشاب إلى جانبي في أتوبيس المطار فسألته عما إذا كانت قد قدمت وفود جديدة إلى المؤتمر لم تكن تشترك فيه من قبل، أريد بذلك أن أُكوِّن لنفسي فكرة عن جو المؤتمر، وعما ينتظر أن تكون اتجاهاته.
قال الشاب: نعم، حضر وفد من روسيا السوفيتية، وحضرت وفود من بلاد ما وراء الستار الحديدي، وحضر وفد من السودان، حينذاك ابتسمت فيما بيني وبين نفسي، وذكرت مؤتمر القاهرة في سنة ١٩٤٧، ثم ذكرت اجتماع مجلس الاتحاد سنة ١٩٥٠، ورجوت أن يكون هذا التحول الذي طرأ على الاتحاد لخير السلام العالمي.
فقد كانت مصر قد دعت الاتحاد البرلماني لعقد مؤتمره السنوي بالقاهرة من قبل الحرب العالمية الثانية، وحال قيام الحرب دون إجابة هذه الدعوة ودون عقد الاتحاد مؤتمراته طيلة سني الحرب، لما عاد مجلس الاتحاد إلى الانعقاد في سنة ١٩٤٧ جددت مصر الدعوة فأُجيبت دعوتها، وتحدد انعقاد مؤتمر القاهرة في شهرة أبريل سنة ١٩٤٧، وكنت قد سافرت إلى نيويورك في أكتوبر سنة ١٩٤٦ رئيسًا لوفد مصر لدى الأمم المتحدة، وهناك قابلت الرفيق أندريه جروميكو ممثل روسيا السوفيتية في الأمم المتحدة، ودعوت روسيا السوفيتية لحضور المؤتمر البرلماني بالقاهرة، فابتسم الرجل معتذرًا عن عدم قبول الدعوة، وقال: أرجو أن تتمكن روسيا من قبول هذه الدعوة في ظروف دولية خير من الظروف الحاضرة.
وأبديت أسفي لاعتذار روسيا وعدم حضورها المؤتمر، لكني عجبت حين انعقد المؤتمر أن رأيت دولًا تدور في فلك روسيا تحضره، حضرته فيما أذكر بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ورومانيا؛ وغيرها من الدول التي تدين بالولاء للسوفيت، واستمرت هذه الدول تحضر اجتماعات الاتحاد البرلماني في الربيع وفي الصيف إلى سنة ١٩٥٠، حين قررت الانسحاب منه كلها دفعة واحدة.
وكان من أسباب انسحابها الظاهرة أن المؤتمر أخذ يبحث في إمكان أن تقوم حكومة عالمية، وأن يكون المؤتمر البرلماني الدولي نواة لتنظيم هذه الحكومة، وكانت حجتهم يومئذ في الانسحاب أن هذا الموضوع يقصد به إلى نية خفية مرماها تغليب الدول الديموقراطية على الدول الشيوعية، وأنهم يتعاونون في المؤتمر على أساس الاستقلال الكامل لكل دولة، ويرفضون أن تتغلب كتلة من الدول على أخرى بمثل هذه الوسيلة، وسيلة إنشاء حكومة عالمية.
وبقيت هذه الدول كلها متخلفة عن حضور الاتحاد البرلماني ومؤتمراته إلى هذا العام، فلما ذكر لي الشاب الفنلندي الذي استقبلني بالمطار أنها تشترك في مؤتمر هلسنكى، كما تشترك فيه روسيا السوفيتية، قلت: هذه أمارة جديدة بتحول الاتجاه الدولي وجهة جديدة.
وسألت الشباب عن الصين الشعبية وهل تحضر المؤتمر؟ فقال لي: إن اثنين من وفدها حضرا وحدهما؛ لأن الصين الشعبية لم تُقبل بعد عضوًا في الاتحاد، ودهشت لذلك بل عجبت له، فقد أبدت هذه الصين الشعبية من الميل لمجاراة السياسة الدولية الحالية ما دل عليه أفراجها عن الطيارين الأمريكيين الذين كانوا معتقلين عندها، وما أبداه رئيس وزرائها في مؤتمر باندونج من تأييد للسلام وحرص عليه، وما بينها وبين روسيا السوفيتية المشتركة في هذا المؤتمر البرلماني من عهود ومواثيق، وتحريت الأمر يوم عقد المؤتمر؛ فعلمت أن الأمريكيين هم الذين عارضوا في قبلوهم، وأنهم على العكس من ذلك أيدوا قبول الصين الوطنية، وقد بلغوا في معارضتهم حد التهديد بالانسحاب من المؤتمر، بل من الاتحاد البرلماني كله، ولما كان نظام المؤتمر الأساسي لا يُجيز رفض طلب الصين الشعبية، ولا رفض طلب الصين الوطنية، ولما كان انسحاب الولايات المتحدة من الاتحاد البرلماني يضر هذا المؤتمر ضررًا بليغًا، فقد رأى المسئولون تأجيل النظر في طلب الصين الشعبية، وطلب الصين الوطنية، إلى دورة مقبلة لاستيفاء البحث، أو انتظارًا لظروف خير من الظروف الحالية على تعبير الرفيق جروميكو لي في سنة ١٩٤٦ حين دعوته لتشترك روسيا السوفيتية في مؤتمر القاهرة.
ولم يزل ما علمته من ذلك عجبي ولا دهشتي، وذهبت أتحرى الدوافع الحقيقية لموقف أمريكا من الصين الشعبية، وذهابها إلى حد التهديد بالانسحاب من الاتحاد، فقيل لي: إن الشعب الأمريكي ما زال يذكر حرب كوريا، ومن فقد هناك من رجاله وشبابه، وأن الناخبين الأمريكان لا يعطون أصواتهم لمرشح يتهاون مع هذه الصين الشعبية التي أخذت في حرب كوريا بالنصيب الأوفي، فهي مسئولة في نظر كل ناخب أمريكي، وكل ناخبة أمريكية عن والدها الذي قُتل، وعن زوجها الذي فُقد، وعن خطيبها الذي فقد ذراعه أو ساقه، وعن كل ما عانى الأمريكيون من نكبات في كوريا، ولما كانت الانتخابات تجري في أمريكا العام القادم؛ لذا لم يرد الأمريكيون الذين يمثلون بلادهم في الاتحاد البرلماني وفي مؤتمر هلسنكى أن يعرضوا أنفسهم وزملاءهم المرشحين، جمهوريين كانوا أو ديموقراطيين، إلى هذا الموقف في الانتخابات القريبة، فإذا مرت هذه الانتخابات بسلام وأعاد الاتحاد النظر في طلب الصين الشعبية والصين الوطنية أمكن أن يكون للأمريكيين موقف آخر، وأن تُقبل الصين الشعبية والصين الوطنية كلاهما في الاتحاد.
وقد أعادت هذه القصة إلى ذاكرتي ما حدث سنة ١٩٤٧ حين كانت الأمم المتحدة تنظر في تقسيم فلسطين، وحين كان الرئيس الأمريكي هاري ترومان متحمسًا للتقسيم كتحمس الصهيونيين أنفسهم، فقد قيل يومئذ: إن انتخابات الرئاسة للجمهورية في سنة ١٩٤٨ كانت من الدوافع القوية التي حملت ترومان على أن يقف هذا الموقف؛ لأن لليهود في أمريكا — وفي ولاية نيويورك بنوع خاص — تأثيرًا قويًّا جدًا في انتخابات الرئاسة، وقلت اليوم كما قلت يومئذ: أليس عجبا أن يتأثر كبار الرجال في الشئون العالمية بالاعتبارات الوقتية كالانتخابات وما إليها، أم أن المصالح الذاتية كانت وستبقى دائمًا ذات أثر على تفكير الرجال، وإن سمت مكانتهم واتسع مدى تفكيرهم.
كان موقف أمريكا من الصين الشعبية وعدم قبولها عضوًا في الاتحاد بمثابة سحابة تشوب جو المؤتمر، وبخاصة لأن أهم موضوع كان مطروحًا عليه هو: (التعايش السلمي بين الشعوب)، ثم كانت هناك سحابة أخرى تشوب هذا الجو، ففي يوم الانعاقد — يوم ٢٥ أغسطس — وفي اليوم الذي سبقه التقيت بكثيرين من أعضاء الاتحاد القدامى الذين عرفت في مؤتمر القاهرة، ثم عرفت بعد ذلك في المؤتمرات الأخرى، ومن بينهم أعضاء الوفد الفرنسي، والوفود العربية، فلم تكن وجوههم تنم عن الطمأنينة، وسألت بعض أخواني من رجال الوفود العربية عن المسائل التي يقصدون إثارتها فقالوا: في مقدمتها مسألة فلسطين، ومسألة شمال إفريقيا، وأنا أعلم أن فرنسا شديدة الحساسية فيما يتعلق بشمال إفريقيا، وبخاصة لأن عددًا غير قليل من أبنائها يقتلون هناك في الجزائر وفي مراكش، ولا شيء يثير نفس شعب أيًّا كان كأن يقتل أبناؤه، فإذا أثارت الوفود العربية مسألة شمال إفريقيا لم يسكت الفرنسيون دون الرد على ذلك بعنف لا يتفق مع معاني التعايش السلمي الذي يراد تقرير قواعده في هذه المؤتمر، وإذا لم يكن رجال البرلمان وهم صفوة الشعوب قادرين على التعايش السلمي فيما بينهم في مؤتمر يُعقد في قاعة برلمان هلسنكى؛ فكيف تستطيع الشعوب التعايش السلمي في هذا العالم الفسيح المترامي الأطراف؟!
لم أُعنَ بالبحث فيما وراء ذلك مما يثير الخلاف، لكني شعرت من قبل أن ينعقد المؤتمر بأن جوه لا يبشر بأن يكون هذا الجو الصفو الذي تخيلته ساعة وصلت بي الطائرة هلسنكى، وحين علمت أن الوفد الروسي مقبل على المؤتمر إقبالًا شديدًا دلت عليه كثرة أعضائه، وكثرة سكرتاريته، قلت: فلأنتظر وسأرى، فغدًا ينعقد المؤتمر، وفي أيام انعقاده الستة سنسمع الكثير، ونفهم الكثير مما تنطوي عليه هذه السياسة الدولية السريعة التطور في الوقت الحاضر.