لوركا … عُرس الدَّم القادم
الإبداع الحُر ثمنُه باهظ، قد ندفع حياتنا من أجله، ونموت واقفين مرفوعي الرأس نتحدَّى العالم، لكن مهما ارتفع ثمن الإبداع الحر حتى الموت، يظل قليلًا بالنسبة لما نحصل عليه من لذَّة ومتعة وسعادة.
أغلب الناس يجدون اللذة والسَّعادة في المال أو السُّلطة أو الجنس أو الشهرة أو البنين والبنات والأحفاد والحفيدات، القليل النادر يُضحِّي بكل ذلك من أجل الإبداع الحر. هذا القليل النادر من المبدعين والمبدعات هم الأمل والثقة، ولديهم القُدرة على بناء عالم جديد أكثر حريةً وعدلًا وكرامةً.
يمنحنا إبداعهم الحر المتمرِّد قوةً وطاقةً لا محدودة على العمل والفرح، تتبدَّد سنوات القهر والنفي والسجن والتشرُّد، مع لحظات الاستمتاع بما يُبدعون، صُحبتهم أيضًا تمنحُنا الصداقة النادرة والحب والجمال غير المألوف، نلتقي بهم في المؤتمرات في الوطن وخارجه، قد لا نلتقي بهم إلا من خلال أعمالهم، وما تركوه لنا من إنتاجهم الأدبي أو الفني أو العلمي.
الشاعر الإسباني «لوركا» دفع حياته كلَّها من أجل إبداعه الحر، اسمه الكامل «فيديريكو جارسيا لوركا»، يفخر به الشعب الإسباني وشعوب العالم أكثر من كل الملوك والرؤساء والأباطرة.
كنت في الخامسة من عُمري حين سمعت أمي تصيح بحزن: «لوركا ضربوه بالرصاص.» تصوَّرت أن لوركا رجل من عائلتها، وأن البوليس قتله كما قتلوا الآخرين في المظاهرات، كان ذلك عام ١٩٣٦م. سمعت أبي يحكي عن المظاهرات في الشوارع، رأيتهم في شارعنا «محرم بك» بالإسكندرية، يسيرون غاضبين يهتفون: «تسقط الحكومة … يسقط الإنجليز.»
في مدرسة حلوان الثانوية، في الخامسة عشرة من عُمري، عام ١٩٤٦م بدأت أعرف لوركا، كانت «مسز جونز» مُدَرِّستنا للغة الإنجليزية تُحدِّثُنا عنه بإعجاب شديد. اغتاله بوليس «فرانكو» بالرصاص يوم ١٨ أغسطس ١٩٣٦م، كان يشارك في المظاهرات الشعبية من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة.
شارك الدكتاتور «فرانكو» في المذابح مع زعيم النازية «هتلر» في ألمانيا وموسوليني زعيم الفاشية في إيطاليا، والأنظمة الأخرى في أوروبا. انتصر فرانكو عام ١٩٣٩م على الشعب الإسباني بعد اغتيال لوركا والكثيرين من ضحايا الثورة الإسبانية الذين دُفِنُوا جسديًّا وأدبيًّا في إسبانيا، لكن أعمالهم الإبداعية ملأت العالم. مات «فرانكو» عام ١٩٧٥م، وجاء «خوان كارلوس» ملكًا لإسبانيا، سمح ببعض الحريات السياسية والأدبية، لكنها ظلَّت محدودة بحدود الحكم الملكي الطبقي الأبوي، وظل ضحايا الحرب الأهلية، منهم لوركا، في قبورهم أو بيوتهم أو منافيهم.
زرت إسبانيا كثيرًا خلال العشرين عامًا الماضية، وشاركت في عدد من المظاهرات الشعبية في مدريد وبرشلونة وغيرهما من المدن، وفي إقليم الأندلس في الجنوب، حيث وُلِدَ وعاش لوركا، أكبر المناطق الزراعية في إسبانيا، قاد الفلاحون والعُمَّال الفقراء الثورة في الأندلس ضد الإقطاعيين في القرى منذ فرانكو، ويواصلون الثورة حتى اليوم ضد الحكم الرأسمالي الاستغلالي، الذي أدى إلى الأزمة الاقتصادية التي تعصف بإسبانيا منذ ثلاث سنوات وتشتد الأزمة بعد إجراءات التقشُّف الاقتصادي، التي أصابت الفلاحين والعاطلين والفقراء أكثر من غيرهم.
لهذا يتجاهل الإعلام الرأسمالي الإسباني والعالمي ذكرى مقتل الشاعر الإسباني العظيم لوركا.
كلما تذكَّرت حياة لوركا أدركت أن ثمن الإبداع باهظ، لا يدفعه إلا المخلصون والمُخلصات لإبداعهم الحر الصادق العميق.
لا نتوقَّع أن يكون كل مبدع قادرًا على التضحية مثل لوركا، مهما كان الإنسان قويًّا وصامدًا فهو فرد واحد يواجه أنظمة فاسدة تملك المال والسلاح والإعلام.
حفاظًا على سلامة القِلَّة المُبدعة علينا تنظيم أنفسنا في حركات محلية وعالمية، يُمكنها التصدِّي جماعيًّا للأنظمة السائدة بأقل الخسائر.