العضلات السياسية في مصر وانسحاب المرأة
نجحت الثورة التونسية في التخطيط لوضع دستور جديد يقرر المساواة الكاملة بين النساء والرجال، تحقيقًا لمبادئ الثورة: العدالة والحرية والكرامة.
شعرت بالسعادة وأنا أسمع هذا الخبر خلال مؤتمر عالمي في بلجيكا، في الرابع والعشرين من سبتمبر (أيلول) عام ٢٠١١م، تحدَّثت فيه وفود من تونس وفلسطين ومصر وبلجيكا وبلاد أخرى.
حضر المؤتمر حوالي ألف امرأة ورجل، لم أشعر بالغُربة وأنا جالسة في مجتمع تتساوى فيه النساء مع الرجال، تعلو أصوات النساء بمثل ما تعلو أصوات الرجال، تتساوى فيه فلسطين مع كل البلاد، ويعلو صوت فلسطين مثل كل أصوات الدول، بالطبع لا يمثل هذا المؤتمر الحكومة البلجيكية، فهي مثل غيرها من الحكومات غربًا وشرقًا تُتقن الألعاب السياسية والانتخابية المفروضة في عالم تحكمه القوة وليس العدل أو الحرية أو الكرامة.
لقد نظَّم هذا المؤتمر حزب العُمَّال في بلجيكا، وسألت مرافقي الشاب البلجيكي «بيرت»: «هل حزب العُمَّال يعني الحزب الشيوعي؟»
قال: «لا، لقد اخترنا أن نُسمِّي حزبنا حزب العُمَّال لندافع عن حقوق العاملين جميعًا وحقوق النساء، وقد نقدنا الأحزاب الشيوعية في بلجيكا وأوروبا؛ لأنها تخلَّت عن قضايا العُمَّال والنساء، ولم تعُد تختلف كثيرًا عن الأحزاب اليمينية، لقد ذاب اليسار الأوروبي في اليمين، بل ذاب أيضًا في الأحزاب المسيحية المُحافظة، بل أيضًا بدأ ينافق التيارات الإسلامية المتصاعدة في أوروبا.»
واستطرد قائلًا: «المشكلة الطبقية تُشبه المشكلة الأبوية، وهي مشكلة طغيان القوة على السياسة، القوة العسكرية الاقتصادية مع القوة العضلية الذكورية كلاهما تؤيده العقائد السياسية والدينية، لهذا تم تجاهُل قضايا النساء والعُمَّال تحت حُكم اليمين أو اليسار.»
قلت لبيرت: «وأنت من اليسار أم ماذا؟»
قال: «لم نعُد نهتم كثيرًا بالعنوان أو اسم الهوية، نحن نهتم بالعمل وسط العُمَّال والنساء.»
فعلًا لَحِظت أن القاعة ممتلئة بالنساء والعُمَّال والشباب من مختلف الفئات.
سألني بعض الشباب والشابات من تونس عن المرأة المصرية بعد الثورة فقُلت: «نحن نصارع قوة الثورة المضادة التي تضرب حقوق النساء والفقراء معًا، كنا في ميدان التحرير قوة موحَّدَة النساء والرجال ومن كل الفئات دون تفرقة، وكان لا بد أن نستمر في ميدان التحرير حتى نُكوِّن المجلس الشعبي الثوري كما حدث عندكم في تونس.»
قالت شابة تونسية: «نعم، لقد كوَّنَّا المجلس الشعبي الثوري في تونس الذي يُراقب ويُوجِّه الحكومة الانتقالية، الجيش في تونس يتولَّى حماية البلد من أعداء الخارج، ليس للجيش سُلطة في إدارة البلاد كما الحال في مصر، مطالب ثورتنا تنفِّذها الحكومة الانتقالية تحت إشراف الثورة من خلال مجلسنا الشعبي الثوري، لهذا لم يحدث الانفصال بين التغيير السياسي والتغيير الاجتماعي، ونالت حقوق النساء والعمال والفقراء الاهتمام، وتم تغيير الدستور لتحظى المرأة التونسية بنصف المقاعد البرلمانية؛ لأنها نصف المجتمع.»
توقَّفت عن الحديث، وأصابتني غُصَّة، تذكَّرت الغُربة التي أشعر بها في أي اجتماع سياسي في مصر، بعد الثورة مثل قبل الثورة، فقط خلال أيام الثورة في ميدان التحرير زالت غُربتي، كنت أجلس تحت الخيام مع نساء ورجال لا أعرفهم، مسلمين ومسيحيين، شباب وشابات لم أقابلهم من قبل، لكن عِشت معهم في سعادة وأمل كأنهم من أفراد عائلتي، بل إن عائلتي الصغيرة البيولوجية بدت أقل حميميةً من هذه العائلة الإنسانية الكبرى.
لو أننا كوَّنَّا مجلسنا الشعبي الثوري في ميدان التحرير قبل أن نتفرق لما حدثت الرِّدَّة في حقوق النساء والشباب والعُمَّال والفقراء، ولما قبض على الحكم القوى غير الثورية القديمة، المتشبِّثة بكراسيها في كل أجهزة الدولة، أو القوى السياسية الانتهازية التي تتسابق للقفز على الحُكم في أي لحظة.
قبل سفري بأيام شاهدت أحد الاجتماعات السياسية الكبيرة في القاهرة، التي تظهر فيها العضلات الذكورية والسباق المحموم للفوز في حلبة الانتخابات، والتنافس على اقتسام كعكة السلطة والمال والإعلام، شعرت بالغربة في بحر من الذكور من ذوي الأصوات الخشنة الزاعقة والقبضات القوية تضرب الهواء، وكل من يختلف معهم، لم يكن هناك إلا قِلَّة قليلة من النساء أغلبهن محجبات صامتات، وإن تكلَّمت إحداهن فهي تقلِّد الرجال في الصراخ والضرب بقبضة اليد، أو تتكلم بصوت خجول ناعم بأمل التأثير الأنثوي على الذكور، كان الموضوع يخص الوطن كله، وليس نصفه فقط من الرجال، لكن الاجتماع انتهى إلى قرارات سياسية تتعلق بالانتخابات والأحزاب، ولا شيء عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية والتعليمية والصحية المُلِحَّة في حياة الأغلبية الساحقة من الشعب المصري نساءً ورجالًا، بل كان هناك اتجاه طبقي أبوي يلفظ مطالب العُمَّال والفقراء بطرف لسانه قائلًا عنها: «مطالب فئوية ليست ذات أهمية.» أما حقوق النساء والأمهات والأطفال المشردين، فقد اتفق الجميع على أنها من صنع الغرب أو صنع سوزان وجيهان وليلى وموزة ولوزة وغيرهن من زوجات الحكام ذوات القبضة الحديدية، بنات حواء الآثمة التي أخرجت آدم والبشرية كلها من جنة الرضوان.
أصبحت حقوق النساء تتراجع بعد الثورة، والنساء ينسحبن من المعركة الضارية، حيث تُنتهَك السُّمعة والجسد كما يُنتهَك كلُّ شيء تحت اسم حرية الانتخابات.
شيء ينتهك سُمعة الثورة المصرية التاريخية رغم أهدافها الإنسانية العُليا ووسائلها السِّلمية المُتحضِّرة، وعلينا أن نُنقذ ثورتنا من براثن أعدائها، أن نُعيد الوحدة إلى صفوفنا نساءً ورجالًا، أن نربط القضايا السياسية بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والصحية.
لقد تخلَّت كل الأحزاب والعضلات السياسية في الحلبة عن كل هذه القضايا التي قامت من أجلها الثورة، وعادت إلى اللعبة القديمة منذ العهود الغابرة، وعلى المرأة أن تتحلَّى بالوعي والشجاعة وليس بالكعب العالي والماكياج وصبغات الشعر، أن تتوحَّد صفوفها داخل الاتحاد النسائي ليُصبح لها قوة سياسية وصوت مسموع محترم، أن تربط قضية المرأة بقضية الوطن، أن تدرك أن هناك بعض الرجال أكثر وعيًا وحماسًا لقضية المرأة من نساء يضربن حقوق المرأة بالانضمام إلى فلول أو فلولات سوزان مبارك، باعتبارها رائدة تحرير المرأة المصرية، والحقيقة أنها لعبت دورًا كبيرًا في مصادرة الاتحاد النسائي الشعبي، وتفتيت الحركة النسائية في مصر، وإحاطة نفسها بالمنافقين والمنافقات في المجلس القومي للمرأة. لقد حوَّلت زوجات الملوك والحكَّام في مصر والعالم العربي الحركات النسائية الشعبية إلى حركة قِلَّة نُخبوية عليا من كبار الموظفين والموظفات في الحكومات.
من السهل الحديث عن الثورة وحقوق الفقراء والنساء، كل الأحزاب والعضلات السياسية تضع هذه الحقوق في المزاد في الموسم الانتخابي لتحصل على أصوات النساء والفقراء، وما إن ينتهي المولد، حتى يعود كل شيء كما كان، ألا يتعلم الفقراء والنساء الدرس؟!