جوهر الأخلاق هو القضية
ضجة كبيرة تحدث في بلادنا حول مظاهر السياسة والدين والوطنية والأخلاق، ترتفع الورقة فوق الضمير الإنساني والصدق والشرف الحقيقي، قد يحمل الإنسان جواز سفر واحدًا مختومًا بالدولة ورأس النسر، لكنه في الوقت نفسه يعمل ضد مصالح وطنه، وينهب أموال الشعب، أو يظلم خادمه، أو زوجته في البيت، أو مرءوسيه في العمل، ويظل رغم كل ذلك يحظى بلقب زعيم وطني شريف نبيل!
وقد يحمل الإنسان أكثر من ورقة سفر، أو جواز مرور بين الحدود، ومع ذلك يظل مخلصًا لكل المبادئ الإنسانية العليا في بلده، وفي كل بلاد العالم، يدافع عن الحرية والعدالة والكرامة في أي مكان تُنتَهك فيه الحرية أو العدالة أو الكرامة.
تطور مفهوم الوطن مع تطور الأنظمة العبودية، تلك التي كانت تربط العبيد والماشية والنساء بالأرض، كانت الأرض ومُلَّاكها يسحقون العبيد والنساء دون أن يتمرد العبيد والنساء، دون محاولة للفرار، خوفًا من عقاب الآلهة الأسياد، والاتهام بخيانة الوطن أو خيانة الزوج أو القبيلة، أو الكفر بالإله والثوابت الدينية، كان مالك الأرض هو «اللورد الإله» يملك الحياة والموت، يمنح أفراد الشعب من العبيد والنساء ألقاب الشرف والوطنية والأمانة والعلم والأدب، كان السيد الإله يظلم ويفسق ويخون الوطن والشعب وزوجته ولا يعترف بأولاده غير الشرعيين، مع ذلك لا يملك أحد محاكمته أو عقابه، هو الذي يعاقب ويحاكم من يشاء، يمنح أوسمة الوطنية والشرف أو جوائز الدولة في العلم والأدب لمن يدين له بالولاء، كانت أرفع جائزة تحمل اسم الإله الإمبراطور الملك، وأخيرًا جائزة الرئيس مبارك.
يدور الحوار في مصر هذه الأيام حول: هل يحق للمرأة أن ترأس الدولة أم لا؟ يقول أحد رجال الدين إنه على صلة مباشرة بالإله، وإذا فرض الإله الحجاب على المرأة؛ لأن رأسها عورة، فكيف له أن يُبيح لها رئاسة دولة؟ وإذا كان قد فرض عليها الحيض أو الطمث والحمل والولادة والنفاس، فكيف لها أن ترأس الدولة؟ وإذا كان قد أعطى زوجها أو بعلها الحق المطلق في احتباسها أو تطليقها والزواج عليها غيابيًّا بثلاث نساء، فكيف تقود المرأة الرجال وترأس الدولة؟ إذا خضعت المرأة لحكم رجلٍ واحدٍ في البيت هل تحكم الملايين في الدولة؟ أحد الرجال المتشدقين بهذا الكلام ضد المرأة المصرية رأيته في أحد المؤتمرات الدولية جالسًا مؤدبًا أمام هيلاري كلينتون، عيناه مُنكستان، ساقاه مضمومتان في أدب العذراوات، رأيت الكثير من الحكَّام العرب (ومنهم حُكَّام مصر) يجلسون متغطرسين أمام شعوبهم، يضع الواحد منهم الساق فوق الساق في استعلاء، وما إن يسافروا إلى واشنطن حتى يُنزل الواحد منهم ساقه عن الساق الأخرى، يجلس مؤدبًا مضموم الساقين واليدين، في حين يضع بوش أو أوباما ساقه فوق الساق الأخرى في كبرياء.
لماذا هذا الصَّخب حول جواز السفر الواحد أو الاثنين أو أكثر؟ ما علاقة جواز السفر بالإخلاص للوطن؟ ما علاقة الورقة بالإخلاص الزوجي؟ عرفت رجالًا ونساءً ليس لديهم ورقة، ومع ذلك يُخلص كلٌّ منهم لشريك أو شريكة الحياة أكثر من الحاملين لورقة وأوراق، بالمثل رأيت رجالًا ونساءً لا يحملون جواز سفر عربيًّا أو مصريًّا، ومع ذلك هم أكثر إخلاصًا واهتمامًا بالقضايا العربية، أو القضية الفلسطينية (مثلًا) عن الكثيرين من العرب والمصريين، لا تعلو الورقة على الضمير الحي، لا يحتاج الضمير الحي إلى ورقة، لكن ترتفع الورقة على كل القيم الإنسانية حين يموت الضمير، تتحول السياسة والانتخابات والزواج والحب والإخلاص إلى سوق، إلى بورصة، يُباع فيها كل شيء بالورقة والأوراق.
جوهر الأخلاق هو جوهر قضية الإنسان المرأة، وقضية الإنسان الرجل. أصبحت قضية المرأة عِلمًا من العلوم مثل علم الطب والهندسة والقانون والاقتصاد والسياسة والدين والتاريخ، يتخصَّص فيها الأساتذة الرجال والنساء في معظم جامعات العالم شرقًا وغربًا، لم تعُد قضية المرأة «فهلوة» سياسية أو دينية أو إعلامية، يُفتي فيها رجال من هُواة الحديث عن المرأة، رجال يفخرون بعشقهم للنساء، حيث نرى رجالًا لا يشعرون بالعار حين يقولون إنهم يعشقون الجمال والنساء، وإنهم ينتقلون من امرأةٍ إلى أخرى؛ لأنهم في حاجةٍ إلى التغيير، إذا اقترب أحدُهم من الشيخوخة أصبح في حاجةٍ إلى فتاة عذراء تُعيد إليه شبابه وتُنسيه شبح الموت، يرث الابن عن أبيه فساد الضمير، لا يقلل ضعفُه الأخلاقي من وضعِه السياسي الوطني أو الاجتماعي والأدبي، لكن المرأة، هل سمعنا امرأة محترمة تُعلن أنها تقع في حب أي رجلٍ تقابله؟ أنها في حاجةٍ إلى شابٍّ نضرٍ يُعيد إليها شبابها؟ القانون يفرض على المرأة رجلًا واحدًا في الحياة والموت، وإن كان مزواجًا فاسدَ الأخلاق، إن هربت منه إلى رجلٍ آخر يحترمها تشتعل كنائس وجوامع وتقوم حروب مُسلَّحة بين القبائل.
قضية المرأة تكشف الازدواجية الأخلاقية والسياسية والقانونية والاقتصادية والدينية، تربط بين السياسة والأخلاق، الازدواجية القانونية هي نفي للقانون مثل الازدواجية الأخلاقية هي نفي للأخلاق، مثل الازدواجية الدينية هي نفي للدين، فالدين الصحيح مثل السياسة الصحيحة مثل الاقتصاد الصحيح، يقوم على العدل والحرية والكرامة والمساواة بين البشر جميعًا، دون تفرقة، لأي سببٍ ديني أو جنسي أو سياسي أو اقتصادي، أو غيره، أليست هذه هي القيم التي تقوم عليها أي ثورة في العالم بما فيها الثورة المصرية الأخيرة؟
تقاوم الطبقات العليا تحرُّر الطبقات الأدنى من القهر الاقتصادي (يقولون عن مظاهرات الفقراء إنها ثورة جياع ورعاع أو مظاهرات فئوية لا ترقى إلى ثورة النبلاء من أجل الحرية)، يقاوم الرجال تحرُّر النساء من القهر الجنسي (يقولون عن حركات تحرير المرأة إنها مستوردة من الكفرة، خارجة عن القيم تطالب بالفساد والانحلال)، كيف نعالج الأثرياء من عشق المال رغم احتقارهم للماديات الدنيوية؟ كيف نعالج الرجال من عشق النساء رغم احتقارهم للجنس والمرأة؟
من المعروف في الطب النفسي أن أكثر الرجال غزوًا للنساء أقلهم احترامًا للمرأة، هناك فرق كبير بين الشخصية الإنسانية الرفيعة والشخصية الرجولية أو الذكورية، كذلك الفرق بين الشخصية الإنسانية الرفيعة والشخصية الأنثوية المؤنثة.
فشلت التربية في بيوتنا في خلق الضمير الحي، فشلت نظم التعليم المدني والديني في تطوير الذكر والأنثى إلى شخصيات إنسانية راقية. يتميز الإنسان الراقي بالقدرة على تغليب المسئولية الفردية والجماعية على شهوة الأكل والجنس والتسلُّط، الإنسان الراقي ليس هو المكبوت المُطيع للقوة المستبدَّة في الدولة والأسرة، بل القادر على تحمُّل المسئولية بإرادته الحرة، واختياره وحبه للعدل والكرامة والحرية والمساواة بين البشر، الإنسان الراقي هو الذي يحترم الصدق أكثر من الورقة، الإنسان الراقي يصنع الشعب الراقي القادر على الثورة ضد السُّلطة المُطلَقة في البيت والدولة، وضد المظاهر المزيفة للحقيقة.