زيارتان للولايات المتحدة
زرت الولايات المتحدة مرتين، وكانت زيارتي الأولى مقصورة على نيويورك ولم تتجاوز عشرين يومًا، أما زيارتي الثانية فقد تجاوزت نيويورك إلى واشنطن، وإلى مساقط نياجرا على حدود ما بين الولايات المتحدة وكندا، كما استطعت أثناءها أن أتجول في شرق الولايات المتحدة، وأن أقف على بعض مظاهر الحياة والنشاط فيها.
وقد خيلت إليَّ زيارتي الأولى التي وقفت في حدود نيويورك ما يتخيله كثيرون من أن الولايات المتحدة هي بلاد ناطحات السحاب، فمباني نيويورك ترتفع في الجو ثلاثين وخمسين وسبعين طبقة، و(إمباير ستيت بلدنج) وهي أعلاها ترتفع في الجو مئة طبقة وطبقتين، ومع ذلك فالمصاعد (الأسانسيرات) السريعة تجعل الصعود في هذه الصروح الشاهقة أمرًا يسيرًا؛ حتى لتكاد تشعر وأنت تصعد إلى الطابق الثلاثين أنك بلغته في زمن أوجز مما تبلغ فيه الطابق الخامس في أوروبا وفي القاهرة، على أن ما تخيلته من أن الولايات المتحدة بلاد ناطحات السحاب لم يلبث أن تلاشى حين زرتها المرة الثانية، وحين تيقنت مما سمعته من قبل من أن نيويورك تمتاز أكثر من غيرها بهذه المباني الشاهقة؛ لأنها تقع على شبه جزيرة ضيقة الرقعة، يحيط بها الماء من كل جهاتها تقريبًا، فلا مناص لساكنيها من أن يصعدوا في السماء بدل أن ينتشروا في الأرض، ولا مفر لهم من أن يقيموا هذه الأنوار التي تعد بالعشرات؛ لتتسع لسكنهم ولعملهم ولحاجات الحياة المتشعبة المختلفة عندهم.
فأما واشنطن مثلًَا، وهي العاصمة، فليس فيها ناطحة سحاب واحدة؛ لأنها تقع في سهل منبسط يتيح لأهلها أن يتفسحوا في الأرض كلما حلا لهم أن يقيموا بناء جديدًا، وكذلك الحال في معظم مدن الولايات المتحدة.
ولمن شاء أن يسأل ما بال هؤلاء المقيمين بنيويورك ارتفعوا بمبانيهم في الجو، ولم يتركوا هذه الرقعة الضيقة التي تقوم عليها المدينة إلى مكان آخر، ولا بأس بعد ذلك بأن تبقى نيويورك مدينة عادية يسكنها مليون من الناس في مبان من أربعة طوابق أو خمس، بدل أن يسكنها ثمانية ملايين في ناطحات السحاب؟ والجواب على هذا السؤال يكشف عن ناحية سيكولوجية من الخلق الأمريكي في مناحيه المختلفة، ذلك الخلق هو فتوة الشباب والاعتداد بها للتغلب على كل عقبة يمكن أن تقوم في سبيل الإنسان، وأنت حين تذكر الصناعات الكبرى في أمريكا، وحين تذكر المنشآت الضخمة التي سبق الأمريكيون غيرهم في إقامتها، كما صنعوا في وادي التنيسي مثلًا، ترى أن فترة الشباب هذه والاعتداد بها هي التي دفعت هذا الشعب الفتي في مغامراته، وهي التي تصور كيانه الخلقي والنفسي، وهي التي جعلت منه في عشرات معدودة من السنين هذه القوة الضخمة صاحبة الأثر البالغ اليوم في مصائر العالم.
وهذا ما لاحظته في جولاتي بنيويورك وما حولها، وفي جولاتي في شرق الولايات المتحدة إلى كندا، كل ما هنالك يتضوع بفتوة الشباب ومغامراته، ولا يقيم وزنًا لكثير من الاعتبارات التي تقيمها الشعوب التي تنوء تحت عبء التاريخ.
وإن ذخرت صحفه بالمجد، فهو عبء على كل حال، وهو عبء يثقل كاهل الأجيال المتعاقبة باعتبارات يسخر منها الأمريكيون حين تًلقى عليهم صورها وآثارها.
ومع ذلك تخضع أمريكا منذ اليوم لاعباء ماضيها وإن لم يكن بعيدًا، لاحظت أن المطاعم الأنيقة تعج ظهرًا بأغلبية كبرى من النساء المترفات، وبقلة ضئيلة من الرجال، وسألت في ذلك فقيل: إن النساء الأمريكيات مدللات إلى غير حد، وأن علة ذلك أن الذين هاجروا إلى أمريكا بعد اكتشافها مباشرة كانت كثرتهم الكبرى من الرجال؛ لأن النساء يخشين المغامرة، ولا يقدمن عليها للاعتبارات التي تدفع الرجال إليها، وفكر الرجال المهاجرون في هذا الأمر ورأوا أنهم لا يستطيعون العيش ما لم تعاونهم النساء عليه، ثم رأوا أن النساء لن يغامرن كما غامروا إلا إذا استهواهن الرجال بالتحف والهدايا مما جمعوا من ثروة هذه البلاد البكر التي هاجروا إليها، وبذلوا في سبيل هذا الاستهواء الشيء الكثير، بذلوا الحلي والجواهر الكريمة والثياب النفيسة، وكل ما تتوق المرأة وتهوي نفسها إليه.
ونجح الرجال، لكن المرأة الأمريكية ورثت عن أمها المهاجرة الأولى هذا التدليل وهذا الدلل على الرجال، ولهذا بقي الرجال إلى اليوم يزاولون أعمالهم طول يومهم، وبقيت النساء اللواتي يقدر رجالهن على الإنفاق عن سعة مدللات اليوم كما كانت أمهاتهن وجداتهن من قبل، فعمرن إلى الآن مقاعد المطاعم الأنيقة ظهرًا، فإذا جاء رجالهم في المساء شاركتهم متاعًا بالحياة يهون عليهم مشقة العمل المتصل كل نهار.
وفتوة الشباب الأمريكي تهون على الرجال هذه المشقة، وتدفعهم إلى العمل المتصل والابتكار فيه، وأنت ترى مظاهر هذه الفتوة واضحة في كل شىء، تراها واضحة في متاجر نيويورك، وفي المصانع الكبيرة المختلفة، وفي دور الحكم، وفي الصحافة، وفي الإنتاج الأدبي والعلمي، في نيويورك متاجر كبيرة، لكنك ترى على وجوه العاملين والعاملات في متاجر نيويورك نشاطًَا أوفر مما تراه في متاجر أوروبا، وترى في ألوان التجارة نفسها من التنوع هنا أكثر مما ترى هناك، وترى في اختلاف المصاعد التي ترفع من طابق إلى طابق حيوية ونشاطًا قل نظيرهما في أوروبا، وترى في دور الحكم من مظاهر هذه الفتوة ما لا نظير له فيما رأيت من بلاد غير الولايات المتحدة، زرت دار الكونجرس، ودرت في أرجاء مجلس الشيوخ، فأدهشني ما رأيت، لكل عضو من أعضاء مجلس الشيوخ غرفته الخاصة، وله سكرتاريته الخاصة، وهو يقوم من شئون الدولة بأضعاف ما يقوم به غيره في البلاد الأوروبية، فالتحقيقات البرلمانية تكاد لا تنقطع، وعضو الشيوخ يجيب عن طريق سكرتاريته على كل رسالة تصل من ناخبة أو من غير ناخبه، أما الصناعات فقد شهدت منها ما أثار دهشتي لضخامته ولعناية القائمين عليه عناية تجعل مدير الشركة واقفًا على دقائق ما يجري في مصنعه الكبير، وتستطيع أن تقول ذلك عما سوى هذه المظاهر من الحياة الأمريكية، وبخاصة في ميادين الصحافة والإذاعة والمجلات والكتب، وهذا كله تدفع إليه فتوة الشباب في ذلك الشعب الشاب الذي نفخ من شبابه في حياة العالم شبابًا وقوة، والذي حاول أن يضاعف جهوده في هذه الناحية ما استطاع.
وفتوة الشباب هذه تتناول الشعب كله بجميع طبقاته، ذلك بأنها تجعل قيمة العمل فوق كل قيمة، وتجعل النجاح في العمل أساس كل اعتبار، وتبيح للإنسان العامل أن يستمتع بثمرات عمله ما شاء المتاع، كان في فندق بلازا فرع خاص لمسح الأحذية، وقد دعوت من ينظف لي أحذيتي فجاء رجل نظيف الثياب، يرتدي سموكنج، ثم علمت أنه مدير هذا الفرع، وأن له سيارته الخاصة يخرج بها لنزهته بعد الظهر من كل يوم هو وأسرته، وتقديس العمل عند الشعب الأمريكي طبيعي، فهو شعب ديموقراطي بطبيعة نشأته وتكوينه، لا يعرف الأرستقراطية في الآباء والأجداد، ولا يعنيه أن يكون جد الإنسان القريب أو البعيد إنجليزيًّا أو ألمانيًّا إيطاليًّا أو ما شئت، بل الناس جميعًا سواء يتعاونون بإقدامهم وبقوتهم على العمل، ونجاحهم فيه، مذهبهم جميعًا أن الغني من يقول: ها أنذا، وليس الغني من يقول: كان أبي، وفتوة الشباب خير دافع لأن يقول الإنسان: ها أنذا، وليعتز بعمله وتفوقه فيه.
هذا بعض ما لاحظته أثناء تجوالي بالولايات المتحدة وحين مقامي بها، وهو يصدق على رجالها ونسائها، وعلى مظاهر حياتها المختلفة، وهو شاهد بأن هذا الشعب المملوء بالحيوية وبفتوة الشباب لا يزال أمامه دور طويل يقوم به في حياة هذا العالم.