التوءم … بوش وابن لادن
بعيدًا عن الوطن بعشرة آلاف ميل لا أشعر بتغيُّر كبير في المكان أو الزمان، كل شيء يتشابه، ويختلف أيضًا، على نحو عجيب.
يجول في عقلي هذا السؤال: «إذا تصور الإنسان أنه امتلك الحقيقة هل ينغلق عقله على هذه الحقيقة، ويعجز عن الانفتاح والتفكير في حقائق جديدة؟»
العقل البشري قطعة خام من اللحم نسميها «المخ»، يتشكل ويتطور مثل أي عضو بالجسد، مع التعليم والتدريب والوعي المتزايد.
تطور العقل في بعض المجتمعات القليلة في العالم، أو الجامعات المتقدمة بسبب تطور العلوم والفنون والتعليم والتربية، أصبح الإنسان قادرًا على رؤية حقائق الكون الجديدة دون فزع، دون إشعال الحرائق وقتل الآخرين المخالفين له في الرؤية.
مجتمعات أو جامعات أخرى وقعت قرنًا وراء قرن، وما تزال واقعة حتى اليوم، تحت نير الاستعمار الخارجي والاستبداد الداخلي، مما عطَّلها عن التطور، وأغرقها في ظلام الجهل والفقر والمرض، والتعصب القومي والجنسي والديني والسياسي والاجتماعي والثقافي.
التعصب نوعٌ من العمى يُصيب العقل فلا يفكر الإنسان قبل أن يغضب أو يقتل، أو يسب الآخر، ويتهمه بالإلحاد والكفر.
كلمة الإلحاد أو الكفر، لا وجود لها في هذه المجتمعات أو الجامعات المتطورة؛ إذ لا يدخل الدين عنصرًا في تقسيم الناس إلى مؤمنين وملحدين.
في جامعة ميشيجين دار الحوار في ندوة علمية، تكلم بعض الأساتذة عن الاكتشافات الجديدة في علم الكون، دار الحوار الهادئ دون تشنُّجات أو اتهامات، الطالب كريس سأل الأستاذ الدكتور: «أتقول يا دكتور إن الكون نشأ من اللاشيء؟»
جاءه الرد: «نعم يا كريس، هذا ما اكتشفه العلم أخيرًا.»
– لكن كيف ينشأ الشيء من اللاشيء يا دكتور؟
– اللاشيء لا يعني لا شيء يا كريس، الفراغ ليس فارغًا كما نتصور، بل يحتوي على طاقة قد تكون كبيرة.
– نعم أتصور هذا يا دكتور، فأنا أدرس الإلكترونيات، لكن هل تقصد أن الكون نشأ وحده دون الإله الخالق؟
– نعم أقصد ذلك يا كريس.
– لا أتصور أن يأتي الشيء من العدم يا دكتور، لا أتصور أن الكون يخلق نفسه بنفسه.
– هل تتصور يا كريس أن الله خلق نفسه بنفسه من العدم؟
– نعم يا دكتور.
– لماذا إذًا لا تتصور الشيء ذاته بالنسبة للكون يا كريس؟
سكت الطالب طويلًا في تفكير عميق، كان في القاعة خليط من البشر، من مختلف الأعمار والألوان والأديان والجنسيات والأجناس، يتابعون الحوار في صمت عميق، لم ينهض أحدهم متشنجًا واتهم الأستاذ بالإلحاد.
قال أستاذ هندي من السيخ رأسه ملفوف بعمامة ضخمة: «وهل الكون مثل الله يا دكتور؟ الله قادر على أن يخلق نفسه من العدم؛ لأنه قادر على المعجزات، أليس كذلك؟»
سرت همهمة بين الحاضرين، وقفت طالبة طويلة سمراء من أمريكا الجنوبية، وقالت: «كشف العلم خلال القرنين الماضيين عن الأسباب الحقيقية لما يسمى بالمعجزات السماوية، ألم يتصور الناس أن الأمطار تأتي من عند الله؟»
ودار الحوار دون أن يرتفع صوت بالغضب أو الاحتجاج أو اتهام الآخرين بالإلحاد أو الكفر.
سأل الأستاذ الكاثوليكي رئيس قسم الأديان: «كيف يأتي العدل والصدق والفضائل العليا من منبع غير الله خالق الكون وخالق الفضيلة؟»
ردت عليه طالبة عراقية بهدوء: «الفضائل يا دكتور نتعلمها في البيت والمدرسة، ونكتسبها بالممارسة اليومية، هناك الملايين الذين آمنوا بالله، ومع ذلك قتلوا وفسقوا ونهبوا، منهم أدولف هتلر وجورج بوش الأب والابن والرُّوح القدس.»
وأضاف طالب عراقي: «وصدام حسين.»
سرت همهمات وضحكات مكتومة.
قالت طالبة إيطالية: «الكتاب المقدَّس لا يحكم بفضيلة العدل؛ إذ يقول الله للمرأة: «تشتاقين لزوجك وهو يسود عليك».»
رد طالب مسيحي من السويد: «كلمة يسود عليك لا يعني بها الله السيطرة والقوامة، بل تعني الرعاية والحماية، فالمرأة ينبوع الحنان والعاطفة؛ لهذا يكون اشتياقها أكثر لرجل قوي يحميها ويدافع عنها، كلٌّ منهما يُكمل الآخر، والرجل كما قال الله يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته، فيصيران جسدًا واحدًا، لقد فضَّل الله هنا المرأة عن الرجل؛ لأنه جعله يترك عائلته ويلتصق بها.»
ردت الطالبة الإيطالية: «المرأة أيضًا تترك عائلتها وتلتصق برجلها، لماذا نسي الله هذه الحقيقة؟»
تحمَّس الطالب المسيحي دون انفعال: «الله لا ينسى، الله لا يُفضِّل الرجل عن المرأة في المسيحية، ولا يوجد عندنا تعدُّد زوجات، ولا يحدث الطلاق إلا لِعلَّة الزنا.»
ردت طالبة مسلمة من الباكستان: «القرآن يُحرِّم تعدُّد الزوجات في الجوهر، ويُساوي بين الجنسين في الحقوق والواجبات، بما فيها الطلاق والإرث والنسب، لكن المفسرين للقرآن معظمهم رجال ذكور، تابعون للحكم الاستبدادي فوق الأرض، الكتاب المقدس أيضًا له ترجمات وتفسيرات متعددة مختلفة، حسب نظام الحكم في كل بلد، الدين يتبع السياسة وليس العكس، أليس كذلك؟»
استمر الحوار في جو يتسم بالموضوعية والتفكير الهادئ، ثم خرجنا في الاستراحة لشرب القهوة، على شاشة التلفاز في قاعة الكافيتيريا رأينا رجالًا لهم لحى سوداء طويلة، يحملون أعلامًا سوداء مكتوبًا عليها كلمات قرآنية، يُشعلون النيران في المباني والسيارات، ويصرخون في غضب هيستيري، يطالبون بقتل كل من شارك في صنع الفيلم المسيء للإسلام.
أحسست بغصة ولم أستطع ابتلاع القهوة، أو كوب ماء، كانت الصور من باكستان، والمذيع يقول إن الرعاع من الإسلاميين في الشرق الأوسط ينظمون المظاهرات ضد أمريكا.
قال أحد الأساتذة الأمريكيين: «أمريكا لم تصنع هذا الفيلم، إنهم لا يتظاهرون ضدَّنا، بل ضد الفقر والبطالة وحكامهم المُستبدِّين، ألم يتظاهر الشعب المصري في يناير ٢٠١١م ضد نظام حسني مبارك الفاسد وليس ضد أمريكا، أليس كذلك يا دكتورة نوال؟»
ابتلعت جرعة قهوة مُرَّة كالعلقم وسألته بهدوء: «ومَن كان يدعم نظام مبارك الفاسد يا دكتور؟ أليست هي أمريكا نفسها؟ ومَن كان يدعم هذه التيارات الدينية السياسية من رونالد ريجان إلى جورج بوش إلى هيلاري كلينتون؟»
ثم وجَّهت إليه سؤالي الأثيري: «أليس جورج بوش وابن لادن توءمًا؟»
وانفجرت القاعة بالضحك، وخفَّت الغُصَّة قليلًا في حلقي.