الاحتقان الطائفي
لن يوقف الفتنة الدينية السياسية الدموية في مصر إلا استعادة العقل المصري الذي تم تغييبه وحبسه وتخويفه من التفكير، مجرد التفكير، ولا أقول الإبداع وخلق الأفكار والقيم الجديدة والسلوك الجديد اليومي، في البيت وفي الدولة والمجتمع، القائم على احترام حقوق الآخرين نساءً ورجالًا، أقباطًا ومسلمين، فقراء وأغنياء، محكومين وحُكَّامًا، مصريين وغير مصريين، لم يكن حادث كنيسة الإسكندرية ليلة رأس العام الجديد ٢٠١١م أمرًا جديدًا علينا، ألم نشهد مثله من قبل؟ ألم يطالب أصحاب وصاحبات الفكر المستنير بضرورة علاج جذور الفتنة الدينية السياسية؟ ليس باستنفار رجال البوليس لحماية الكنائس، بل باستنفار العقول المصرية لتفكر وتستعيد القدرة على التفكير، القدرة على رفض الخزعبلات السياسية الدينية التي أصبحت تُعشش في عقول الأطفال والتلاميذ والمدرِّسين والأساتذة النساء والرجال الآباء والأمهات ورؤساء الأحزاب والجمعيات والفضائيات الدينية السياسية، هي فتنة دينية سياسية وليست مجرد فتنة طائفية، هي إرهاب للعقل المصري من الداخل والخارج وليس الخارج فقط، إرهاب لكل من يفكر رجلًا أو امرأة، ألا تذكرون قضايا الحِسبة التي تم رفعها ضد المفكرين من الرجال والنساء، تحت تهمة الكفر لمجرد أنهم فكروا، واستخدموا عقولهم، ورفضوا التجارة بالدين والسياسة، كيف تخلَّت الدولة والحكومة والأحزاب والجمعيات عن هؤلاء المفكرين وتركتهم وحدهم في المعركة؟ بل ساعدت في ضربهم ليكونوا كبش الفداء لأنظمة حكم مستبدة فاسدة في الداخل والخارج معًا، الأسرة والدولة معًا.
إن الفساد الدولي جزء لا ينفصل عن الفساد داخل كل بلد، والفساد السياسي الاقتصادي في الدولة الواحدة لا ينفصل عن الفساد الأخلاقي القانوني داخل الأسرة وداخل الحزب أو الجمعية أو الجماعة، نحن نعيش في ظل نظام عالمي محلي واحد، يضرب الفقراء والنساء والأطفال والشعوب الضعيفة غير المسلَّحة، بدلًا من ضرب الإرهابيين الأقوياء المسلَّحين بالقنابل النووية والأسلحة الحديثة الأخرى في الدول الكبرى، والمسلَّحين بالجنازير والمطاوي والقنابل اليدوية التي أصبحت في متناول الأفراد أو الجماعات السياسية الدينية في الشرق والغرب. يدخل الدين (أي دين من اليهودية إلى البوذية مرورًا بكل الأديان) في المعارك السياسية دائمًا لضرب الخصوم بتهمة الكفر وعدم تنفيذ أحكام الله، التي هي أحكام أصحاب السلاح (نووي أو مجرد مطاوي يدوية) مندوبو الله على الأرض، الذين يفسرون كل الكتب الدينية حسب مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقيم التي تربَّوا عليها من الآباء والأجداد والأسلاف.
إن التيارات السلفية السياسية الدينية (تسمَّى اليوم التيارات الأصولية) ليست ظاهرة سياسية جديدة، بل هي قديمة منذ العبودية أو سيطرة طبقة الأسياد على العبيد وجنس الذكور على الإناث. لو قرأنا التاريخ لعرفنا أن هذه التيارات السلفية الأصولية تبرز في عصور الانحطاط الثقافي، وتغييب العقل لتمرير قوانين طبقية أبوية استبدادية استعمارية تنهب حقوق الشعب، النساء والأطفال، تحت شعارات دينية مقدَّسة، تبيح قتل المفكرين والمفكرات بتهمة الكفر والزندقة والخيانة الوطنية، يتم ترويض التلاميذ في المدارس على الهتاف في طابور الصباح: «الله الوطن الملك» (أو الإمبراطور أو الرئيس)، أي تلميذة أو تلميذ لا يشارك في الهتاف يُفصَل بقرار من وزير التربية والتعليم، أصبحت وزارات التربية والتعليم هي البوليس المتحكِّم في العقل، هي الأداة التي تُلغي التفكير وتُغيِّب العقل منذ الطفولة، فلماذا لا تحاكموا وزراء التربية والتعليم بدلًا من استنفار رجال البوليس لحماية الكنائس من مذابح ما تسمونه الاحتقان الطائفي؟
إنه الاختناق العقلي أيها السادة، وليس الاحتقان الطائفي، وهو ظاهرة تاريخية قديمة تتجدد على الدوام للقضاء على مقاومة الشعوب الفقراء والنساء والأطفال، في ظل حكم استبدادي استغلالي لا يمكنه السيطرة على الأجساد والأرض والماديات دون تغييب العقل والتفكير. لو استعاد «العقل» وعيه، واكتشف الخداع التعليمي الثقافي، فلن يبقى حاكم على عرشه، تقوم الحكومات على إلغاء العقل لتحكم وتتحكَّم، في كل زمان ومكان، وليس فقط في هذا العصر وفي هذا البلد.
ليست السلفية الأصولية الدينية السياسية قاصرة على دين واحد أو قومية واحدة، بل هي ظاهرة متكررة في كل الأديان والقوميات والعصور، لو تذكرنا ما حدث في القرن السابع عشر، حين غزا المسيحيون الإنجليز السلفيون الأصوليون ما أطلقوا عليه اسم «إنجلترا الجديدة» (الأرض الأمريكية حاليًّا) التي استولوا عليها بقوة السلاح على الساحل الشمالي للمحيط الأطلنطي، اعتقد هؤلاء الغزاة الإنجليز السلفيون أن الشعب الأمريكي، سكان الأرض المحتلة ليسوا مثلهم يؤمنون بالله والمسيح، بل هم في قبضة الشيطان والشر، ولا بد من إبادتهم عن آخرهم لحفظ دين الله والمسيح.
وفي هذا القرن الواحد والعشرين، ألا يعلن نتنياهو وجيشه المحتل لأرض فلسطين أن دولة إسرائيل هي دولة يهودية تؤمن بالتوراة، كتاب الله، الذي وعدهم بالأرض الموعودة؛ لأنهم هم بنو إسرائيل المؤمنون بالإله يهوه، وقد أمرهم بإبادة سكان الأرض المحتلة؛ لأنهم يعبدون إلهًا آخر غير يهوه؟ وها هو الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن يعلن أن «كل من ليس معنا ولا يؤمن بحضارتنا الأمريكية المسيحية هو من أهل الشيطان في «محور الشر».» وفي هذا العصر الحالي أيضًا ألم يصدر زعيم المسيحيين في كنيسة مورمون «وارين جيف» فتوى تؤكد أن من حق الرجل أن يتزوج ما يشاء من النساء، وقد تزوج وارين جيف بأربعين امرأة على الأقل، وقد قبض عليه البوليس أخيرًا بتهمة اغتصاب الأطفال جنسيًّا، واتضح أن جماعته المورمون تدفع له ما يقرب من ثلاثة ملايين جنيه إسترليني شهريًّا، وقد استخدم هذا المال الضخم لإشباع شهواته ونزواته تحت اسم أمر الله، هل تختلف حياة هذا الزعيم الديني السلفي عن أمراء الجماعات الإسلامية السياسية التي تصاعدت في هذا القرن؟ هل تقدم العالم البشري كثيرًا من القرن ١٧ حتى القرن ٢١؟
إن مذبحة كنيسة الإسكندرية ليلة رأس العام الجديد ٢٠١١م، ليست إلا واحدة من مذابح كثيرة حدثت في السنين الأخيرة، وسوف تتكرر حتى تنقسم مصر كما انقسم السودان إلى جنوب مسيحي وشمال إسلامي.
تلك هي الخطة السياسية الدينية التعليمية التربوية أيها السادة، التي يعرفها وينكرها الجميع «فرِّق تسُد» هي سياسة خارجية وداخلية من سالف القرون لضرب وحدة المقاومة الشعبية فقراء ونساءً وأطفالًا، إن المسألة ليست مجرد احتقان طائفي، بل هي اختناق العقل المصري وتغييبه وقتله تحت اسم حماية دين الله من المفكرين الكفرة، والعلاج ليس بزيادة عدد المتاريس ورجال البوليس، بل برفع الحظر عن العقل المصري، بالحرية الفكرية والثقافية أيها السادة، بمحاكمة علنية لوزراء التعليم والتربية والإعلام والثقافة منذ القرن الماضي، الذين جعلوا الفتاوى والخزعبلات والحجاب والنقاب والرعب من الجحيم وعذاب القبر يقتل عقول النساء والرجال والأطفال، انظروا إلى الأطفال البنات المحجبات المنكسرات المطأطئات الرءوس في المدارس الابتدائية، انظروا كيف تؤمن المرأة الجامعية أن من حق زوجها أن يضربها ليؤدِّبها حسب أمر الله، ومن حقه أن يخونها ويتزوج عليها ثلاث نساء أخريات، آخرهن قد تكون أصغر منه بنصف قرن، انظروا إلى ما يدور في الفضائيات من حوار تافه رخيص يتاجر بالتديُّن الزائف، انظروا إلى العلاقة بين الفساد في الدولة والعائلة، في الانتخابات وفي التجارة والبيزنس والسوق الحرة، انظروا أيها السادة، واستخدموا العقل المقهور المحبوس على مدى السنين من الطفولة حتى آخر العمر.