لم يعد يراها

حرَّكت رأسي نحو جسده الممدود فوق الأسفلت، يدي تحاول الامتداد لتغطيه، المسافة بيني وبينه تزداد اتساعًا، شفتاي تتحركان، أحاول أن أناديه، اسمه يهرب، كل شيء يهرب بعيدًا، لا تصل يداي إلى حقيبتي المُلقاة على الأرض، تبتعد الحقيبة ومعها الأرض، وجسده الممدود يبتعد، أفتح فمي لأتنفس، لأنادي على أمي.

كنت طفلة بالأمس، كم سنةً مرَّت؟ كنت في ربيع العمر. أنام وأحلم وأصحو أغني، أحاول النهوض وتغطية جسده، العُري مُخيف، منذ الطفولة أخاف العُري … العورة.

يدي مُعلَّقة في الفضاء، بشرتي خشنة مُبقَّعة، بأعقاب سجائر محروقة، كانت بالأمس ناعمة، أتركها في يده يُلامسها بشفتيه، يربت عليها بحنان الأم، أمد يدي لأغطيه، لا أريد للعيون أن تراه عاريًا، كان مختلفًا عن الناس، لا شيء فيه يُخجلني، عام كامل، اثنا عشر شهرًا في فراش واحد، لم أرَ له عورة.

تقاطيع وجهه غاصت في عُمق رأسه، عيناه مربوطتان بشاش أبيض، لا تعرفه إلا من عينيه، رجل غريب لم تره من قبل، إلا الوحمة الصغيرة تحت حاجبه الأيسر، بشرته بلون البشكير الأبيض، يُشبه وجه أبيها بعد موته، العُري أيضًا متشابه، مرة واحدة فقط رأته في لحظة خاطفة تشبه ومضة برق، كان راقدًا فوق ظهره، شخيره خافت منتظم مثل الساعة، كانت في السابعة من عمرها، لا تستطيع النظر إلى عورة أخيها الأصغر.

أرادت أن تزحف بجسدها على البلاط، أرض الأسفلت مُبلَّلة بسائل ليس الماء، لا تقوى على فتح عينيها، لا تستطيع رؤية الدم، هل انزلق وهو يجري نحو الثورة؟ لم تكن قدمه تنزلق، وإن انزلقت لا يسقط، وإن سقط ينهض في لمح البصر دون خدش، كم ليلة مرَّت منذ الليلة الأولى!

أحاول أن أكتب عنها وعنه، وجهي ناحية الكمبيوتر، ظهري إلى الحائط، أصابعي تتحرك فوق الحروف ببطء، ضوء شاحب يتسلَّل من شقوق الشيش، الساعة السادسة صباحًا.

مدينة القاهرة تنفث «الصَّهد» في الصبح، تتنفس دخانًا ملوثًا، تنز عرقًا مُسمَّمًا، له رائحة الحزن، هل أجهضوا الثورة منذ الليلة الأولى؟ اختفى الأصدقاء والصديقات، إنه صيف العام.

سكتة في القلب مفاجئة داخل السجن، جلطة في المخ مُباغتة أثناء الطريق، طعنة في الظهر بيد رفيق، تتوالى الأكاذيب، يزداد الإيمان بالله والقضاء والقدر، تجاوز النظام حدود عمره الافتراضي، هل ورث جهاز المناعة ضد الفناء؟ الحامض الوراثي والجينات أم الموت حيوان يهرب من الجبناء؟ أصبحت الشجاعة مرضًا والخنوع هو الشفاء، الجوعَى على الأرصفة، وشباب عاطلون، عُمَّال مطرودون، وثوار مخطوفو العيون، وفوق المقاعد المتحركة مُعاقون، وأمهات مُطلَّقات، وأطفال يرضعون، وبيوت تسقط فوق سكانها وهم نائمون، يحلمون برؤية الرحمن من بين الجفون!

مرَّت السنة الكاملة بجرَّة قلم، في الساعة السادسة صباحًا، انفتحت البوابة الضخمة العتيقة، أزيز حديدها الصدئ يُشبه الأنين، عمرها ألف عام وأكثر، منذ عهد الجواري والعبيد وسلاسل الحديد، خرجت الشابة تحمل صُرَّة ثيابها تحت إبطها، لا شيء في ملامحها يُلفت النظر، قامتُها متوسطة، لونها متوسط بين البياض والسُّمرة، ترتدي نظارة طبية، تمشي بخطوات حذرة، تتوقف عاجزةً عن اجتياز الشارع، السيارات تمرُّ كالبرق، أضواؤها تؤلم عينيها، تخشي أن تسقط تحت العجلات، كانت خطوتها سريعة، تجتاز الشارع تقفز فوق السيارات، تطير في الهواء تسبق القطط والكلاب البوليسية.

تخلع النظارة وتمسح عنها العرق، منذ الطفولة ترتدي نظارة، ورثت النظر عن أبيها، أرادت أن يكون لها أب آخر، قوي البصر، حي الضمير، لا يخون أمها في السر، أدارت رأسها إلى الخلف، المبنى الضخم نوافذه مسدودة بالقضبان، جدرانه سوداء تغرق في الضباب، تعلوها الأسلاك الشائكة المكهربة، تجمد فوقها عصفور مات. شبابها هل راح؟

تفرك عينيها من تحت النظارة، لم يكن في انتظارها أحد عند البوابة! أمها مريضة في الفراش، تركت أهلها من أجل أبيها، تركها أبوها من أجل نفسه! تصحو على صوت السجَّانة، صحن الفول يطفو فوقه سوس صغير أسود، لبابة الرغيف ينام فيها دود دقيق أبيض، وكوب شاي له طعم التراب.

«صباح الخير يا بنتي.» ترن الكلمة في أذنها، بنتي؟ كتلة اللحم الممزقة على الأرض! في أنفها تراب، لا تعرف الليل من النهار، وجه السجَّانة أو أمها؟

تنتظر طويلًا عند إشارة الضوء تتأمل الناس، يسيرون في إعياء وهم نائمون، أو يُسرعون في ذُعر يُهرولون، شابة تجري نحو شيء يُشبه السعادة، حُلم تريد تحقيقه، شاب يُحبها، ثورة في انتظارها، كانت مثلها منذ عام واحد، يشتعل النور الأحمر، تتوقف السيارات، تجتاز الشارع بخطوة بطيئة، لا شيء يدفعها للسرعة، لا أحد ينتظرها إلا أمها المريضة، أبوها مع عروسه الجديدة، لا تعرف عنوانه، يدق الجرس، تُطل أمها من فوق الوسادة، تقفز من السرير «بنتي حبيبتي.» تحوطها بذراعيها تذرف الدموع في صدرها، تدور في غرف البيت تبحث عنه، صورته في ميدان التحرير بجوار السرير، عيناه تلمعان بضوء الشمس، اتجهت أمها إلى المطبخ.

– «لازم جعانة يا حبيبتي.»

في السرير وهو نائم همست في أذنه: «وحشتني يا حبيبي.»

– «وانتي كمان يا حبيبتي.»

مدَّت يدها وأمسكت يده، راقد على ظهره إلى جوارها، يحاول أن يفتح جفونه ليراها، جفونه مفتوحة عن آخرها، لم يعُد يراها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤