العقل الجمعي والموروث المجتمعي
مآسي الشعب تمرُّ دون انتباه، الإعلام أصابته حُمَّى الانتخابات، أصبحت الانتخابات هدفًا في حد ذاتها، ومقعد الحكم هدف في حد ذاته، الكل يتنافس على خدمة مصر، ومن أجل الشعب المصري لا ينامون الليل، وينفقون الأموال بالملايين على الدعاية الهوائية، لا أدري متى يمكن أن نقطع الحبل السُّرِّي بين الانتخابات والديمقراطية؟! وهل يمكن تحقيق الديمقراطية بتغيير وجه رئيس الدولة والنظام الحاكم كما هو، والدستور لم يتغير؟ والتعليم والثقافة والإعلام لم يتغير فيهم شيء، العقلية لا تزال مغلقة على الموروثات، والعبودية راسخة في النفوس والمؤسسات.
من أجل الشعب المصري يتصارعون، والشعب المصري خارج هذه اللعبة الانتخابية، الشعب المصري خارج السياسة، ومن هو الشعب المصري؟
مأساة طفل مصري، كتبت عنها الصحف، لم أقرأ ردًّا أو تعليقًا واحدًا من المتنافسين على خدمة الشعب، أو أحد من النشطاء السياسيين أو الاجتماعيين، مرَّ الخبر كأن لم يكن، واستمرت حُمَّى الانتخابات، واستمر الناس في حياتهم دون أن يُدركهم الوعي، أو تتحرك خليَّة واحدة في مخهم ليفكروا، يتصارعون من أجل الحصول على الخبز والغاز والسكر والشاي والمعسِّل، يأتي «المعسِّل» أولًا، لزوم الرجولة، المعسِّل أهم من الخبز لأطفالهم ونسائهم، فالرجولة هي حياة الرجل، من يفقد رجولته كمن يفقد حياته وأكثر.
الطفل محمد عمرو (عُمره سنة ونصف) فقد عضوًا من جسده، أهم عضو في نظر الناس، العضو المختص بالرجولة والإنجاب، يمكن أن يفقد الرجل كبده، أو ساقيه أو عينيه الاثنتين، ويظل رجلًا كامل الرجولة، لكن أن يفقد هذا العضو! فهذه هي الكارثة الكبرى في نظر نفسه والمجتمع.
ولد الطفل محمد بصحة جيدة كامل الجسد في كرداسة عام ٢٠١٠م، لكن جهل الأب والأم أفقده الصحة والفرح، وأصبح طفلًا مُعاقًا حزينًا ناقص الجسد، فاقد الرجولة كما يقول عنه الناس، لماذا؟
لأن الطبيب قطع عضوه الطفولي الصغير مع الغُرلة أثناء ختانه.
والدة نبي اليهود «موسى» لم تختن طفلها، فغضب عليها الرب، حتى أمسكت حجرًا وقطعت غرلة الطفل، تقول التوراة: هدأ غضب الرب حين رأى الدم ينزف من جسد الطفل، وأصبح العهد المقدَّس بين الرب وشعبه المختار أن يقطعوا غرلة أطفالهم الذكور مقابل الأرض الموعودة (فلسطين).
ارتفع وعي الشعب اليهودي، وأبطل الكثير من الموروثات، ومنها عمليات ختان الأطفال الذكور، حرصًا على الصحة الجسدية والنفسية والاجتماعية للرجال، لكن الشعب المصري لم يدركه الوعي بعد بمخاطر هذه العمليات؛ لأن القليل من الأطباء يمتلك هذه المعرفة الجديدة، وإن ملكها فهو لا يملك الشجاعة لتبنِّي قضية حساسة تتعلق بقطاع من الشعب (الأطفال) ليس لهم أصوات في الانتخابات.
الأب والأم لهذا الطفل المسكين، مثل الملايين من الشعب المصري يُقدمون على تعريض حياة أطفالهم للخطر، تحت اسم عملية «الطهارة» عمليات جراحية تودي بحياتهم، أو تسبب لهم عجزًا أو عاهة أو مشكلة جسدية أو نفسية تبقى معهم حتى الموت.
هناك صمت كبير حول هذه الأمور، إلا النادر القليل.
الطبيب في كرداسة، مسقط رأس الطفل، قطع بالمشرط عضو الطفل، كان يريد قطع الغرلة فقط، لكنه جاهل أو ضعيف البصر أو غير متمرن، في كلية الطب لم نتدرب على إجراء عليمات الختان، فهي عمليات صغيرة ينظر إليها الأطباء شذرًا، ويتركونها للممرضات أو الممرضين وحلاقي الصحة. يقوم الطبيب الجراح المحترم بعمليات كبيرة لاستئصال الكلية أو الكبد أو المعدة أو الطحال أو المخ.
العقل الجمعي البشري يتطور ببطء شديد بالنسبة لعُمر الإنسان، الحكومات والدول تقوم على التحكم في العقل لإخضاع الإنسان للقهر.
تقول الصحف المصرية إن الأب تقدم ببلاغ إلى نيابة كرداسة يتهم الطبيب بالخطأ، لكن النيابة أهملت البلاغ، تحت الإيمان بأن خطأ الطبيب إصابة الأقدار. بمعنى أن خطأ الطبيب هو إرادة الله. حاول الطبيب اتهام الأب بالكفر وعدم الإيمان بالله، ذهب الأب إلى النيابة، صدقت النيابة الطبيب؛ لأنه متعلم من طبقة محترمة، لم تصدق الأب، رجل الشارع، الذي لا قيمة له (مثل باقي الشعب) إلا في خُطب المرشحين في الانتخابات.
الأب الفقير أراد أن يفرح بابنه، فطلب من الطبيب إجراء العملية قبل مجيء العيد، طلب الطبيب من الأب والأم مغادرة غرفة العمليات، حتى لا يروا مأساة الطفل، وعادت الأسرة بطفلها إلى البيت، الذي أصبح مريضًا بالحمى يصرخ بالألم، اتصل الأب بالطبيب الذي قال له: «ده شيء عادي.» لكن تدهور حالة الطفل جعل الأب يستشير طبيبًا آخر، والذي كشف الحقيقة المروِّعة، أن الطفل فقد العضو كله في عملية الختان، وأن إنقاذ حياة الطفل يتكلف عشرة آلاف جنيه لإجراء عمليات أخرى، منها أولًا عمل قسطرة للطفل للتخلص من بوله وبرازه، ذهب الأب الفقير إلى مستشفى قصر العيني المجاني، حيث أصبح الطفل مادة للتدريس لطلبة الطب، بعدها فقد الأب والأطباء الأمل في شفاء الطفل.
تم تجريم ختان البنات في مصر قانونًا عام ٢٠٠٨م، بعد تعرُّض بعض البنات للنزيف حتى الموت أثناء العملية، منهن الطفلة «بدور» التي كتبت عنها سابقًا، لكن ختان الأطفال الذكور مستمر حتى اليوم، رغم مآسي الأطفال التي تمر دون انتباه.
من المُفجع أن هناك من يريدون العودة بنا إلى الوراء، وإباحة ختان البنات مجددًا، تحت اسم الحفاظ على أخلاقهن.
هل نكتسب الأخلاق الحميدة بالتربية السليمة أم بقطع أجزاء من أجساد الأطفال؟