تحت غطاء الصندوق … العدالة عمياء
سأقول لكم، دون النظر لمؤيدي الدولة الدينية أو مؤيدي الدولة المدنية، أو ما بينهما، نعم، غابت الحقيقة الساطعة كالشمس، تحت دخان المباخر وتعاويذ الملائكة والشياطين، وأوراق رجال القانون والدين والسياسة والائتلافات ونظريات الأحزاب.
محاكمة القرن في مصر (يونيو ٢٠١٢م) تُشبه محاكمة «فرانس كافكا» في القرن الماضي، لا ترى وجه القاتل من شدة الضباب في القصر، وينتهي الأمر بأن يصبح المقتول في الشارع هو القاتل داخل القصر، باعتبار أن العدالة عمياء لا ترى الحقيقة، والقانون هو الحكم العادل حسب الدستور.
هل هناك حقيقة أكثر وضوحًا من دم الشعب المسفوح في الشوارع والميادين، والأنوف المخلوعة والعيون المفقوءة بالآلاف، والأمهات الثكالى بأبنائهن القتلى والمفقودين، والأطفال الجوعى في الشوارع بالملايين؟
الحقيقة هي الدم والأجساد في الشوارع، وليس الحبر على الورق في حقائب المحامين ودوسيهات القضاة ودواليب المحكمة وسراديب القانون.
في كل عهد هناك المُقدَّس والمُدنَّس.
القوة الحاكمة السياسية هي التي تحدد للشعب ما هو المقدس وما هو المُدنَّس، ما هو القانوني وغير القانوني، ما هو الشرعي وغير الشرعي.
أما الحقيقة فهي تُدفَن في التاريخ، حتى يملك الشعب كتابة التاريخ بنفسه، حتى تملك الأم المنكوبة القلم، وتكتب بنفسها تاريخ حياتها.
لكن الأمهات المنكوبات أو الشعوب لا تملك كتابة التاريخ دون أن تتعلم الكتابة، وكم من شعوب تُدفَن في التاريخ؛ لأنها لم تعلِّم نفسها، واعتمدت في تعليمها على القوى الحاكمة، تندثر بعض الشعوب كما انقرضت الديناصورات؛ لأنها لم تكتب تاريخها؛ لأنها لم تتعلم الحرية والعدالة والكرامة منذ الولادة.
التعليم هو الجهاز البوليسي لإخضاع العقول للحُكم القائم، وقبول الظلم باعتباره العدل، تتحول التناقضات إلى مقدَّسات، تصبح الطاعة فضيلة، والعبودية قمة الأخلاق، والعدالة تصبح عمياء تحت اسم القانون الحاكم.
يقول الحاكم: أنا الإله الذي يحكم بالعدل، أنا الحقيقة ومن لا يراني فهو كافر أو خائن للوطن، غابت الأدلة المادية والبراهين الموضوعية، غاب المنطق والبَدهيات، وأصدرت المحكمة حُكمَها بقوة القانون المزدوج.
منذ نشوء العبودية حتى اليوم تحكمنا قوانين مزدوجة، مرورًا بالعصور الملكية والجمهورية، حتى عهد مبارك والمجلس العسكري الحاكم من بعده، ومعه القوى السياسية الطافية فوق السطح، الوجوه المزدوجة، تدربوا على التناقض باسم الحكمة أو القانون أو الدين أو السياسة، العلماء والفقهاء والحكماء، الأساتذة في الجامعات والمدارس، يُعلِّمون الأطفال الطاعة لرب العائلة في الدولة والبيت، «من علَّمك حرفًا صِرت له عبدًا»، «اليد التي تُطعمك الثمها وقبِّلها»، يتعلم الأطفال المهانة والذل والنفاق للسلطة، وأنا أقول لك أيها الإنسان المصري المولود بعد الثورة، الطفل أو الشاب أو الشابة في أي عمر، لا تصبح عبدًا لأي مُعلِّم أو حاكم أو رب عائلة، لا تنحنِ لتقبيل أي يد، اليد التي تُطعمك لو أهانتك اضربها، نعم اضرب اليد التي تطعمك لو فرضت عليك الطاعة أو العبودية، هذا أول درس في الكرامة، لا تنكسر عينك لمن يعطيك المصروف.
رأيت في طفولتي الفلاحين يُقبِّلون يد العُمدة الذي يسرقهم، ورأيت الطفل يُقبِّل يد الأب الذي يجلده، لكني سمعت أبي يقول لنا ولغيرنا من الأطفال: «طاعة الحاكم رذيلة، وليست فضيلة، وتقبيل اليد التي تُطعمك في البيت أو الدولة عبودية.»
بعد الثورة المصرية التي أسقطت رأس النظام (وبقي جسد النظام قائمًا نشطًا في جميع المؤسسات) يُطالبنا الحُكَّام الجُدد في الحكومة والمعارضة بالتسليم بنتائج الصندوق ومُحاكمة القرن، يتهمون من يقاطع الانتخابات أنه كافر بالديمقراطية، ومن يرفض حُكم المحكمة (محاكمة مبارك وأعوانه) أنه ضد العدالة والقانون.
في الخامسة من عمري سمعت العُمدة، القابض بيديه على كتاب الله يقول للفلاحين الثائرين ضد الملك والإنجليز: «يا كفرة، لا تعرفون الله، يا جهلة يا أُميين، لم تقرءوا كتاب الله.» قال له الفلاح الفصيح: «يا عُمدة، الله هو العدل عرفناه بالعقل، وليس الله كتابًا يخرج من المطبعة.»
الشلل السياسية والدينية والأدبية الجاهزة في كل عهد، التقليدية والحديثة، من الطبقات المستريحة في بيوتهم المتينة، الصامدة في وجه الرياح والعواصف، يقطفون ثمار أشجار لم يزرعوها، وثمار ثورات لم يذرفوا فيها دمعة عين أو قطرة دم، يملكون الثقافة والتعليم والإعلام والأدب والدين والطب والكتب (منها كتب الله)، سرعان ما يجعلون أنفسهم بعد الثورة، وسطاء بين الحاكم الجديد والشعب الثائر، يُعيِّنون أبناءهم وبناتهم في المناصب المعروضة، والتكتلات المُتاحة والأحزاب الجديدة، المُفصَّلة عليهم والمطيعين والمريدين والأتباع، يجتمعون من وراء الأبواب المغلقة في القاعات النظيفة، بعيدًا عن زبالة الشارع، وميدان التحرير، بعيدًا عن رائحة عرق الجوعى والأطفال، والأمهات الراقدات فوق الأسفلت، المقتولات في الحر والبرد، دم أبنائهن شربه التراب والطين، عيونهن نزفت وجفَّت وتقيَّحت، والعيون النضرة تلمع بالنجاح والأمان، تتلصص من وراء نوافذ سياراتهم المغلقة بإحكام، يصدرون ما يكتبون من وثائق أو بيانات إلى أبواق الإعلام، باعتبارهم مندوبي الشعب والثورة، يقولون: «الثورة المجيدة» و«الانتخابات التاريخية غير المسبوقة»، «الصندوق مُقدَّس»، و«القضاء شامخ مستقل»، ثم يتمطع الجبل فيلد فأرًا، وتتمخَّض المحكمة عن حرباء صفراء رمادية بلا لون، تبدو الإدانة كالبراءة أو نصف البراءة، والسجن المؤبد كالإفراج المؤقت أو نصف الدائم، كل شيء زائل إلا وجه ربك، تغيب الحقيقة الساطعة كالشمس، تنطلق الأبخرة والتعاويذ من المؤمنين وغير المؤمنين، يتمشى الحُكَّام الجُدد بأروابهم القشيبة، مُختالين بالحكمة الإلهية وقداسة القانون.
العدالة عمياء، لا ترى الحقيقة.