سقوط الأب ونزاهة القاضي
الصَّوت يسري إلى الابن من خلال الجدار، يضغط بيديه فوق أذنيه، يدُس فيهما القطن. أنين أمه مكتوم، رائحة دخان وجسد يحترق، هل جاء العيد الكبير والخروف المشوي؟
منذ طفولته يكره الأعياد وأكل اللحوم.
يضغط بالوسادة فوق رأسه، ناعمة كصدرِ أُمِّه، يحوطها بذراعيه، يدفن فيها وجهه، عطرها ورائحة جسده شيء واحد، يمسح في الوسادة بلولة عينيه وأنفه، يتسرَّب أنينُها إلى أذنيه، ينقلب فوق وجهه متظاهرًا بالنوم، ثم ينقلب فوق ظهره، لكن الأنين يَسري عبر الجدار بين غُرفته والغرفة الكبيرة، حيث ينام أبوه وأمه في سرير واحد.
منذ طفولته يسمع أنينها، تصنع له طعامه، تُغطيه بالليل إن تعرَّى، لا تصفعه إن مزَّق الجورنال، تغني له قبل أن ينام، تُحب الموسيقى والغناء، لم تلمس أصابعها الكمنجة منذ تزوجها أبوه، وضعتها في قاع الدولاب، داخل كيس من الجسد الأسود، له رائحة الحذاء.
في الصباح قال أبوه: «أمك ماتت.»
لم يكن يصدق ما يقوله أبوه، رأى في عينيه بريقًا لم يكن موجودًا، كشف وجه أمه ليعرف الحقيقة، وجهها أبيض بلون الملاءة، إلا مساحة سوداء، لها شكل كف أبيه، محفورة في خدها.
ظل الابن واقفًا يُحملق في الفراغ، تركت أمه فوق السرير مساحة منخفضة قليلًا لها شكل جسدها، والوسادة ما تزال تحمل عطرها، وفُستانُها مُعلَّق على الشمَّاعة، وحذاؤها تحت السرير، عاد الأب فوجد ابنه واقفًا في مكانه، رفع الابن عينيه إلى عيني أبيه، يتأمل البريق الجديد، يأكل الأب – بشهيَّة – صينية البطاطس، التي صنعتها أمه في الفرن، قبل أن تموت، لم يأكل الابن، يُحملق في عيني أبيه لا يطرف له رمش، سَرَت فوق جسد الأب قشعريرةُ تُشبه البرد، مع أن الحر شديد، وضع الأب في جيب ابنه ورقة بمائتي جنيه، امتدت ذراع الابن وألقى بالورقة على الأرض، داسها بحذائه.
رن جرس الهاتف، صوتها ناعم كبطن ثعبان، تسأله عن نتيجة الامتحان، لم يذهب إلى المدرسة منذ موت أمه، قال لها: «نجحت بتفوُّق.» يشعر بلذة حين يكذب عليها.
دخل إلى الغُرقة الكبيرة، مساحة أمه في السرير منخفضة قليلًا، لها شكل جسدها، درج أبيه مُغلق، عاد إلى غُرفته، واستلقى فوق سريره، أغمض عينيه، وضع الوسادة فوق رأسه، أنين أمه يسري إلى أذنيه دون توقُّف.
جلس إلى مائدة الفطور، كرسي أمه خالٍ فوقه الشلتة الخضراء، يختفي وجه أبيه وراء الجورنال يرشف الشاي، قطع الصمتَ أبوه يسأل عن الامتحان، قال: «نجحت بتفوُّق.» ابتسم الأب، لم يبتسم الابن، قفزت القطة فوق الشلتة الخضراء مكان أمه في الكرسي.
قال الأب: «أمك ماتت يا ولد، هذه حقيقة.»
قال الابن: «لم تكن ميتة دائمًا.»
مفكرة أبيه في مخبئها بالدرج، فتحه بنصل السكين، أمسكها بأصابع نحيلة ترتعش، سقطت قُصاصة ورق، دسَّها في جيبه، أسماء النساء بالحروف الأبجدية، تحت حرف الباء التقط اسمها وصورتها مع القطة.
عاد الابن قبل الفجر، باب الغُرفة الكبيرة مُغلق بالمفتاح، فتحه بنصل السكين دون صوت.
في الصباح وجدوا الأب راقدًا مُحملِقًا في الفراغ، وهي إلى جواره تحتل مساحة أمه في السرير.
حملوهما معًا في الصندوق الملفوف بالعلم، وحَكَمَ القاضي ببراءة الابن.