إثارة الجدل وخطاب رئيس الدولة
الخطاب الأول الذي ألقاه الرئيس المصري الجديد د. محمد مرسي ينم عن التفكير اليقيني الديني، رغم أنه قدم استقالته من جماعة الإخوان المسلمين والحزب التابع لها، لكن الاستقالة الحزبية أو السياسية لا تعني الاستقالة الفكريَّة، أو التخلِّي عن تحيُّزه لقيم ومفاهيم الجماعة والحزب، لغة الخطاب دينية إسلامية، لم يرد فيها كلمة المواطنة، التي تعني عدم التفرقة الدينية والجنسية، قال: «أهلي وعشيرتي.» وتعني ارتفاع قرابة الدم وصِلات الرَّحم على المواطنة والقانون والدستور، وقال: إخواني، كأنما المجتمع كله ذكور، وليس نصفه نساء.
يدعم كلامه بالآيات القرآنية، لماذا؟ بنود الدستور تنفصل عن القرآن والإنجيل في الدول الحديثة، ويقتبس من خطبة لأبي بكر الصِّديق أول الخلفاء الراشدين عبارة «وُلِّيت عليكم» كلمة الولاية ماذا تعني؟ انتهى عصر ولاية الحاكم، وانفصلت السُّلطة القضائية عن التشريعية عن التنفيذية، وكان الحاكم الوالي يجمع هذه السلطات في يده، كلمة «الله» كررها أربعة وثلاثين مرةً في خطابه، لماذا إدخال الله في خطاب سياسي لرئيس دولة؟ هل يمكن مناقشة الله سياسيًّا؟
لم يشمل الخطاب شيئًا عن التعليم أو الثقافة أو حرية البحث العلمي والإبداع الفكري والفني، هل هي أمور هامشيَّة؟
مشكلات مصر أو أي بلد لا يحلُّها الفرد، لا أومن بالزعيم الأوحد أو المهدي المُنتظَر، لقد قُمنا كشعب نساءً ورجالًا بثورة عظيمة منذ يناير ٢٠١١م، وأسقطنا رأس النظام، إلا أن جسد النظام لا يزال قائمًا في كل مؤسسات الدولة والبيت والجامع والكنيسة والمدرسة.
إن تخلُّفنا كبلاد عربية، ومنها مصر، يرجع إلى أننا توقَّفنا، منذ قرون، عن إنتاج المعرفة والعلم والإبداع، أصبحنا مُستهلِكين لما يُنتجه الآخرون في بلاد أخرى، لعب الاستعمار الخارجي مع الاستبداد الداخلي دورًا رئيسيًّا في تخلُّفنا وفي تجميد الفكر.
هناك أسباب في كل المجالات تعوق تقدُّمنا، أهمها في رأيي هو المجال الفكري، المتعلِّق بالعقل والتعليم والمعرفة والإبداع.
في الانتخابات الرئاسية في مصر عام ٢٠٠٥م، رشَّحت اسمي ضد حسني مبارك، كان البند الأول في برنامجي تغيير نظام التعليم العقيم الذي يُخضع العقل للاستبداد والعبودية تحت اسم فضيلة الطاعة.
لم يكن عندنا انتخابات ديمقراطية، بل انتخابات صورية لينجح الرئيس بأغلبية مُطلَقة، رفضت أن ألعب دور الكومبارس، وأشارك في لعبة الانتخابات لإثبات ديمقراطية مُزيفة، أعلنت انسحابي، وأصدرت بيانًا بكل هذه الأسباب.
لا أظن أن الانتخابات أصبحت متعددة أو ديمقراطية، فالانتخابات تعكس عقلية الفرد والمجتمع، الديمقراطية تبدأ في البيت والمدرسة، وليست مجرد قرار سياسي، لا تزال القيم في بلادنا دكتاتورية أُحادية لا تؤمن بالتعددية أو الاختلاف، يقوم التعليم في بلادنا على السمع والطاعة واليقين والتخويف.
تصوَّرت في طفولتي أن زميلتي القبطية ستُحرق في نار جهنم؛ لأنها ليست مثلي مسلمة، أمي قالت لي: «ليس هناك نار.» كسرت أمي حاجز الخوف في عقلي، ولعبت دورًا في تغيير نظرتي للعالم كله، وليس فقط لزميلتي القبطية. لم يعُد العالم في نظري هو مصر أو الإسلام فقط، بل أصبح بلادًا عديدة متعددة الهويات والأديان والعقائد والألوان، اكتشفت أني أيضًا كفرد، متعددة الهويات والأديان والألوان، دمائي مختلطة وليست إسلامية أو مصرية أو عربية فقط، بل مزيج من الدماء المتجددة المتنوعة عبر السنين والقرون والأجداد والجدات. هذا ينطبق على كل الناس، لا توجد هوية نقية إلا في الفكر العنصري الذي يؤمن بنقاء الدم، لا توجد حضارة نقية، كل الحضارات مختلطة، شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا.
التعليم في مدارسنا قائم على النصوص اليقينية، وهو ما يؤدي إلى التعصُّب لعلاقات الدم والقبيلة، لا يؤدي إلى فتح الأفق على معارف متعددة، ويؤثر سلبيًّا في سلوك المجتمع والفرد تجاه المعرفة الإبداعية في العلوم والفنون والعلاقات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية.
البناء العام للعقل في بلادنا يستند إلى التلقين والحفظ والتبعية الفكرية، في العلوم والآداب والفنون، وفي التعليم الديني، الذي يقوم على النصوص النهائية غير القابلة للنقاش، ويؤدي إلى القيود على التفكير العلمي أو الفني أو الإبداعي، والحد أيضًا من حرية السلوك والتصرُّف في مواجهة المشكلات التي تواجه الفرد أو المجتمع.
إن حرية التفكير والسلوك والعمل الإبداعي العلمي والاجتماعي هي التي تقود إلى شخصيات متطورة أخلاقيًّا وإنسانيًّا، وبالتالي إلى مجتمعات أفضل وأرقى.
هذه بَدهيات وقواعد منطقية يمكن للأطفال إدراكها إن ارتكز التعليم على قوانين علمية قابلة للنقد والنقاش، وليس نصوصًا مُقدَّسة، لهذا أعتقد أن خطاب الرئيس المصري الجديد لم يختلف عن الخطابات السابقة في العهود الدكتاتورية.
الشك هو أساس الجدل والتفكير الحر، دون أن يمتلك الإنسان المصري والعربي شجاعة الشك والقدرة على الجدل والنقاش، فلن تتقدَّم بلادنا، ولن نشارك في إبداع العلم والفكر الجديد، الفكر اليقيني يكره الشك أو الجدل، يصِم المفكرين المبدعين النساء والرجال بالكُفر، أو على الأقل بإثارة الجدل، كأنما الجدل عورة يجب تحجيبها.