معالي الوزير ساقط قيد
ضعي يدك على رأسي يا أمي، كما كنتِ تفعلين وأنا طفل، أنتِ الوحيدة الباقية لي، لِمَ تُعاتبينني؛ لأني لم أزُركِ منذ عشرين عامًا، لم أنشغل عنك فقط، انشغلت عن العالم كله حتى نفسي، حتى زوجتي وأصدقاء طفولتي، وابنتي الوحيدة لم أكن أراها، حتى وجهي يا أمي لم أكن أراه، أُلقي نظرة سريعة للمرآة قبل أن أخرج من البيت، لأُحكم الكرافتة حول عُنقي، وأتأكد أن لون القميص ينسجم مع لون البدلة، إن نظرت إلى وجهي في المرآة لا أراه، لم أكن أعيش في عالمكم يا أمي، هل يمكن أن أعيش في عالم آخر دون أن يتوفاني الله؟ لم أقرأ نعيي في صفحة الوفيات، لا يمكن لوزير مثلي أن يموت دون أن يُنشَر نعيُه كبيرًا في كل الصحف والإعلام، وتُنظَّم له جنازة مهيبة يمشي فيها الناس صفوفًا صفوفًا، يتوسط الصف الأول الباشا الكبير، مرتديًا كرافتة سوداء، يُخفي دموعه وراء نظارة سوداء، مشهد كان يهزني من الأعماق، كان انشغالي عن عالمكم يا أمي بغير حدود، بأكثر مما يحتمل جسدي وعقلي، كان جسدي يكف عن الحركة أحيانًا من شدة الإرهاق، لكن عقلي يظل يشتغل، وقد يُرهق عقلي، فيكف عن العمل! لكن جسدي يظل يتحرك، يروح ويجيء يذهب إلى المكتب، يرأس الاجتماعات أو المؤتمرات، يستقبل الوفود في المطارات، يحضر الحفلات، وقد يسافر إلى الخارج في مهام رفيعة المستوى، كنت يا أمي أندهش حين أرى جسدي يتحرك وحده بغير عقلي، بل كنت أخاف إن كنت في اجتماع مهم يقتضي التركيز والانتباه، كان الاجتماع المهم الوحيد هو الذي يرأسه الباشا الكبير.
منذ اشتغلت في الحكومة كرهت وضع المرءوس، تعوَّدت كتمان كراهيتي لرؤسائي، أُنفِّس عنها في مكتبي مع المرءوسين لي، أو في بيتي مع زوجتي كما رأيت أبي يفعل معك يا أمي، عجزت دائمًا عن التنفيس عن كراهيتي أمام رئيسي، وإن كان موظفًا عاديًّا بالدولة فما بال أن يكون رئيس الدولة كلها! كنت أجلس يا أمي في مقعدي مشدود الجسد والعقل، منتبه الحواس، شديد اليقظة، أخشى أن يسألني سؤالًا لا أعرف جوابه، إن عرفت الإجابة أخشى ألَّا تكون هي الإجابة الصحيحة، إن كانت هي الإجابة الصحيحة أخشى ألَّا تكون الإجابة المطلوبة، نعم يا أمي هذه «ألف باء» السياسة، نتعلمها من أول درس. الإجابة الصحيحة ليست دائمًا الإجابة المطلوبة، لكن الإجابة المطلوبة هي دائمًا الصحيحة.
على الوزير منَّا أن يكون دائم الانتباه جسدًا وعقلًا لالتقاط الحقيقة الصحيحة من الحقيقة غير الصحيحة، وهي مهمة شاقة جدًّا يا أمي، كنت أجلس في الاجتماع منتبهًا بعقلي وجسدي، بالاثنين معًا، أجلس في مقعدي، يدي اليسرى ساكنة في حجري، يدي اليمنى مُمسكة بالقلم فوق الورق، جاهزًا مستعدًّا لالتقاط الإشارة، أي إشارة، إيماءة رأس غير مرئية، حركة يد أو إصبع خفية، أو الشفة السُّفلَى يُكوِّرها يمطُّها للأمام، أو انقباضة عضلة حول الفم أو الأنف أو العين اليسرى أو اليمنى، أرى الحركة قبل حدوثها، أُفسِّرها في عقلي بسرعة، عقلي يُفسِّرها أسرع منِّي، عيناي أسرع من عقلي، أذناي أسرع من الجميع تسمعان صوته قبل أن ينطلق، نعم يا أمي كنت أعتمد على حواسي الخمس في هذا الاجتماع المهم، كان الثلاثة: «جسدي وعقلي ورُوحي» يتحولون داخل مقعدي إلى كتلة واحدة عصبية شديدة الحساسية، أسلاك رادارية عارية ملفوفة حول بعضها، تصنع رأسي وذراعي وصدري وبطني، أحشاء بطني ترتعش بمسٍّ كهربيٍّ متَّصل، إن وقفت صدفة بالقرب منه ترتجف يدي اليمنى رغم أنني أُمسكها بيدي اليسرى، وكلاهما — اليمنى واليسرى — معقودتان فوق صدري، أو بطني، ساقاي أيضًا مضمومتان إن وقفت أو جلست، نعم يا أمي كانت هذه صورتي معه، حين تسقط الأضواء ليراني الناس معه أحاول أن أغير شكل جسدي دون جدوى، أحاول فك يدي اليمنى عن اليسرى، أو إحدى الساقين عن الأخرى، دون جدوى، أطرافي ثقيلة شبه مشلولة، تُطل صورتي معه في الصحف فأخجل من نفسي، أُخفي الصحف عن أسرتي، خاصة ابنتي الصغيرة كانت تشير بإصبعها الرفيع إلى وجهي من بين وجوه كبار رجال الدولة، وتقول لأمها: «ده مش بابا يا ماما.» ترد عليها أمها بكبرياء الهوانم زوجات العظماء: «ده بابا يا حبيبتي، معالي الباشا الوزير واقف في أول صف جنب السيد الرئيس.» يرن صوت زوجتي في أذني، ليس صوتها، يشبه صوتها حين تمارس الحب، تُخفي حقيقتها وحقيقتي منذ ليلة الزفاف في سرداب سحيق في أحشائها، أحسُّه تحت يدي كالدمل المزمن المتجمِّد أسفل بطنها، لم أخجل يا أمي إلا من ابنتي، عيناها مفتوحتان على الأفق طفوليتان، كعيون الآلهة لا يطرف لها جفن، تكشف حقيقتي والغيب، كنتِ تقولين لي دائمًا إن الأطفال مكشوف عنهم الحجاب، أصبحت أخشى النظرة في عيني ابنتي، قوية ثابتة ليست نظرة طفلة طبيعية تنظر إلى أبيها، الأب وإن كان عربيدًا فاسدًا فهو الأب يا أمي، كان أبي الفاسق زير النساء والخمر والقمار هو الإله في عينيك يا أمي، كنت تنظرين إلى ابنك باعتباره الشبل من ذاك الأسد، أصبحت أسدًا يا أمي لأُرضيك، الأسد الطاغي على زوجته في البيت ومرءوسيه في المكتب، أراهم خانعين ساجدين مُطيعين فيشتد الإعجاب بنفسي، ذاتي المتفرِّدة، نعم يا أمي في حياتي كلها لم أشهد امرأةً أو رجلًا تحت سلطتي يخالفني، إلا تلك الفتاة التي جاءت إلى مكتبي قبل الثورة بشهر أو اثنين، أخرجتني يا أمي عن هدوئي واتزاني، ليس لأنها خالفتني الرأي، ليس لأنها شابة في العشرين وعاطلة تخاطب معالي الباشا الوزير، ليس لأنها أنثى تخاطب رجلًا، ليس لأنها لم تنطق لقبي المعروف «معاليكم»، ليس لأي سبب إلا أنها كان ترفع عينيها في عيني دون هيبة، هذه النظرة الثابتة وقاحة، أو على الأقل جرأة إن صدرت من رجل فما بال امرأة! استبدَّ بي الغضب، كيف فعلت هذا؟ استبدت بي الرغبة في المعرفة فاشتد غضبي، ليس منها هي، لكن منِّي أنا، طغى غضبي على نفسي، فأصدرت أمرًا بإحضارها في اليوم التالي، تركتها واقفةً أمامي، وأنا جالس خلف مكتبي الفخم، أستمد من فخامته ثقتي في نفسي، تركتها واقفة وأنا جالس داخل مقعدي الوزاري الوثير، أميل بظهري إلى الوراء أُقهقِه مُداعبًا في التلفون شخصًا لا يستحق المداعبة، أردت فقط أن أُشعرها أنها غير موجودة، أنني أضحك وأُقهقه بكل راحتي مع صديق، أو الأصح صديقة، أردت أن أُثير غيرتها من امرأة أخرى، لعبتنا المُفضَّلة نحن الذكور مع الإناث، لكنها يا أمي لم تكترث بشيء، راحت تتمشَّى في مكتبي كأنني غير موجود، كأنها في بيتها، تتأمل اللوحات على الجدران، توقَّفت عند لوحة وتمتمت بسخرية: «زهرة الخشخاش؟» حاولت أن أدرس تقاطيع وجهها قبل أن يتَّجه رأسها نحوي، لكن عينيها تحركتا، واستقرت نظرتها الثاقبة في عظام رأسي، كأنما سقطت عني ملابسي وتعرَّيت، شعرت بالخجل، تذكَّرت نظرة ابنتي، تحوَّل الخجل بسرعة إلى غضب.
فقدت أدب الباشوات مع النساء، ارتفع صوتي وقلت مشوِّحًا بيدي بخشونة ذكورية: «مين أنتي؟ مهما طلعتي أو نزلتي في النهاية امرأة! مكانها في السرير مع الرجل.» أي امرأة طبيعية كانت تموت من الخجل لسماع هذه الكلمات، كنت أريد أن أقتلها خجلًا يا أمي، لم تخجل، لم يرمش لها جفن، ظلَّت ترمُقني بسهامها النافذة لنافوخ مخي، كأنها ليست امرأة وأنا لست رجلًا، كأنها ليست فتاة عاطلة وأنا الباشا الوزير، كأنها ليست هي وأنا لستُ أنا، كنت أشعر عن يقين يا أمي أنني أنا كما كنت، لكن باليقين نفسه شعرت أنني لست أنا، أو لم أعُد أنا كما كُنت، كرهتها حتى المرض، أصابتني حُمى الملاريا في اليوم التالي ولزمت البيت، لم تخفض كمادات الثلج سخونتي، ذهبت إلى مكتبي في الصباح التالي وطلبت الأمن، لم أهدأ حتى أدخلتُها السجن، لكن الأمر لم يكن مثل كل مرة منذ ثلاثين أو أربعين عامًا، تغير الكون يا أمي، وأصبحت البنات مثل الرجال، يتعرَّضن للضرب والاغتصاب في السجون، ثم يخرجن إلى العالم كأنما لم يحدث شيء، يهتفن في الشوارع بأعلى أصواتهن: «الحرية … الحرية» فسدت الأخلاق يا أمي، أعني أخلاق النساء، الرجال أخلاقهم فاسدة بالطبيعة، المفجع وغير الطبيعي هو فساد النساء، ليس كلهن فاضلات مثلك يا أمي، لم يرتفع لك صوت في البيت، فما بال الشارع، بعضهن أصابهن العطب، بالذات هذه الفتاة، غضبت عليها ليس لأنها فعلت ما لم يفعله أحد، بل لأنها فعلت ما لم أفعله أنا نفسي، عجزت طول حياتي أن أرفع عيني في عيني أبي في البيت، أو رئيسي في المكتب، كنتِ أنتِ السبب يا أمي، لم أرك مرةً واحدةً ترفعين عينك في عين أبي، كان يُهينك ويخونك وأنتِ كما أنتِ، لو رفعت عينك في عينه مرةً ربما تعلمت منك الكرامة والعدل، ربما استطعت أن أرفع عيني في عين رئيسي وأقول رأيي، كنتِ يا أمي مَثَلي الأعلى في طفولتي، أفعل ما تفعلين وأُردِّد كلامك منذ علمتِني اللغة، لا يا أمي، أنا لا أُعاتبك، لكني أطلب منك أن تربتي على رأسي بيدك الحنون كما كنتِ تفعلين وأنا طفل.
مأساتي الحقيقية ليس فقدان كرسي الوزير، لكن المأساة كيف فقدته، لو أنني فقدته لخطأ مني كبير ربما خفَّت المأساة، لكني فقدته لسبب تافه غير معقول، ذلك الصباح الأسود فتحت الصحف، فلم أعثُر على اسمي في الوزارة الجديدة، أصبحت فجأةً «ساقط قيد»، كأنما سقط من فوق جسدي ولم يعُد لي اسم، والتلفون الذي كان يرن كل لحظة أصبح أخرس، أسقطني هو الآخر، والآخرون أسقطوني، هذا السقوط لم أعرفه في حياتي، لم أعرف حينئذٍ قيمة السلطة والثروة، لا نعرف قيمة الشيء إلا بعد فقدانه، وهي كارثة؛ لأن الوقت يكون قد فات، والفرصة ضاعت إلى الأبد، لم تكن الكارثة أن التلفون لم يعُد يرن، الكارثة هي اكتشافي أن رنين التلفون الدائم المزعج لم يكن يزعجني بتاتًا، بل كنت أحبه، أعشقه، أدمنتُ عشقه مثل الخمر والنساء والسلطة والثروة، أليست كلها لذائذ الدنيا منحها الله لنا؛ لأنه خلقنا ذكورًا! كنت أجري وراء نعم الله كلها لا أشبع منها، وإن أصبح لي بدل القصر الواحد أربعون قصرًا، وبدل المرأة الواحدة أربع وأربعون، نعم يا أمي ضيَّعت كلَّ نِعم الله لسبب تافه.
كنت جالسًا ذلك اليوم المشئوم في اجتماع مجلس الوزراء، يرأسه فخامة الباشا الكبير، عن يقين كنت أنا الجالس في مقعدي، لكن بيقين آخر لم أكُن أنا، كنت شديد الانتباه كعادتي، لكني كنت عاجزًا عن الانتباه في آنٍ واحد، لأول مرة عجزت عن تركيز عقلي، أصبح عقلي يفكر دوني، خرج عقلي عن سيطرتي، ليس لانشغالي بأمر مهم، مثل التقرير السنوي الذي كنتُ سأعرضه مع الميزانية الجديدة، بل الكارثة يا أمي أن عقلي انشغل بشيء تافه، لا يا أمي، لم أكن أفكر في أي أحد، كنت أفكر في نفسي، أريد أن أعرف كيف أجلس في الاجتماع كعادتي، ومع ذلك لست كعادتي، كنت أفكر هل أنا الجالس في مقعدي أم شخص آخر، وأي واحد من الشخصين هو أنا! الكارثة أني كنت أعرف أن السبب الوحيد في هذه الكارثة هو تلك الفتاة الثورجية، منذ رأيتها وعقلي لا يكف عن التفكير فيها، ليس لأنها امرأة، لم تكن في نظري امرأة على الإطلاق، لم تكن جميلة ولا أي شيء، لكنها استطاعت أن تفعل شيئًا خارقًا للعادة، ولكل القيم التي درجنا عليها، المأساة يا أمي ليس أنها فعلت ما لم يفعله أحد، أو ما لم أفعله أنا، لكن المأساة أنها منذ فعلت ذلك وأنا لم أعُد أنا، مَن هو الشخص الآخر الجالس في مقعدي؟ السؤال كان يسيطر على عقلي دون رحمة، أطرده من رأسي بحركة متكررة بيدي اليسرى كأنما أهشُّ ذبابة عن وجهي، كانت يدي اليمنى كعادتها ممسكة بالقلم فوق الورق مستعدة لأي إشارة أو كلمة ينطقها فخامته، لفتت حركة يدي اليسرى نظر فخامته؛ لأنها تكررت، أو لأن القاعة أنظف قاعة في الكون لا يمكن أن تحلق فيها ذبابة، وإن حلَّقت، فالمفروض أن تظل يدي اليسرى ساكنةً في حجري تحت المائدة، ولا تتحرك بهذه الجرأة، تحركت عيناه نحوي يا أمي، وكنت أرتدي في كل الاجتماعات طاقية الإخفاء، حتى يمر الاجتماع بسلام فلا يوجِّه إليَّ أيَّ سؤال، لم أكن أخشى السؤال يا أمي، لم أكن أخشى ألا أعرف الإجابة الصحيحة، فهي سهلة بَدَهية: واحد + واحد = اثنين.
لكني كنت أخشى أن أقولها، نعم يا أمي لم تكن الإجابة الصحيحة هي المطلوبة، وكانت هذه هي الكارثة التي وقعت ذلك اليوم، لم أعرف من قالها أنا أم الشخص الآخر الجالس في مقعدي، حين تحوَّلت عيناه نحوي ارتجفت أحشائي، تذكَّرت عيني أبي وأنا طفل، كنت أتراجع بجسدي قليلًا إلى الوراء أو إلى الإمام كما كنت أفعل في الفصل وأنا تلميذ، بأمل أن تسقط العينان على الجالس أمامي أو خلفي، لكني في ذلك اليوم لم أتحرك في مقعدي، كنت غائب العقل بسبب سخونة الحمَّى، أو لانشغال بالي بتلك الفتاة الثورجية، كنت جالسًا جامدًا كتمثال فوقعت عيناه فوقي بكل ثقلهما كما يسقط الموت.
حين سألني السؤال انفتح فمي كأنما فم شخص آخر، نطق الإجابة السهلة البسيطة البَدَهيَّة دون تفكير، دون عقل، نعم يا أمي لم تكن الإجابة الصحيحة هي المطلوبة، هذا هو الدرس الأول في عملي حفظته في عقلي، كيف غاب عني؟ كيف كان السبب في موتي، لا أشعر بالحزن يا أمي بل بالفرح، بالراحة الأبدية والخلاص من العذاب، العبء الثقيل كان جاثمًا فوق صدري وبطني، نعم يا أمي استرحت من هذه الدنيا الكئيبة، أغادر هذه الدنيا إلى غير رجعة، لكن الكارثة يا أمي، أنني رغم هذه الراحة وأنا أغادر الدنيا لا زلت أضع التلفون بجوار رأسي، أنتظره يرن، أنتظر صوتًا واحدًا يناديني قبل أن أموت:
«يا معالي الباشا الوزير.»