من وراء ظهرها
لم تكن فاقدة الوعي، ترى وتسمع وتشم رائحة دم، يُشبه دمَها إلا أنه ليس دمَها، طعم الموت في حلقها، ضلوعها لا تعلو ولا تهبط، الشُّعيرات الرفيعة في فتحتي أنفها ثابتة لا تهتز، الهواء يتسرَّب إلى صدرها، ويخرج في الخفاء، هل أصبح الهواء رفيقها ضد المحقق البوليسي؟ أشياء غريبة تحدث من وراء وعيها، قُوَى خفية في جسدها لم تعرفها، أصبحت قادرة على القفز إلى النافذة الصغيرة القريبة من السقف، قفزة واحدة فوق قدميها لتقبض على القضيب بيديها الاثنين، قفزة أخرى لتطل من بين القضبان على السماء، من تحت السحابة السوداء تُطل العين المفتوحة، تغمز لها بنظرة غير مفهومة، في حاجة إلى مفسِّرين وأسفار وبحار.
جسدُها لم يعُد جسدَها، أصبح كالأميبا وحيدة الخلية، حملت جسدَها ثلاثة وأربعين عامًا دون أن تعرفه، يتغيَّر ويتشكَّل كأنما جسد كائن آخر، تضع شفرة الموس بين اللثة والصدغ دون أن ينزف الدم، تُحرِّك يدها أمام عين المُحقِّق دون أن يراها.
هل أصبحت غريزة البقاء أقوى من الموت؟ تجعلها على قيد الحياة رغم عزرائيل، تبدو ميتةً لعين الرقيب العسكري، الحيَّة الرقطاء انتصرت على حواء وزوجها آدم، أتكون الزحالف الميتة أكثر قوةً من الأحياء البشر؟
لم تعُد تُحِس الضربات فوق ظهرها، يكتسب لحمُها العاري قدرةً خارقةً للطبيعة، لم يعُد جسدُها هو جسدها، وإنما جسد آخر، أبعد من النجوم وقريب كحبل الوريد، تُصيبها المُفارقة بالدهشة، تشبه اللذة الطفولية، تبتسم لنفسها في الخفاء دون انفراجة الشفتين، تختلس نظرةً إلى المُحقق، يلهث من التعب، صوته يتحشرج من كثرة ترديد السؤال: فين اللابتوب يا حمارة؟
يبدو قصيرًا سمينًا، أبيض، شفته العليا مشقوقة حتى الأنف، يرن صوته الأخنف في أذنيها المغلقتين: «فين اللابتوب يا حمارة؟» صوته يدوي في رأسها المغلَق، كل شيء في جسدها مُغلق كالقوقعة، الفكَّان الأعلى والأسفل واللسان والحلق والرئتان والكبد والقلب والضلوع وفقرات الظهر، صوتها لم يعُد يخرج، شفتاها مغلقتان بكماشة أصلب من حديد القضبان، اللابتوب خبأته وراء بلاطة وراء الحوض، لا أحد يعرف المكان إلا زوجها الوحيد، عاش الاثنان في سرير واحد ثلاثة وعشرين عامًا، أبوها مات في السجن منذ ثلاثين عامًا، ماتت أمها بعد موت ابنها في موقعة الجمل، أختها هاجرت إلى العراق لتموت في ليبيا منذ عشرين عامًا.
فين اللابتوب يا حمارة؟
لا صوت يخرج منها، راقدة فوق «البُرش» فاقدةً للذاكرة، مكان اللابتوب نسيته، لم تعُد تذكر مبادئ الثورة أو مشاعر البشر، أصبحت في دنيا أخرى، وبشر غير البشر، لكنها قادرة على تذكُّر الكلمات الأربع وراء البلاطة وراء الحوض، هذه الكلمات الأربع لا تزال في ذاكرة أخرى خارقةً للطبيعة، كل شيء فيها أصبح فوق الطبيعة، نسيت كل شيء حتى اسمها، واسم أبيها وجدها، الاسم الثلاثي في اللوح المحفوظ، التصق بجسدها ثلاثة وأربعين عامًا منذ وُلِدَت، انحفر فوق كراريسها في المدرسة والجامعة، وعقود الزواج والبيع والشراء، وشهادة التخرج والميلاد والوفاة، ودفاتر السجن وعيادات المستشفى وتحقيقات النيابة.
فين اللابتوب يا بنت اﻟ…؟
الصوت الحاد الأخنف يزداد فُجرًا، الضربات فوق ظهرها تزداد عُنفًا، القوقعة من حولها تزداد صلابةً في بؤرة القوقعة شعرة حريرية تربطها بنقطة شفافة غير مرئية، قطرة من حياة سحرية، الكلمات الأربع، تشم الرائحة وراء البلاطة المبللة بماء الحوض، رائحة إلكترونية غير بشرية، لا تشمها الكلاب البوليسية ولا أجهزة التجسُّس، تفوق العقل.
تدور الكلمات الأربع في ذاكرتها على شكل قطرات ماء، تذوب في قطرة واحدة مُركَّزة في البؤرة، في النقطة التي بدأت منها حياتها منذ ولدت، وامتدت على طول السنين ثلاث وأربعين سنة، حتى هذه الدقيقة أو الثانية، خيط طويل بدأ بنقطة واحدة، وما زال ممتدًّا إلى تلك القطرة الهلامية الشفَّافة، داخل القوقعة كالجنين في بطن أمها تحوطها.
فين اللابتوب يا بنت اﻟ…؟ هتاخدي إيه من السكوت؟
لا تعرف ما تأخذه من السكوت، وما حقيقة هذا الخيط الطويل الممدود بين نقطتين مجهولتين؛ إحداهما فرضتها على نفسها في حياتها، والأخرى مفروضة عليها في حياة أخرى، عن يقين تعرف أن اللابتوب في مكان أمين، لا يعرفه أحد من الإنس أو الجن إلا هو، الوحيد زوجها الأوحد في حياتها، أيمكن أن يفتح فمه ليتنفس، أو ليلهث، فتخرج من شفتيه الكلمات الأربع؟ أيمكن أن يحدث هذا؟ إن مجرد التفكير في إمكانية حدوثه يُزلزل كيانها.
لا تزال موجودة، لم يُدركها الموت، تتعلق بآخر قطرة دم، بآخر نفس، بالخيط المشدود بين النقطتين، الاثنتين معًا في خيط واحد، إن زالت نقطة منهما تزول الأخرى، وينقطع الحبل السُّرِّي.
كل شيء يبدو غامضًا غير مفهوم، يُشبه جوف الرَّحِم قبل الولادة، فما هي القضية التي تعيش وتموت من أجلها؟
الوفاء للآخرين في الثورة؟ لكن الآخرين لم يعُد لهم وجود في حياتها الآن، إن جسدها الذي هو أقرب الآخرين إليها لم يعُد موجودًا، تفصله عنها مسافة ما مجهولة، المسافة بين الأرض والسماء، أو الشَّعرة الرفيعة المشدودة بين النقطتين المجهولتين، الولادة والموت.
لماذا ترفض النطق بالكلمات الأربع؟ لا تحاول التفكير في الإجابة، نسيت كيف تفكِّر، لكنها تُحس بشيء غريب جدًّا، إن كل شيء في حياتها وموتها يتوقف على عدم النطق، استمرار بقاء هذه الشَّعرة ممدودةً بين النقطتين، تحمل الهواء والماء إلى القطرة الحبيسة في أعماقها العميقة، الذرة الكامنة في البؤرة داخل البؤرة، المتفجرة إلى ذرات متناهية الصِّغر لا متناهية العدد، استقرت واحدة منها في بؤرة القلب، تلعقها دون وعي، ترشفها دون شفتين، تتقوقع حولها، متشبثةً بها منذ الأزل وإلى الأبد.
لم تعُد تسمع صوت المُحقِّق الأخنف، ربما ذهب إلى دورة المياه، ربما يتحرر من الألم المتراكم في المثانة والضمير، ربما أراد أن يتوضأ ليصلي الصبح … أو المغرب، لم تعُد تعرف النهار من الليل، ربما جاء بعده زميله الآخر، لكن الصوت هو الصوت، الضربات فوق الظهر هي الضربات، يرتفع الكرباج يلسع الهواء، ثم يهبط ليرتطم بشيء له طراوة اللحم، لكنه ليس لحمًا، أو على الأقل ليس لحمها هي بالذات، وإنما لحم آخر غير بعيد عنها، تفصله مسافة شَعرة رفيعة، لكنها مسافة على أيِّ حال، تُبعدها عن اللحم المضروب.
لو كانت بغلة أو جاموسة ربما ماتت من الضرب، لكنها ليست بغلة أو جاموسة، إنها إنسانة من بنات وبني حواء وآدم، تتغلب على الشياطين، وتنتصر في النهاية، كيف تنتصر؟ لا تكاد تصدق أنها انتصرت، تحاول كتمان الفرح عن العين الحديدية التي لا ترمش، والزهو أي زهو، كانت قادرة على السكوت وعدم النطق، وجهاز اللابتوب لا يزال في مكانه الأمين، والثورة تستمر في الفضاء عبر الخيط الممدود بين النقطتين.
ثم جاء الصوت الأخنف يقول: «وراء البلاطة وراء الحوض يا مغفلة.» إنه الصوت الأخنف، لكنه أكثر قوة، يدوي في رأسها كالزلازل والبراكين، إنه المحقق ذاته بفمه المفتوح على أنفه، ينطق كلمة السر، لم يعرفها إلا هو وهي، عاش الاثنان في سرير واحد ثلاثة وعشرين عامًا، لم تعرف تمامًا ماذا حدث، هل انفجر شريان في رأس الكون؟ وانقطعت الشَّعرة الممدودة بين السماء والأرض؟