بعصا موسى السحرية
يثور الشعب المصري بحق ضد إسرائيل، بسبب اعتدائها على شعوب مُسالمة، واغتصابها أرضًا ليست أرضها، في مصر وفلسطين وسوريا والأردن، بسبب قتلها جنودًا وضباطًا مصريين عند الحدود لم يعتدوا عليها، تستخدم إسرائيل في حربها ضدنا السلاح العسكري الأمريكي الأوروبي الحديث، تستخدم الاكتشافات العلمية الجديدة في الانتصار والهيمنة على المنطقة كلها سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وتعليميًّا وإعلاميًّا، المعركة بيننا وبين إسرائيل معركة مادية عسكرية علمية سياسية، وليست معركة دينية، إسرائيل هي مندوبة الاستعمار الأمريكي الأوروبي في بلادنا، هذه الحقائق معروفة للشعوب، منها الشعب المصري، الذي يُدرك تمامًا أن سيناء هي جزء من أرض مصر، ومن حق مصر أن تدافع عن سيناء بالوسائل العلمية المادية نفسها التي تستخدمها إسرائيل ضدنا، هذا هو المنطق البَدهي، أي العدل البَدهي، الذي يفهمه أغلب الناس، إلا القِلَّة القليلة من النخب العربية والمصرية، التي تتواطأ في الخفاء مع إسرائيل وأنظمة عربية تخدمها، وتستخدم أفرادًا من هذه النُّخب للتمويه والتغطية على الحقائق المادية بحجج دينية، وتحويل الصراع بيننا وإسرائيل إلى صراع ديني، يدخل الله ذاته في هذه المعركة مع المسلمين ضد الكفار.
في جريدة مصرية قومية كُبرى قرأنا لكاتب من النُّخبة، يحمل لقب الكاتب الكبير في عصر السادات ومبارك وعصر ما بعد الثورة، كان ساداتيًّا ثم مباركيًّا ثم مناضلًا وطنيًّا صبغ شعره، وأصبح شابًّا ثوريًّا ﺑ «نيو لوك» من رموز المعارضة الشُّرفاء، وعضو مؤسس في الحزب الثوري الديمقراطي الجديد، يملك هذا الكاتب الكبير حتى اليوم عددًا من الأعمدة اليومية في أهم الصحف المصرية والعربية، الحكومية والمستقلة والمعارضة، يُطِل وجهه كثيرًا من الشاشات والأقمار الصناعية، يُطلق الفتاوى في أمور السياسة والدين، والحرب والسِّلم، والاقتصاد والبورصة، والجنس والأخلاق، باعتباره المُفكِّر العظيم الذي يُشكِّل الرأي العام.
نشر هذا الكاتب الكبير في عموده اليومي مقالًا طويلًا، يدعم به خزعبلات بعض الجماعات الدينية السائدة هذه الأيام، بعضهم لا يعرف القراءة، ويجهل التاريخ والأديان والسياسة والاجتماع، فما بال علم الحرب والأسلحة النووية!
كتب في عموده: «إن سلاحنا ضد إسرائيل هو كتاب الله الكريم، هو مضاعفة جرعات الدين في المدارس، وأن نُعلِّم الأطفال الإيمان بالله، والاعتماد عليه سبحانه في السِّلم والحرب. أليس الله هو الذي نصر بني إسرائيل على فرعون الكافر؟ فأوحى إلى سيدنا موسى — عليه السلام — أن يخرج بقومه، كانوا عدة آلاف، مُتجهين إلى سيناء، فلما عرف فرعون بذلك جمع جيشًا كبيرًا قاده بنفسه لمطاردتهم، وأمام البحر الأحمر، عند التقاء خليج السويس بمنطقة البحيرات توقف سيدنا موسى حائرًا خائفًا من أن يلحق بهم فرعون، ويقضي عليهم، لكنه رغم خوفه كان واثقًا من أن الله يُحارب معه، وتحققت ثقة سيدنا موسى في رب بني إسرائيل، فما إن اقترب جيش فرعون، وظهرت أعلامه وأوشك أن يقضي على موسى وقومه، حتى جاء وحي الله إلى موسى، فضرب البحر بعصاه، فانفلق البحر نصفين، وظهر طريق من اليابسة وسط الماء، عبره بنو إسرائيل وموسى سيرًا على أقدامهم، حتى وصلوا إلى بر الأمان في سيناء.
حين وصل فرعون وجيشه كان البحر ما زال مفلوقًا نصفين، وبنو إسرائيل وموسى قد عبروا سالمين إلى الشاطئ الآخر، بالطبع لم يفكِّر فرعون في معجزة رب موسى وبني إسرائيل؛ لأنه كان كافرًا، فنزل فرعون وجيشه إلى الطريق الأرضي وسط البحر، حتى أصبحوا في منتصف الطريق، هنا أصدر الله أمره إلى البحر، فعاد البحر كما كان، وانطبقت مياهه على فرعون وجيشه، فغرقوا جميعًا وماتوا، نجا بنو إسرائيل من الغرق بسبب إيمانهم واعتمادهم على الله، لكنهم سرعان ما تشككوا كعادتهم، وطلبوا من سيدنا موسى براهين أخرى على أن الله يقف معهم ضد أعدائهم، طالبوه أيضًا بأن يأتيهم من عند ربه بالوصايا والأوامر التي تُنقذهم من التيه، وصعد موسى إلى الجبل يُناجي ربه، ويطلب لقاءه، لكن ربه اشترط عليه قبل لقائه أن يصوم ثلاثين يومًا، وفعلًا صام موسى ٣٠ يومًا، لكنه بعد الصيام اكتشف أن رائحة فمه منفِّرة، فاستخدم من لحاء الشجر سواكًا ليطهِّر فمه قبل أن يلقى الله، لكن الله أمره بأن يصوم عشرة أيام أخرى قبل أن يُقابله ودون تغيير رائحة فمه، وذهب موسى إلى موعده مع الله على جبل الطور في سيناء، هذه هي سيناء المُقدَّسة أرض المعجزات أيها القراء الأعزاء.»
قرأت هذا العمود بعد يومين من مقتل الجنود المصريين على الحدود بواسطة الجيش الإسرائيلي، لم أفهم من مقال الكاتب الكبير شيئًا مفيدًا، وما أثر مثل هذا الكلام على الرأي العام في هذا الوقت بالذات؟ هل يفسر الدين بطريقة القوى الدينية السياسية المراوغة؟ هل يزايد عليها ويُعلن أن الله سوف يحارب إسرائيل كما حارب فرعون؟ هل يحاول صرف الشعب أو الجيش عن المقاومة الحقيقية بدلًا من هذا الكلام غير المجدي عن الماضي السحيق؟ لماذا لم يتكلم عمَّا نُعانيه في الحاضر من أجل توعية الرأي العام؟ لماذا لم يشرح الأسباب التي دعت إسرائيل لقتل الجنود المصريين؟ هذا هو واجب النخبة التي تحتل الأعمدة في الصحف والإعلام، أن توضح للرأي العام الجرائم التي تقترفها إسرائيل ضد مصر وفلسطين وغيرهما من الشعوب، أن تكشف المخطط الصهيوني الأمريكي لنهب البترول وموارد المنطقة المادية، أن توضح للشعب المصري وسائل المقاومة السياسية والعلمية والثقافية، وفي كل مجالات الحياة العامة والخاصة، وكيفية تجميع الجهود وتوحيد القوى الشعبية والرسمية أيضًا، استعدادًا للمقاومة العسكرية إن لزم الأمر في الوقت الذي نختاره، كيفية تنظيم المظاهرات لتكون أداة سياسية فعَّالة داخليًّا وخارجيًّا، كيف يمكن تطوير وسائل الدفاع عن وطننا علميًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وتعليميًّا وعسكريًّا أيضًا. أصبحت الشعوب والجيوش في عصرنا الحديث تنتصر على أعدائها بالأسلحة المتطورة الحديثة، وليس بعصا موسى السحرية.
والسؤال هو: هل نشر الكاتب الكبير عموده الطويل بسبب الغفلة أو الجهل؟ ولماذا يحتل الجهلاء أهم المساحات في الصحف والإعلام كما احتلوها في عصر مبارك والسادات؟ هذا مُجرَّد مثال واحد للعراقيل التي تواجه الثورة، التي يجب حمايتها بكشف الجهل السائد لدى النُّخبة، أو تعاونهم المراوغ مع الأعداء وفلول النظام.