الفلاح بوله أحمر
أكتب الآن، قبل أن تظهر نتيجة الانتخابات الرئاسية المصرية، لا أعرف من يكون رئيس الدولة المصرية غدًا، لم أنتخب أحدًا في أي عهد من العهود، لم ألتف حول زعيم، مادي أو روحاني، لم أومن بالمهدي المنتظر أو البطولة الفردية، لم أذهب إلى المطار للقاء البرادعي أو زويل، وهل يأتي مُنقذ الوطن بالطائرة؟ أو محمولًا فوق أعناق الجماهير.
كلمة «الجماهير» تُثير عندي الشكوك.
سادت كلمة «الجماهير» في الاتحاد الاشتراكي عام ١٩٦٥م أيام عبد الناصر، وتحوَّلت إلى كلمة «مصرنا الحبيبة» عام ١٩٧٥م أيام السادات، ثم أصبحت «مصر العريقة» عام ١٩٩٩م أيام مبارك، وتحولت إلى «الثورة المجيدة» بعد سقوط مبارك في ١١ فبراير ٢٠١١م.
كانت أمي تقول: «كلهم زي بعض.» وأبي يقول: «يتاجرون بربنا والفقراء والفلاحين من إخوان مسلمين وشيوعيين.»
اكتشفت أن مقعد الحكم يُفسد الجميع، الملائكة والشياطين، لا يوجد شيء اسمه ملائكة أو شياطين، بل «بشر» يتم إفسادهم بالتربية والثقافة والتعليم.
ألم تفسد النخبة المثقفة في كل العهود؟ ألم تنافق وتراوغ في تعريف مَن هو الفلاح أيام عبد الناصر؟ ثم دخلت النخبة المثقفة والأثرياء والأدباء إلى مجلس الشعب تحت اسم الفلاحين، كذلك السلفيون والإسلاميون دخلوا البرلمان تحت اسم الله والصندوق والشريعة.
كما صعدت فوق جسد الثورة المصرية «عام ٢٠١١–٢٠١٢م» قوى سياسية تحت اسم الثوار والشهداء والديمقراطية. تنازعوا على امتلاك الثورة، مزَّقوها بينهم تمزيقًا، مثل الأم في مسرحية بريخت، «الأم غير الحقيقية» التي قبلت تمزيق طفلها من أجل امتلاك نصفه، وتنازلت «الأم الحقيقية» عن نصيبها، ليظل طفلها حيًّا كامل الجسد.
تغنوا بالانتخابات البرلمانية، تجاهلوا العقل والمنطق الذي قال الدستور أولًا، دعوا إلى شرعية الصندوق وعرس الديمقراطية، فرحوا بفتات المقاعد في مجلس الشعب والجمعية التأسيسية والمجلس الاستشاري والثقافي والإعلامي، ثم فرحوا بحل كل هذه المجالس الزائفة، كأنما لم يشاركوا في صنعها، فرحوا بصورهم في الصحف والمجلات، وضعوا الماكياج، وأصبحوا أبطال الثورة فوق الشاشة، ثم انقلبوا على أعقابهم، وانفرط عقدهم، انسحبوا ثم اجتمعوا مع المجلس العسكري، ثم انسحبوا، تكرر المشهد دون اعتراف بالخطأ، لم يشعروا بأي تأنيب ضمير، يجعرون في الصحف والأبواق بأخطاء الجميع، إلا أنفسهم، يرون القشة في عين الآخرين، ولا يرون الخشبة في عين الواحد منهم، لم يتعودوا التفكير الإبداعي المستقل، يدورون مثل آبائهم في الحلقة المفرغة، تعودوا أن يكونوا أتباع غيرهم في الفكر والعمل.
التبعية الثقافية جزء لا يتجزَّأ عن أعمدة الدكتاتوريات القديمة، منذ العصر الإقطاعي العبودي، حتى الديمقراطيات الحديثة، في القرن الواحد والعشرين.
تؤدي التبعية الثقافية إلى كل التبعيات الأخرى: السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الدينية، الأخلاقية، الشخصية والعامة.
لا يمكن لقلة قليلة يملكون السلاح والمال والإعلام أن يحكموا الأغلبية الساحقة من الشعوب دون السيطرة على العقول، تحويل العقل من الاستقلال إلى «التبعية»، الإحساس بالراحة والأمان في التبعية للآخرين، الإحساس بالخوف والخطر في الاستقلال والإبداع.
أصبحت الانتخابات هي البقرة المقدَّسة، يعبدها الجميع رغم قصورها الواضح، فشلت الديمقراطية الانتخابية تحت حكم الرأسمالية الأبوية في كل بلاد العالم، وإلا فما هو تفسير قيام الثورات الشعبية من «ميدان التحرير» في القاهرة إلى «وول ستريت» في نيويورك؟
بعد تصادم السلطة القضائية بالسلطة التشريعية والتنفيذية في مصر، ارتفعت الأصوات تؤكد أن «ضمير القاضي» يعلو على السلطات، هل يختلف «ضمير القاضي» عن «ضمير الصحفي» أو «المحامي» أو «الطبيب» أو «العامل» أو «الفلاح» أو «عضو مجلس الشعب» أو «المجلس الأعلى»؟ هل يختلف الضمير باختلاف المهنة؟ الطبقة؟ الجنس؟ الدين؟ العمر؟ وكيف يتكوَّن الضمير في مصر؟
كان حكم الملك فاروق فاسدًا، لكن الراديو والصُّحف والنُّخبة والكبار في الدولة آنذاك قالوا عنه الملك الصالح، تكرر ذلك في كل العهود.
حكاية الملك العاري معروفة، الجميع من حوله يقولون: «ملابس جلالتكم مُبهرة عظيمة.» إلا الطفل صاح: «أرى الملك عاريًا.» يتمتع الأطفال بالصدق والتلقائية، ثم يتعلمون النفاق في البيوت والمدارس والجوامع والكنائس والأحزاب والمصالح والمؤسسات العامة والخاصة.
في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، دار الحوار بين النخبة المصرية عن تعريف مَن هو الفلاح؟ رأيت جمال عبد الناصر جالسًا على المنصة من حوله رجال الدولة والوزراء، سمعت المفكرين من النخبة يتبارون في تعريف الفلاح المصري، يجتهدون للوصول إلى تعريف مُراوغ يسمح بدخولهم وضباط الجيش وأصحاب الأموال والوزراء إلى مجلس الشعب تحت فئة العُمَّال والفلاحين، جاء دوري لأرد على السؤال: من هو الفلاح؟ اشتغلت طبيبة في الريف، أعلم أن ٩٩٪ من الفلاحين مرضَى بالبلهارسيا، ينزفون الدم مع البول، كان أهل القرية يتصورون أن البول الأحمر طبيعي، ودليل الصحة وقوة الدم، وقلت بتلقائية: «الفلاح هو الذي بوله أحمر.» دب الصمت في القاعة المكتظَّة بالآلاف، فوق المنصة أصبحت الوجوه متجهِّمة عضلاتها مشدودة كأنما بالأسلاك، استمر الصمت دقيقة، ثم تجاهل الجميع ما قلت، منذ لك اليوم (عام ١٩٦٢م) أصبح دوسيه يحمل اسمي في جهاز الأمن، وعبارة من ثلاث كلمات، مكتوبة بخط يد شعراوي جُمعة وزير الداخلية: «تجرؤ غير مطلوب».
الثورة المصرية مستمرة، وسوف تحقق أهدافها على مر السنين، بثورة في التربية والثقافة والتعليم، تقوم على الصدق والشجاعة والإبداع، وليس الطاعة والتخويف والسير ضمن القطيع.