القوى السياسية وقضية المرأة
منذ بداية القرن العشرين لم نعرف من روَّاد تحرير المرأة المصرية إلا بعض رجال الطبقة العليا، منهم قاسم أمين باشا، وقد قامت ثورة ١٩١٩م على أكتاف الشعب نساءً ورجالًا، دُفِن أبطالها في التاريخ، وبرز على السطح سعد زغلول باشا، وهدى شعراوي.
وقامت ثورة يوليو ١٩٥٢م على أكتاف الشعب المصري، منهم الشباب من طالبات وطلاب الجامعات، وقد دُسنا بأقدامنا صورة الملك فاروق، وشكَّلنا كتائب الفدائيين التي حاربت الجيش البريطاني في القنال ومهَّدت دماؤهم لقيام ثورة يوليو ١٩٥٢م، وإسقاط النظام الملكي، وطرد الاستعمار البريطاني، وقفز إلى السلطة ضباط الجيش في ٢٣ يوليو، أدخلوا الأبطال الحقيقيين السجون، بعضهم دُفِن وراء القضبان، وبعضهم مات معزولًا بالبيت.
بعد ثورة يناير ٢٠١١م يتم دفن البطلات والأبطال الحقيقيين في القبور والسجون، وإقصاؤهم عن الحكم، ويتم تجاهُل جهود الحركة النسائية المصرية التي لعبت دورًا رائدًا في الفكر المستنير والثورة ضد النظم الفاسدة. وبعد قفز التيار الإسلامي إلى الحكم بعد ثورة يناير برزت النساء المنتقبات والمحتجبات، لا نسمع صوت إحداهن تدافع عن حقوق النساء المسلوبة، بل يرددن ما يقوله رجالهن، أن الخِتان والحجاب جزء من هوية المرأة المسلمة.
قضية تحرير النساء لا تنفصل عن قضية تحرير مصر كلها، وقد ربطت رائدات الحركة النسائية المصرية، منذ ستين عامًا، بين تحرير مصر من الاستعمار الخارجي، وتحرير النساء والرجال من النظام الطبقي الأبوي المستبد داخليًّا، وكان المفترض أن تكون قضية المرأة من القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية المهمة بعد الثورة التي نادت بالعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة للجميع، وشاركت النساء جنبًا إلى جنب الرجال في الثورة، لكن أهمية القضايا لا تنبع من مبدأ العدالة، بل من منطق القوة، والنساء خارج دائرة القوة هذه، أغلبهن داخل جدران البيوت مُقيَّدات بسلطة الزوج أو الأب.
وإن خرجت المرأة للعمل بأجر وأنفقت على الأسرة، أو نالت أعلى المناصب، فهي تظل تحت سلطة أبيها أو زوجها المُطلَقة.
يتميز النظام الأبوي في الدولة والعائلة بالاستبداد والازدواجية وعدم المنطق، وهو نظام سياسي بشري تم تحويله إلى قانون الله وكلمة الله، تجعل القلوب (خاصةً قلوب النساء) ترتجف بالخوف من العقاب في الدنيا والآخرة، وتم ترسيخ هذا الخوف في قلوب الأطفال في البيوت والمدارس والأحزاب، وكل مؤسسة عامة أو خاصة، وقد يتخلَّص الإنسان الناضج من هذا الخوف عقليًّا، إلا أن الخوف الطفولي يلازم شعوره ووجدانه حتى القبر.
تجدِّد التيارات الدينية والسياسية هذا الخوف في نفوس الشعب المصري تحت اسم حماية الدين والوطن والذات الإلهية والهوية والقومية والأصالة والتراث والخصوصية الثقافية، وبعض التيارات تعتبر دور المرأة «كأم وزوجة» هو هويتها الوحيدة الأصيلة.
ويشتد التهديد للشعب وتخويفه، تحت اسم حماية الذات الإلهية أو الذات الجمهورية (الذات الملكية سابقًا)، وقد كنَّا في الطفولة نهتف في طابور المدرسة كل صباح: «الله … الملك … الوطن» في نَفَس واحد، ودخل الشباب الوطني الثائر السجون تحت اسم نقد الذات الإلهية أو الملكية أو الجمهورية. امتدت الحماية المقدسة إلى شخصيات تاريخية في قبيلة قريش أو عشيرة سعودية أو جماعة دينية، تم ضمها إلى الذوات المقدسة التي لا تُنتقَد.
وتُتَّهم المرأة المناضلة لتحرير النساء بالكفر أو الإباحية أو الخيانة الوطنية لترويعها، فتكُف عن الحركة، وقد فشلت النساء (والرجال من ذوي الضمائر) في تغيير قانون الأحوال الشخصية رغم النضال الطويل عبر القرون، بسبب هذا الخوف والتخويف المزمن المتجدد.
ولم تكن كشوف العذرية للشابات المشاركات في ثورة يناير إلا محاولة لإشاعة الخوف بين الفتيات وعائلاتهن، وبالتالي تخويف الأهالي ليمنعوا بناتهم من الخروج إلى المظاهرات خوفًا على عذريتهن، وحمايةً لشرف الأسرة؛ لأن المساس بشرف الأسرة لا يقل خطورةً في نفوس الشعب المصري عن المساس بالذات الإلهية أو الملكية أو الجمهورية.
تزيد إشكالية قضية تحرير النساء مع تصاعُد القوى الطبقية الرأسمالية والدينية في مصر والخارج، والاستعمار البريطاني، ومن بعده الاستعمار الأمريكي الإسرائيلي هم حلفاء القوى الدينية اليمينية، مسيحية أو يهودية أو إسلامية، محليًّا وعالميًّا، والقهر الطبقي لا ينفصل عن القهر الديني الأبوي في الماضي والحاضر، وقد تتحمَّس قوى اليسار الاشتراكية أو الليبرالية لقضية النساء (مرحليًّا تكتيكيًّا) لاستخدامهن في الثورة ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية والاستبداد الداخلي، بشرط ألا تتجاوز المرأة حدودها وتُطالب بتغيير قانون الأسرة، أو المساواة بين النساء والرجال في الدستور.
وقد تمكَّنت القوى السياسية بجميع أطيافها (يسار ويمين ووسط ودينيون) من أن تستولي على مهمة إعداد الدستور الجديد، اختلفوا على كل شيء، واتفقوا جميعًا على شيء واحد: تجاهُل قضية المرأة. ونشر أحد زعماء اليسار المصري برنامج حزبه لتحقيق مبادئ الثورة: الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة، ولم ترد كلمة قضية المرأة في البرنامج أو مساواة النساء والرجال في الدستور، ودائمًا تتوقف العدالة الاجتماعية عند عتبة البيت، وتظل الأسرة الأبوية من الثوابت المقدسة في نظر الجميع، بصرف النظر عن اختلافاتهم الدينية والعقائدية، وفشل اليسار في تحرير الطبقات الكادحة من الفقر والأمية. مع ذلك يُحمِّلون النساء مسئولية القضاء على الفقر والأمية، ويتهمونها بالنُّخبوية إن ناضلن ضد العنف الجنسي أو ضد الختان، أو ضد الازدواجية الأخلاقية، أو ضد حق الرجل المُطلَق في تعدُّد الزوجات والطلاق، لكن الرجال يمطون «بوزهم» في وجه النساء إن نطقن كلمة «حرية المرأة» باعتبار أن حرية المرأة من الكماليات المستوردة من الغرب، أو أنها مَطلَب قِلَّة من نساء الطبقة البرجوازية، كأنما النساء الفقيرات لا يعرفن معنى الحرية، أو ليست من حقهن. أما حرية الرجل فهي حق للرجال من جميع الطبقات الفقيرة والغنية.
تدور الحركة النسائية داخل هذه الحلقة المفرغة الفارغة، ونحن في حاجة إلى أجيال جديدة من النساء الشجاعات الواعيات لا يستمعن إلى ما يقوله المبتسرون والمبتسرات من كل الاتجاهات.
نحن في حاجة إلى تحرير العقل الواعي والعقل الباطن، وإلى أجيال جديدة من النساء يدفعن ثمن الحرية، ويدركن ضرورة الاتحاد والتنظيم، وأن حرية المرأة هي حرية الرجل، وكرامتها هي كرامته وتحرير المرأة يبدأ بنفسها.