المؤتمر البرلماني بهلسنكى
كان المؤتمر البرلماني الدولي الذي عقد بهلسنكى هذا العام من أكثر المؤتمرات تمثيلًا للوجود الدولي الذي حضره ممثلون لست وأربعين دولة، وحضره ممثلون عن الدول الأربع الكبرى بعد أن كانت روسيا السوفيتية ممتنعة عن حضوره منذ قيام الستار الحديدي بينها وبين الدول الديمقراطية، وقد حضره كذلك ممثلو الدول العربية واشتركت معها فيه السودان، لكن جوه لم يكن صفوًا ولم يكن يتفق مع هذا التفاؤل الذي أشاعه في العالم اجتماع الأربعة الكبار في جنيف منذ عهد غير بعيد.
وقد اُفتتح المؤتمر بقاعة البرلمان الفنلندي بهلسنكى في الساعة العاشرة من صباح يوم الخميس الخامس والعشرين من أغسطس، افتتحه الشيخ رئيس الجمهورية الفنلندية مرحبًا بانعقاده في عاصمة بلاده، مشيرًا إلى أنها من أقدم البلاد الديمقراطية في العالم، وأنها أقدم دولة منحت النساء حق الانتخاب من قبل أن يمنحن هذا الحق في أية دولة أوروبية.
وكان هذا الرجل الشيخ الوقور يُلقي خطابه باللغة الفرنسية في شيء من التلعثم يدل على أنه قرأ الخطاب غير مرة قبل إلقائه، وأن مقدرته في هذه اللغة بقيت مع ذلك لا تمكنه من حُسن الإلقاء ودقته.
وتكلم بعده لورد ستاتسجيت رئيس الاتحاد البرلماني الدولي وصديق مصر القديم، والذي تولي فيها مفاوضات سنة ١٩٤٦ فأظهر من الأناة والصبر ما مكن من الوصول إلى مشروع صدقي بيفن، ولورد ستاتسجيت رجل مرح بطبعه، فيه دعابة رقيقة وظرف يُحببه إلى النفس، ومع أنه كرر في هذا الخطاب عبارات سمعتها منه غير مرة من قبل في مثل هذه المناسبة فقد كانت روحه تفيض على هذه العبارات من المرح ما جعل الحاضرين يصفقون لهذا اللورد الهرم غير مرة في حماسة وإعجاب، فلورد ستاتسجيت قد جاوز الثامنة والسبعين، وهو يؤمن مع ذلك بأنه لا يزال في فتوته وقوته.
تلاقيت معه في البرلمان يومًا فسألني عن صحتي وصحة أهلي جميعًا — فهو يعرفهم منذ سنة ١٩٤٧ حين انعقد المؤتمر البرلماني بالقاهرة — لما ذكرت له أنا ولله الحمد بخير رغم أني تخطيت الخامسة والستين قال: ولكنك شاب لا تزال، فأنا قد تخطيت الثامنة والسبعين ولا تزال الحياة باسمة أمامي، عند ذلك ذكرت له كلمة لأستاذنا لطفي السيد؛ إذ كنا نتحدث يوما فقال لي: أنتم معشر الشبان، قلت: أي شبان نحن وقد تخطينا الستين، فكان جوابه: ما دمنا نحن معكم على قيد الحياة فأنتم شبان؛ لأنكم أبناؤنا.
تحدث لورد ستاتسجيت إذن في افتتاح المؤتمر بوصفه رئيس الاتحاد البرلماني، فأعاد على مسامع الحاضرين ما ذكره غير مرة في مثل هذه المناسبة من أن هذا المؤتمر ليس مؤتمر حكومات يأتمر الأعضاء فيه بأمر دولهم، بل هو مؤتمر برلمانيين أحرار، يتكلم كل منهم برأيه هو، لا برأي حكومته، ويتكلم حرًّا طليقًا من كل قيد، ويصوت حرًّا كذلك من كل قيد، وأن هذا المؤتمر البرلماني دولي أول واجباته التفكير في سلام العالم والمحافظة عليه، فلا شأن لذلك له بالمشاكل الداخلية للبرلمانات الممثلة فيه إلا بمقدار ما تمس هذا المشاكل سلام العالم وحسن علاقات الدول بعضها ببعض، وأن هذا المؤتمر كذلك ليس منظمة سياحية غرضها مسرة أعضائها، بل هو مؤتمر جدي غرضه سلام العالم عن طريق تعارف البرلمانيين بعضهم ببعض، وتفاهمهم تفاهمًا حرًّا تمام الحرية، وأن مهمته لذلك عالمية كبرى جديرة بأن يضعها كل عضو من أعضائه موضع التقدير والاعتبار.
وكان موضوع التعايش السلمي بين الشعوب أهم موضوع مطروح على المؤتمر، والتعايش السلمي أول شروطه تبادل الثقة بين الشعوب، ولا سبيل إلى تبادل الثقة إذا قامت البغضاء والمرارة في النفوس، ومن أسفٍ أن نفوس الكثير من الشعوب لا تزال تشوبها البغضاء والمرارة، تحدثت إلى أحد الفنلنديين وذكرت له أن من حظ بلاده أن كانت الأولى التي اشتركت روسيا السوفيتية في المؤتمر المنعقد بعاصمتها، فكان مما أجاب به: نحن مطالبون أن نكون المجاملة كل المجاملة مع الروس المشتركين في المؤتمر؛ لأنهم ضيوفنا، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن روسيا حاربتنا، وقتلت الكثير من رجالنا وأبنائنا، وأنها اقتطعت من فنلندا أغنى مناطقها بالمعادن، هذا ما لا نستطيع أن ننساه وما يحز في نفوسنا، وهل المناطق التي ضمتها روسيا إليها فنلنديون صحيحون يتطلعون كما نتطلع إلى اليوم الذي يعودون إلينا فيه، كما عادت الألزاس واللورين إلى فرنسا.
وتحدثت كذلك إلى بعض الدانمركيين فذكروا أن في نفوسهم من الحفيظة على ألمانيا منذ احتلالها بلادهم أيام الحرب ما لا يستطيعون نسيانه، قلت: ولكنكم لم تحاربوهم ولم يحاربوكم كما فعلت بلجيكا وهولندا، بل أذنتم لهم باحتلال بلادكم حقنًا للدماء، وكان جواب محدثي الدانمركي لكنهم أثناء الاحتلال الذي طال أكثر من خمس سنوات كانوا قساة بنا غاية القسوة، مما اضطرنا لتنظيم حركة مقاومة قمعوها بكل عنف ما استطاعوا قمعها.
وكان ممن تحدثوا في المؤتمر برلماني نمساوي ذكر ما عانته بلاده من احتلال الدول الأربع — روسيا وإنجلترا وأمريكا وفرنسا — إياها وأنهى بأشد اللائمة على تصرف الروس أثناء الاحتلال في عبارة عنيفة غاية العنف، لا تتفق بحال مع أي معنى من معاني التعايش السلمي الذي يُريد المؤتمر تقرير قواعده.
ولا حاجة بي إلى أن أذكر ما دار من جدل عنيف بين الدول العربية وإسرائيل، فالحجج التي يتبادلها الطرفان معروفة في مصر، وحسبي أن أذكر أن متحدثا باسم إسرائيل ناشد رئيس المؤتمر في ختام خطابه أن يدعو الدول العربية للتفاهم المباشر مع إسرائيل بعد أن خلقتها الأمم المتحدة لتبقى، فكان رد ممثل من سوريا عليه أن يناشد رئيس المؤتمر قبل إجابة مطالب المتحدث باسم إسرائيل أن يطلب إلى إسرائيل أن تنفذ قرارات الأمم المتحدة فيما يتعلق باللاجئين العرب وبتدويل القدس، فإذا نفذوها ونفذوا كل قرارات الأمم المتحدة، وامتنعوا من الاعتداء على جيرانهم العرب، فكر هؤلاء فيما إذا كان التفاهم المباشر مع إسرائيل ممكنًا.
وكان الشعور السائد في المؤتمر أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة الخطر على السلم العالمي في الوقت الحاضر، وكان جواب العرب على ذلك أن مطامع الدول الكبرى في هذه المنطقة، وقيام دولة إسرائيل بالطريقة التي قامت بها هي مصدر هذا الخطر، وأن دول الشرق الأوسط على العكس مما يقال من أكثر الدول حبًّا للسلام؛ لأن السلام هو وسيلتها إلى التعمير والتقدم في مضمار الحضارة.
وقد تقدم بعض البرلمانيين العرب بتعديلات للقرارات التي اقترحتها لجان الاتحاد البرلماني فيما يتعلق بالتعايش السلمي، من هذه التعديلات اقتراح بأن يضاف إلى اقتراح لجنة الاتحاد أن يكون هذا التعايش على أساس من حرية الشعوب واستقلالها، ومن عدم التمييز بينها بسبب الجنس أو اللون أو اللغة أو الدين، ومنها أن يكون المقصود بالتعايش السلمي تعايش الشعوب لا تعايش الحكومات، ومما يثير العجب أن هذه التعديلات لقيت موافقة عظمى من جانب المؤتمر، وأن الدول الكبرى كانت في مقدمة الموافقين عليها، وأن الذين اعترضوها كانوا بعض الدول الوسطى أو الصغرى، فقد وافق الوفد الأمريكي بإجماع أعضائه على التعديلين، ووافق الوفد الروسي والوفد البريطاني على التعديل الأول ولم تعارضه بلجيكا حرصًا على مصالحها في الكونغو البلجيكي، ولذلك فاز هذا الاقتراح الأول بثلاث مئة وثمان وأربعين صوتًا ضد عشرة أصوات، أما الاقتراح الثاني فقد فاز كذلك؛ لأن أمريكا أيدته، ولكن بأغلبية غير كبيرة.
والحق أن نشاط البرلمانيين العرب في المؤتمر جدير بالتنويه فقد خلق هذا النشاط حول منطقتهم في هذا المؤتمر، كما خلق في مؤتمرات عدة سابقة، جوًّا من الاهتمام والتقدير، ومن الإدراك أن هؤلاء العرب وبلاد منطقة الشرق الأوسط بصفة عامة ليست هي الكمية المهملة التي كان الساسة في الماضي ينظرون إليها ولا يعنون بها، وأن التطلع إلى حالتها من ثروة زراعية ومعدنية ضخمة يجب أن يضاف إليه تقدير النهضة العظيمة التي نهضتها هذه الشعوب، وأن رغبات هذه الشعوب وأهدافها يجب أن توضع موضع الاعتبار إذا أُريد للعالم أن يستقر فيه السلام.
كنت أتحدث إلى رجل ذي شأن في الاتحاد البرلماني الدولي فأبدى لي دهشته من نشاط البرلمانيين الآسيويين والإفريقيين، ومن شدتهم في جدالهم، وقال: لقد كان كثيرون ممن يتتبعون السياسة العالمية يظنون أن اختلاف الدول الكبرى هو الذي شجع الشعوب التي كانت محكومة في الماضي، والتي لا يزال بعضها محكومًا إلى اليوم، على اندفاعها الشديد في سبيل الحرية والاستقلال، وها هي الدول الكبرى تتقارب فلا يزيد تقاربها هذه الشعوب إلا عنفًا وشدة في التمسك بحريتها واستقلالها، فكيف نفسر هذه الظاهرة؟ وأجبته: تفسيرها يسير، ذلك أن هذه الشعوب لم تدفع في سبيل الحرية والاستقلال بتحريض من بعض الدول، بل بدافع أصيل من حرصها على الحرية والاستقلال، لذلك سواء لديها إن اختلفت الدول الكبرى أو لم تختلف، أنها تريد حريتها واستقلالها بأية حال، ولم يبق من سبيل للحيلولة بينها وبين هذه الحرية، وقد أدركت مداها وقيمتها.
ليس من غرضي أن أسجل ما دار في المؤتمر حول الموضوعات الأخرى كتعادل الشهادات الدراسية في الدول المختلفة، أو كتعديل نظام الاتحاد، فهذه أمور ثانوية لا تمت إلى السياسة الدولية بصلة، وحسبي أن أذكر أن تعديل نظام الاتحاد أدى إلى زيادة لجنته التنفيذية عضوين جديدين، فأصبحت تسعًا بعد أن كانت سبعًا، وبعد أن كانت خمسًا فقط في سنة ١٩٤٧، وكانت هذه الزيادة طبيعية بسبب زيادة الدول — أو البرلمانات بتعبير أصح — المشتركة في الاتحاد … وقد تقدمت روسيا إلى هذه الانتخابات ففاز مرشحها، وكذلك فاز مرشح العراق الذي حل محل الأستاذ حبيب أبي شهلا اللبناني، وتقدم مرشح عن إسرائيل ومرشح عن السودان فلم يحرز أيهما الأصوات اللازمة لنجاحه، وانتخب كذلك من الكتلة الشرقية مرشح من سيلان، حل محل العضو التركي الذي انتهت مدته.
إلى أي اتجاه تتجه اللجنة التنفيذية الجديدة بالاتحاد البرلماني بعد أن زيد عدد أعضائها، وهل يظل الاتجاه في أن يكون الاتحاد عالميًّا بأوسع معاني الكلمة، تقدير ذلك للمستقبل ولتطورات السياسية الدولية، والاتجاهات العالمية.