النساء والشعب بين المُطلَق والنِّسبي
تسعى التيارات الدينية «الأصولية» لوضع دستور مصري قائم على شرع الله، والسيادة لله (حسب مفهومهم لمعنى الله والشرع)، وتسعى التيارات المدنية والعلمانية لوضع دستور يقوم على سيادة الشعب والقانون والعدالة (حسب مفهومهم للشعب والقانون والعدالة).
الحوار يدور، لكنه ليس حوارًا فكريًّا متجرِّدًا عن المصالح الاقتصادية والسياسية، يدور بين الرجال والرجال، لا تشارك فيه النساء (نصف المجتمع)، إلا قِلَّة قليلة تُعد على أصابع اليد الواحدة، تحرص كل منهن على التبعية لفكر حزبها، أو التيار الذي تنتمي إليه، سواء كان دينيًّا أو علمانيًّا.
امرأة تنتمي إلى اليسار القبطي العلماني تؤيد بقاء المادة الثانية في الدستور التي تنص على: «مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع»، هذه الأستاذة تُدرك أن هذه المادة تتناقض جذريًّا مع الدولة المدنية، وتمهد الطريق لدولة دينية إسلامية أصولية، لكنها تسعى فقط لإضافة عبارة: «يتبع غير المسلمين شرائعهم في أحوالهم الشخصية»، تردِّد ما يقوله زملاؤها في الحزب، دون أن تُدرك الضرر الذي سيقع على مصر كلها، وعليها كامرأة، فمكانتها في شريعتها ليست أفضل من غيرها من الشرائع.
واحدة أخرى من التيار الإسلامي الأصولي تُصر على هذا النص «في إطار الشريعة الإسلامية» فيما يتعلق بقانون الأحوال الشخصية، وتُريد إضافة نص جديد «طاعة المرأة لزوجها وحجابها وتعدد الزوجات من أوامر الله». لا تُدرك هذه الأستاذة أنها أول من تدفع من حياتها ثمن هذه النصوص.
الحوار حول المادة الثانية من الدستور كشف عن غياب الوعي، أو الأصح غياب الشجاعة الفكرية في مواجهة التديُّن المتصاعد، لتكريس الخضوع للاستبداد السياسي والاقتصادي والثقافي تحت اسم الديمقراطية.
كلمة الديمقراطية أصبحت كاللبان الأمريكي، يلوكها كل لسان، الكل يتغنى بالديمقراطية كتابةً وشفاهةً من أقصى اليمين الرأسمالي الديني إلى أقصى اليسار الاشتراكي العلماني، فقدت الكلمة معناها.
كلمة العلمانية شاعت مع الزحف الديني الأصولي، في مصر والعالم شرقًا وغربًا، يحتاج الحكَّام إلى شعوب جاهلة مطيعة يسهل حكمها واستغلالها. لا يختلف النظام في مصر عن النظام في أمريكا أو أوروبا، الاختلاف فقط في الشكل المُتقَن التكنولوجي، والتقدُّم العلمي في تجميع المعلومات وتطوير أسلحة الدمار الشامل.
خضع العالم سبعة آلاف عام لفكرة العُدوان على حقوق الغير بالقوة، أصبحت الحرب هي القانون الطبيعي، أو القانون الإلهي المُطلَق، القوة المُطلَقة التي خلقت الغني والفقير والرجل والمرأة والسيد والعبد والحاكم والمحكوم.
حتى اليوم يقوم التعليم على المُطلق في المدارس الأمريكية والأوروبية حسب الفكر المسيحي، رغم انهزام الكنيسة أمام العلم الحديث. تطور علم الكون وعلم البيولوجيا، وفسيولوجيا المخ، أصبح كل شيء نسبيًّا يخضع للعقل والعلم، لا أحد يؤمن هناك أن المرأة أقل بيولوجيًّا أو عقليًّا من الرجل، رغم أن أغلب النساء هناك يعانين التفرقة في قوانين الزواج والنَّسَب والإرث، وتحصل المرأة على نصف أجر الرجل في مجالات كثيرة، وتصل المرأة هناك إلى منصب وزيرة الخارجية أو رئيسة الدولة، لكنها تظل خاضعة لمفهوم الزواج والأمومة حسب مفهوم الكنيسة القديم. لا أحد هناك يؤمن أن الكون جاء في ستة أيام، حسب نظرية الخلق في الكتاب المُقدَّس، لكنهم يذهبون إلى الكنيسة كل أحد، يدفعون النذور على شكل التبرُّعات، يحتفلون بميلاد المسيح وأمه العذراء، وإن توقفوا عن الإيمان بالعُذرية.
تغلَّب التيار الديني الأصولي في مصر على التيار العلماني، يتم تغيير بعض مواد الدستور، خاصةً فيما يتعلَّق بحقوق الشعب الفقير والنساء، يعني حقوق الأغلبية خارج الأحزاب والقوى السياسية.
الشعب المصري، في نظر التيار الديني، ليس مصدر السُّلطات، بل الله هو صاحب السيادة، كيف يسمحون للشعب أن يحكمهم؟ الشعب الذي خلع مبارك بقوته الثورية، وما زال ينادي بإسقاط بقية النظام.
يجب عليهم إزاحة الشعب؛ ليصبح الحكم لهم تحت اسم الله، من يعترض على الله إلا الكفرة؟ كلمة الشعب لا تقل غموضًا عن كلمة الله، في نظر التيار العلماني.
لا يؤمن بالشعب المصري المقدَّس (في نظرهم) إلا الخونة للوطن وأعداء العدالة الاجتماعية.
يعيش أغلبهم في الأحياء الراقية النظيفة، يُنفقون الأموال على تعليم أولادهم في أمريكا وأوروبا، أدواتهم أجنبية، بما فيها الكمبيوتر واللاب توب، يقابلون هيلاري كلينتون، وأعضاء لجنة الحريات الدينية الأمريكية، يؤلفون الكتب عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، يشطبون أسماء النساء المفكِّرات المصريات من التاريخ الحديث والقديم.
تيار الإسلام السياسي في مصر لا يقل تناقُضًا، إلى جانب تعاونه مع الاستعمار القديم والجديد، مع ذلك يتهمون أي شخص بالعمالة للغرب أو بالكفر، إن أراد فصل الدين عن الدولة، أو سألهم هذا السؤال البَدهي: «مَن يتجسَّد في صورة الله حين نُريد تطبيق نص «السيادة لله»؟ أنتم أو الإخوان أو السلفيون أو الصوفيون أو القرآنيون أو السُّنَّة أو الشيعة؟»
التيار العلماني في مصر، الليبرالي أو الاشتراكي، وغيرهما، لماذا فشلوا جميعًا في تأسيس تيار فكري يقف في وجه هذه التيارات الدينية الصاعدة؟
هناك أسباب من خارجهم ومن داخلهم، منها أن الحكومات المصرية المتعاقبة عبر القرون، عملت على ترسيخ الفكر الديني الأصولي في نفوس الأطفال. في المدارس المصرية، يقوم التعليم في مصر حتى اليوم على السمع والطاعة، طاعة الله وأولي الأمر منهم، المندوب السامي وجلالة الملك أيام الإنجليز، مبعوثة أوباما والسيد الرئيس أيام الأمريكيين، بالإضافة إلى الزوج صاحب القوامة في حالة الجنس الآخر من غير الرجال.
المفكرون العلمانيون يذكرون علي عبد الرازق وطه حسين ونجيب محفوظ وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد، وغيرهم. لا يذكرون بالطبع اسم امرأة مصرية، قد يقتبسون عبارة من امرأة أمريكية أو أوروبية باعتبارها مُفكِّرة، لكن المرأة المصرية في نظرهم لا تكون مفكرة، إنها ناقصة عقل عن الأجنبية.
يقابل الزعيم السلفي هيلاري كلينتون، يستمع إليها بأدب واحترام، في حين تعيش زوجته حبيسة البيت والحجاب.
لماذا لم ينجح روَّاد التيار العلماني في الوصول إلى الشعب المصري؟ كانوا أفرادًا متفرقين، كلٌّ منهم يكتب كلمته، ويمضي إلى حضن السلطة أو خارج البلاد، لماذا لم يؤسسوا تيارًا فكريًّا متقدمًا؟ لماذا تظل الساحة الفكرية المصرية حتى اليوم خالية من الشجاعة العقلية؟
لا أحد ينقد الفكر الديني السياسي بشجاعة، كم منهم طالب علنًا بحذف المادة الثانية من الدستور؟ كم منهم صُوِّر في الصحف بجانب الرئيس الجديد كما صُوِّروا مع القديم؟ لُغتهم لم تتغير، كلٌّ منهم يتهم الآخر بالتحوُّل، كلٌّ منهم يدافع عن نفسه، يكاد المريب يقول خذوني.
أغلب النُّخب الفكرية لا تأمن إلا في حضن السُّلطة، الشعب المصري أيضًا لا يطمئن إلا في حضن السلطة، يؤمن الجميع بالمثل الشائع: «إن فاتك الميري اتمرَّغ في تُرابه».
هل تغيرت النُّخبة المصرية بعد الثورة؟
ربما تغير بعض الوجوه، لكن الفكر والأسلوب لم يتغيرا، ألا يتخبط الجميع بين المُطلق والنِّسبي؟ بين الديني والعلماني؟ ألا ينسون في الصراع على مصالحهم الطبقية الأبوية نصف المجتمع من النساء؟ ألا يعتبرون مظاهرات الفقراء فوضى وبلطجة، أو على الأقل احتجاجات فئوية غير وطنية؟ ألا تظل صاحبات وأصحاب الشجاعة الفكرية في قبورهم (إن كانوا موتى) أو في بيوتهم، ليس لهم مكان في الساحة الفكرية والثقافية، التي تتصارع فيها القوى الحزبية العلمانية والدينية على حد سواء؟