الكباري مع السُّلطة
تدهشني دائمًا قدرة بعض الكاتبات والكُتَّاب، في الصُّحف الحكومية أو المعارضة، على الوصول إلى أصحاب السلطات الحاكمة، القديمة أو الجديدة، يستهل الواحد منهم مقاله قائلًا: أشكر السيد الوزير أو رئيس الوزراء، أو رئيس المجلس العسكري أو أحد لواءاته، على تكرُّمه بالرد على مقالي، وسرعة استجابته للإفراج عن فلان المسجون دون جريمة، أو إنصاف فلانة التي فُصِلَت من وظيفتها دون خطأ من جانبها، أو علاج الأديب الفلاني على نفقة الدولة؛ لأنه لا يملك ثمن العلاج. كثيرًا ما أقرأ لهؤلاء الكتَّاب الصحفيين، ومنهم مَن كان يكتب الشيء نفسه للمسئولين الساقطين أو غيرهم من أصحاب السلطات السابقة واللاحقة، يدهشني أكثر أن أغلبهم لا يزال في موقعه، يكتب بأسلوبه القديم، بعضهم من شباب الثورة الجدد، الذين يكتبون عن مشكلات مختلفة بالأسلوب ذاته، يفخر الكاتب منهم، القديم أو الجديد، أن رئيس الجيش أو رئيس الوزراء طلبه شخصيًّا أو تلفونيًّا، وسأل عن المشكلة أو المظلوم الوارد في مقاله، ثم أصدر الأمر فورًا بإنصافه أو حل المشكلة، ما يدهشني أكثر أنني رغم كوني كاتبة «مرموقة» منذ أكثر من نصف قرن، وحتى اليوم أكتب مقالًا أسبوعيًّا في جريدة تصدر في القاهرة، وأعرض الكثير من المظالم التي يعيشها أغلب الفقراء والنساء والأطفال البنات والأولاد، إلا أني لم أتلقَّ ردًّا من أي وزير أو مسئول سابق أو لاحق، فما بال رئيس وزراء حكومة الثورة العظيمة أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلَّحة الذي يتولَّى الحكم.
كان صديقي الأديب الراحل يوسف إدريس ينصحني دائمًا بعمل كباري مع السلطة الحاكمة، وإلا فلن أنال أبدًا لقب الكاتبة الكبيرة، أو جائزة الدولة، ولن يلتفت أحد من المسئولين الكبار أو الصغار إلى كتاباتي، وسألته: «وهل أنت تعمل كباري مع السلطة؟» قال: «نعم، كنت أقابل السادات كثيرًا، وأقابل مبارك أحيانًا، ولي علاقة بأغلب الوزراء والمسئولين.» قلت له: «يا يوسف أنت أديب مبدع ولست في حاجةٍ إلى السلطة.» قال: «لا يوجد مُبدع في مصر يمكن أن يستمر في إبداعه دون حماية من السلطة الحاكمة، عندنا يا نوال مافيا الأدب والثقافة يمكن أن تنهشك نهشًا، أو على الأقل تطردك من الساحة الأدبية إن لم يكن لديك حماية من رئيس الدولة أو مسئول كبير آخر، لقد اختلفت مع مبارك مرة واحدة، وكاد يخلعني من ظهر الأرض، فأرسلت إليه شكوى قلت فيها: «إني أشكو منك إليك».» قلت: «أذكر يا يوسف أني قرأت مقالك في جريدة الأهرام ودُهشت كيف تخاطب مبارك كأنه الله تشكو منه إليه!» ضحك يوسف مقهقهًا، قال: «الواقع المؤلم يُحتِّم علينا أن نعمل كباري مع السلطة، وإلا تم تدميرنا دنيا وآخرة؛ لأن السلطة الحاكمة فوق الأرض تعمل كباري مع السلطة الحاكمة في السماء.» ثم واصل الضحك، لكني لم أضحك.
لم أستطع في كل حياتي عمل كوبري واحد مع السلطة، وإن تقرب أهل السلطة مني مرة واحدة، فهم سرعان ما يقررون عدم تكرارها أبدًا، ليس لعدم احترامي لهم، بل لعدم احترامهم لمن هو خارجهم، دائمًا أكون خارج السلطة الحاكمة، كالماء والزيت، لا سبيل للخلط، دافعت دائمًا عن كرامتي في كل العهود، قبل أن تقوم الثورة، قبل أن ترفع شعار الكرامة، قبل العدل والحرية، هدأت الثورة، عدنا إلى بيوتنا مطمئنين للسلطة الجديدة، لم يتغير من نظام الحكم القديم إلا بعض الوجوه، عاد أغلبهم لمناصبهم القديمة أو مناصب جديدة، بعضهم يسعى للعودة بوجوه مغسولة كما تُغسَل الأموال، تحت اسم النظافة والتطهير.
حضرت، مرة واحدة اللقاء الذي كان يعقده مبارك مع الأدباء والمفكرين خلال معرض الكتاب الدولي السنوي، الصفوف الأمامية مخصصة للموظفين الكبار، الوزراء والإعلاميين، والمقربين من الرئاسة ووزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة، مقاعدهم كبيرة ومغطاة بالقطيفة الحمراء، أما النصف الخلفي للقاعة فيشغله كراسي صغيرة من القش (خيزران) مثل كراسي البوابين وعمال الخدمة، هؤلاء من الشعب يجب احترامهم، أرفض التمييز بين الناس على أساس الجنس أو الطبقة أو المنصب، يُعقد هذا الاجتماع للقاء رئيس الدولة مع الأدباء والأديبات، رفضت الجلوس في المؤخرة على كرسي خيزران قش، سرت على قدمين ثابتتين إلى الصف الأول، على المقعد الكبير القطيفي الأحمر جلست بكل كرامتي الأدبية، وكأنما خرقت نظام الكون، أخذ رجال الرئاسة، وعلى رأسهم رئيس الديوان (زكريا عزمي آنذاك) يدورون حول أنفسهم حائرين مذعورين، لم أعرف لِمَ هم خائفون، قلت لهم: أنا الوحيدة المسئولة عن تصرفاتي، قال أحدهم: «نحن مسئولون أمام فخامة الرئيس عن تصرفات الآخرين.»
تذكَّرت مقولة: «الناس مِن خوف الذُّل في ذُل.»
عن يساري كان يجلس في كرسي قطيفي كبير رئيس اتحاد الكُتَّاب «ثروت أباظة» سمعني أناقش الكبير رئيس الديوان، أرفض بإباء وشمم أن أنتقل إلى الكراسي القش في المؤخرة، قال لي ثروت أباظة: «كل الأدباء الكبار يجلسون على الكراسي القس برضى.» قلت له: «المفروض أن يجلس الأدباء في المقدمة مثلك يا ثروت يا أباظة؛ لأن الاجتماع مُخصَّص لهم.» كان لطفي الخولي جالسًا إلى يسار ثروت أباظة، قال لي: «الكراسي مش مهمة يا دكتورة.» قلت له: «اذهب يا لطفي، واجلس على الكرسي القش في المؤخرة.» تكهرب الجو في القاعة، تأخر ظهور مبارك انتظارًا لحل الأزمة، قال أحدهم: «إنه أمر السيد الرئيس.» قلت: «يعني أمر الله؟ لا يمكن أن أترك مكاني حتى يأتي رئيسكم، وأعترض أمامه على الوضع، ثم أنسحب من الاجتماع.» قال الموظف بالرئاسة: «كل المقاعد مشغولة لا يوجد كرسي واحد فاضي.» كان يجلس في الصف الثاني خلفي مباشرةً الدكتور مفيد شهاب في مقعدٍ قطيفي ضخم، قال للموظف بغضب: «هات كرسي بسرعة للدكتورة نوال، لا يمكن تتنازل عن حقها أنا عارفها.» فجأة ظهر الكرسي فورًا، كيف جاءوا بالقطيفي الأحمر لأجلس عليه في الصفوف الأولى؟ كان الاجتماع قد تأخَّر، مبارك غاضب عليهم بسبب التأخير، لم يكن من حل للأزمة إلا أن يضربوا الأرض ليخرج من بطنها المقعد القطيفي الأحمر، تم أيضًا استدعاء الدكتورة أمينة الجندي من بيتها لتحضر الاجتماع فورًا، كانت هي وزيرة الشئون أو أمينة المرأة في الحزب الحاكم، تلبَّي الأمر فورًا، هل عجزوا عن استدعاء السيدة الأولى سوزان مبارك بهذا الشكل المتهور؟ ولماذا الإصرار على امرأة أخرى تجلس في الصفوف الأولى؟ هل كانت الحكومة تسقط أو وزير الإعلام يسقط لو ظهرت صورتي متربعة على العرش وحدي كأنني السيدة الأولى؟
هذا حدث من أحداثٍ متعددة أدَّت إلى هدم الكباري بيني وبين السلطات جميعًا، وإلا فلماذا لا يرن هاتفي بصوت رئيس الوزراء أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلَّحة ويقول لي: «قرأت مقالك، وأصدرت أمرًا فورًا لإصلاح الوضع»؟