الفيلسوف الفارسي الكبير صَدْر الدِّين الشِّيرازي
بسم الله تعالى وله الحمد
فِي فجر القرن الحادِيَ عَشَرَ ظهَر في «فارس» من مدينة «شِيراز» رجلٌ فارسيُّ المَحْتِد، حَقِيقٌ أن يُعدَّ من أعظم الفَلاسفة الأثولوجيين الذين نَظَروا في مَلَكوت السَّموات والأرض، وكانوا من الموقِنين.
وهُو صَدْر الدِّين محمَّد بن إبراهِيم الشِّيرَازي، وَكان ظُهور هذا الفيلسُوف الإِلَهي الكبير، الذي سنأْتِي على صورةٍ جليَّةٍ من حياتِه وشخصيَّتِه وفلسفته في عصرٍ كان نجْمُ الفلسفة ضئيلَ النور، لا ناصِرَ لها إلا فئةٌ قليلةٌ مِمَّن اختارَهم الله لنَصْر العِلْم، وكان رجال الفِكر يستَتِرون وراءَ ستار التَّقِيَّة حَقْنًا لدمائِهم، وكانتْ صَوْلةُ أهل الجمود شديدةً قويَّة، وقلمُ الفُقهاء وخصوم الفَلسفة أمْضَى من السَّيف، ولو لم يكن لمذهبِ التَّصوُّف بصيصُ نور، وأنصارٌ قليلون من الذين استنارَتْ قُلوبُهم بنور العقل، لكان هذا الفيلسُوف الإِلَهي صَريعَ جهلِ أهل عصرِه، وقَتِيل عَصَبيَّتهِم، ولكان جزاؤه على عِلْمِه جزاءَ شهابِ الدِّين السُّهْرَوَرْدِي — القَتِيل الشَّهِيد — على فِكره.
- الأول: أنَّه خدم اللغة العربيَّة أعظم خدمة؛ إذْ أخرج كنزًا عظيمًا من دُرَر الحكمة ولآلئ العلم، من فلسفة اللاهوت، والأخلاق، والتَّصوف، والحديث بلغة الضَّاد، ووضع كتُبًا تبلغ أربعةً وأربعين أو خمسةً وأربعين كتابًا ورسالةً بتلك اللغة،٣ وهذا مِمَّا زادتْ به ثروة العلم؛ فهذه الخدمة أحْرَى أن تُقدَّر، ولا سيَّما من علماء العرب، ورجال الأدب في الشَّرق والغرب كافَّة.
- الثَّاني: أنَّ رُوح فلسفته، وإنْ غشَّاها حِينًا بألفاظٍ مُعمَّاة ولا تَظهَر إلا
للمتضلِّع من فلسفته واصطلاحِه، ترفع الخلافَ في كثير من المسائل التي طالَمَا
احتَدَم الجدال فيها بين الفلسفتين الرُّوحية والمادية، وإنْ شئتَ فقل إنَّها
ترفع الخلافَ بين عدَّةِ مسائل كان الخلاف فيها بين الفلسفتين جوهريًّا،
كالخلاف بين مذهَبَي أزليَّة المادة (العالم المادي) وحدوثها، ووجود القوة
المبدِعة الخالِقة المعبَّر عنها ﺑ «الله»، وإثبات الشُّعور العام المعبَّر
عنه بالعِلم له، ووجود الحكمة والغاية من الخلق في جميع أجزاء الكون
وعدمها، وهذه المسائل بحثتُ عنها في دَرْس مذهبه الفلسفي، ثمَّ أرْدَفتُ
البحث في هذه المسائل برأْيِ هذا الفيلسوف في إثبات الشُّعور
لذرَّات المادة المعبَّر عنها في اصطلاح الفلسفة الإغريقية بالهَيُولى
من جماد ونبات: كرأي العالِم النَّباتي الهندي «جاجاديس بوز».٤
ثُمَّ جعلتُ مِسْك الختام كلمةَ صَدر الدِّين في العِشْق، وفيها اعترافٌ منه بفضْل الدِّمشقيين ودمشق.
- الثالث: أن أوجِّه أنظارَ أهل العلم من الشَّرقيين والغربيين إلى أفكاره النَّيِّرة وآرائه وفلسفته الرُّوحية، وإلى كتبه النَّفيسة التي هي مرآة أفكاره، وأفكار عظماء الفلاسفة؛ كسقراط، وأفلاطون، وأرسطو، وغيرهم من فلاسفة الإغريق والفرس والرُّوم، وأتْباعهم كابن سينا، والفارابي، وأمثالهما.
وورد أيضًا ذِكرُه مُختصرًا بقلم المستشرق «كليمان هوار» في معلمة الإسلام التي تنشرها جماعة من المستشرقين، ولكنَّ الأول منهما وفقًا لموضوع كتابه بحث عن ناحية أثره في الفلسفة، وتأثير فلسفته في أهل عصره، والثاني اعتمد على ما كتبه الكونت «دو غوبينو» في كتابه المذكور وعلى مصادر فارسية وقَفْنا عليها جميعها.
(١) شِيراز وَطن صَدْر الدِّين
بنَى هذه المدينةَ أوَّلًا شيراز بن تهمورث، ثمَّ جدَّد بناءَها بعدَ الخراب محمدُ بن القاسم ابن عم الحجَّاج في صَدْر الإسلام، وكانتْ مُعسكرًا للمسلمين، لَمَّا همُّوا بفتح إستخر (إصطخر)، وكانتْ عاصمةَ «آل بُوَيْه» وغيرِهم من الملوك، وعاصمةَ «كريم خان» الزند، وقد أنجبتْ غيرَ واحدٍ من رجال العِلْم المشهورين من الفلاسفة الكبار والشُّعراء العظماء، كالإمام ابن إسحاق الشِّيرازِي المُتوفَّى سنة ٤٧٦ﻫ، والعلَّامة قطب الدِّين محمود بن مسعود تلميذ نَصير الدِّين الطُّوسِي الفَلَكي وصاحب الاختيارات في «الهيئة»، وحل مشكلات المَجَسْطِي المُتوفَّى سنة ٧١٠ﻫ، ومُصلح الدِّين سعدي الشَّاعر العارف الشَّهير المُتوفَّى سنة ٦٩١ﻫ، وشمس الدِّين حافظ محمد العارف الشَّاعر المُتوفَّى سنة ٧٩١ﻫ أو ٧٩٤، وغيرهم مِمَّن تفْتَخِر بهم «فارس».
في هذه المدينة الجميلة وُلد صدْر الدِّين وأصبح قَبَسًا مُنيرًا في سماء العِلْم بعد حين، وفيها نَمَتْ عواطِفُه، واتَّقَدَتْ فطْنَتُه، والْتَهَب ذكاؤه، كذلك التُّربة الخصبةُ تُنْبِتُ الزَّنبقة.
(٢) أُسْرتُه
هو صدْر الدِّين محمد بن إبراهيم القوامي الشِّيرازِي الشَّهِير بالآخوند (الأستاذ) المولى صدرا.
أُسْرة قوام في شيراز أُسْرة عَرِيقة في النَّسَب والشَّرَف، والقوام لقبٌ عامٌّ لرئيس هذه الأسرة في كل عصر، ولا تَزالُ الرِّياسة قائمةً فيهم إلى هذا الزمن.
ورأس هذه الأسرة هو القوام الذي كان معاصرًا لحافظ شمس الدين الشاعر السابق الذِّكر، وأثْنَى عليه في بعض قصائده بقوله:
معنى البيت: أنَّ نعمة قوام عمَّتِ البَرَّ والبحر، بل الفُلك والفَلك والهلال شَمِلَتْها نعمتُه، وهو مبالَغة شعرية في مدْحِه.
وشكَّ بعضُ كِبار علماء شيراز في نِسبةِ صدْر الدِّين إلى هذه الأسرة، وقال على ما رواه الثقات عنه: إنَّ قوام الذي يُنسَب إليه صدْر الدِّين غير قوام المعاصِر للحافظ شمس الدِّين، ولكنِ اشتُهِرتْ نسبتُه إلى هذه الأسرة الشريفة.
(٣) ولادته
وُلِد هذا الحَبْر الجليل بعد النِّصْف من القرن العاشِر الهجري على الأرجح، من أبٍ شيرازي اسمه إبراهيم، وكان وزيرًا في فارس «شيراز». ولم تُعرف سنة ولادتِه في الكتب التي وَرَدَ ذِكرُه فيها، إلا أنَّ الأرجَحَ أنَّه وُلد بعد النصف من القرن العاشر الهجري؛ لأنَّ أعمالَه الخطيرة العلمية ووضع تآلِيفِه الكبيرة التي تربو على أربعة وأربعين أو خمسة وأربعين تأليفًا وتصنيفًا ومدة اشتغاله بدَرْس الفلسفة والحديث والفِقْه والتصوُّف واعتزاله في جبال «قم» عدَّةَ سنين تاركًا التأليف والتصنيف كما سيُشِير إليه في كلامه الآتي ذكرُه، كلُّ ذلك يحتاج إلى زمنٍ أكثَرَ من خمسين سنة، أي الخمسين سنة بعد القرن العاشر التي وقع فيها موته، إذا قلنا إنَّه وُلد في فجْر القرن الحادِيَ عشَر.
وكان والِدُه ذاتَ يومٍ وكَّله على البيت وعلى رعاية ما فيه، ثمَّ أرادَ الوقوفَ على ما أنفَقَه في المدة المذكورة، فرأَى أنَّ بينَ النَّفقات اليومية ثلاثة توامين في باب الحسنات، فتعجَّبَ والدُه الوزير من هذا الأمر، وقال لابنه: ما هذا؟! قال ابنه: يا أبي، هذا ثمن ما يُكلِّفُك إياه ولدُك. وفي صُنْعِه هذا دلالةٌ على جُودِه وأنَّ فطْرَتَه كانتْ تهتَزُّ للمعروف.
(٤) وُرُودُه إلى أصْبَهان
ولم يَدُرْ في خَلَد الصدْر أنَّ وراءَ الأَكَمةِ ما وراءَها، فوَاجَه الأستاذَ المنطقيَّ من غير أن يُخامرَه رَيْب، وفي ذلك الوقت كان مير محمد باقر يعلِّم فسَمِع الصَّدْرُ درسَه، ولَمَّا عاد التلميذ إلى أستاذه قال له شيخُه: ما كان يفعل مير محمد باقر؟ قال: كان يُدرِّس. فقال شيخُه: إنِّي لم أكن محتاجًا إلى طلب كتابٍ من مير محمد باقر، إنَّما اتخذْتُ هذه الوسيلةَ لكي أعرِّفَك بدُروسِه وتحكُمَ بنفسِك على مقدِرةِ عِلْمِه، فينبغي أن تتلقَّى علومَه. فأطاعه الصدر، وفي بضع سنوات بلغَ الدَّرجةَ القُصْوى من البلاغة، وهي الدَّرجةُ التي عُرف بها.
(٥) آراء الفقهاء في اعتقاد صدر الدين
وهذا الفيلسوف كأمثاله من الفلاسفة الأحرار ذَوِي الفِكرة النَّيِّرة، لم يَسْلَم من الانتقاد المُرِّ والتحقير، وأصبح هدفًا لسِهام اللوْم والتكفير، وهناك بعضُ الأقاويل في شأْنِه من مُقارِبي عصْرِه ومعاصِرِيه.
بل كان في عصره هدفًا لسِهام لَوْم أكثرِ عارِفِيه من أهل الجمود أيضًا، على أنَّا نَجِد قليلًا من معاصريه ومُقارِبِي عصْره الذين لم يَعْشوا عن نور الحق يعظِّمونه ويبجِّلونه حقَّ تعظيمه وتبجيله؛ قال السيد علي خان صاحب «سُلافة العصر» في ضمن ترجمة الملا فرج الله التُّسْتَري المعاصِر له ما نصه:
قال مؤلِّف الكتاب، عفا الله عنه: أعيان العَجَم وأفاضلهم من أهل هذه المائة كثيرو العدد، ومنهم المولى صدر الدِّين محمد بن إبراهيم الشِّيرازي الشهير بالملا صدرا، كان أعلم أهل زمانه بالحكمة متفنِّنًا بسائر الفنون، له تصانيف كثيرة عظيمة الشأن في الحكمة وغيرها.
وقال صاحب «أمل الآمل»: محمد بن إبراهيم الشِّيرازي فاضل من فضلاء المعاصرين. ثمَّ نقل نص عبارة صاحب «السلافة» الآنفة الذِّكر، وقال الشيخ يوسف البحراني: محمد بن إبراهيم صدر الدين الشِّيرازي الشهير بالمولى صدرا كان حكيمًا فيلسوفًا صوفيًّا بحتًا.
صدر الدين محمد بن إبراهيم الشِّيرازي، الشهير بالمولى صدرا كان فائقًا على سائر مَن تقدَّمه من الحكماء الباذِخين والعُلَماء الراسِخين إلى زمن نَصِير الدِّين. يعني نصير الدين الطوسي الفلكي الفيلسوف المُتَوَفَّى سنة ٦٠٦.
إنَّ مَن درس هذه الكلمات يعلم أنَّ السَّيْر على آثار الآباء والتقليد في العقائد الدينية وترك الاهتداء بنور العقْل والفلسفة، كانت في ذلك العصر أوصافًا تُعَدُّ فضيلةً لصاحبها، وفيها حياة له كما أنَّ في الفلسفة موتًا للفيلسوف.
ثمَّ لعن الملا محرابعلي، فسأل الملا محرابعلي، وهو لا يعرف الملا محرابعلي، عن سبب لعنه له، قال: إنه يعتقد بوحدة واجب الوجود. فقال له: فالْعَنْه؛ فإنَّه حقيق بلعنك بهذه العقيدة. ولم يكن يُمَيِّز بين الاعتقاد بوحدة الوجود ووحدة واجب الوجود.
(٦) وفاته
(٧) كلماته وشكواه عن أهل عصره
يَظهَر من بعض كلماته أنَّه سَئِم من جَهَلة أهل عصره، يقول في ديباجة كتابه «الشواهد الربوبية»: بعد الحمد وأصلي على نبيِّه وآله المطهَّرين من ظلمات الخواطر المضِلَّة المحفوظين في سماء قدسهم وعصمتهم عن طعن أوهام الجهلة، وأستعيذ به من جنود الشياطين. ثمَّ قال: «اللهم اجعل قبور هذه الأسرار صدور الأحرار.» وقال في فاتحة كتابه «الأسفار» بعد بيان عزمه على تصنيفه:
ولكنَّ العوائق كانتْ تمنع عن المراد، وعوادي الأيام تضرب دون بلوغ الغرض بالأسداد، فأقْعَدَتْني الأيام عن القيام، وحَجَبَني الدهر عن الاتصال إلى المرام؛ لِمَا رأيتُ من مُعاداة الدهر بتربية الجَهَلة الأراذل، وشعشعة نيران الجهالة والضلالة، ورثاثة الحال وركاكة الرجال، وقد ابتُلِينا بجماعةٍ غارِبي الفَهْم، تَعْشُو عيونُهم عن أنوار الحكمة وأسرارها، وتكِلُّ بصائرهم كأبصار الخفافيش عن أضواء المعرفة وآثارها، يَرَوْن التعمُّق في الأمور الربَّانية والتدبُّر في الآيات السبحانية بدعة، ومخالفةَ أوضاع جماهير الخلْق من الرِّعاع ضلالةً وخدعةً … إلى أن قال: فأصبح الجهلُ باهر الرايات، فأعدَموا العلمَ وفضْلَه، واستَرْذَلوا العرفان وأهله، وانصرفوا عن الحكمة زاهِدين، ومَنَعُوها معانِدين، ينفرون الطباع عن الحكماء ويطرحون العلماء العرفاء الأصفياء، وكلُّ مَن كان في بحر الجهلِ والحُمْق أَوْلَج، وعن صفاء المعقول والمنقول أخرج، كان إلى أَوْج القبول والإقبال أَوْصَل، وعن أرباب الزمان أعلم وأفضل:
وكيف ورؤساؤهم قوم عُزْل من سلاح الفضْل والسَّداد، عارية مناكِبُهم عن لباس العقل والرَّشاد.
يُشِير هذا الكلام إلى أنَّ صدر الدين لم يكن يستطيع من التصريح بفلسفته كما يأتي النص عليه في كلامه في مبحث علم الباري تعالى، حيث يقول في رأْيِه في عِلْمه — تعالى — إنَّه لا يَرَى في التصريح به مصلحة، وتنبَّه على ذلك من درس حياة صدر الدِّين من الإفرنج؛ ففي كتاب «الكونت دو غوبينو» ومَعْلَمة الإسلام الإنجليزية أنَّ صدر الدِّين أخفى مذهبَه من باب التَّقِيَّة (الكتمان) خوفًا من اضطهاد المجتهِدين له، وغشَّاه قصدًا بألفاظٍ معمَّاة، ومقالته بثُّ شكوى من أهل الجمود ومتفقِّهة عصره الذين دأبهم في كلِّ عصرٍ ومصر محاربة أحرار الأفكار بسلاح الدِّين، وإن كانوا لا يعرفون من الدِّين إلا قِشْرَه، وهم أبعَدُ مِن لُبِّه كبُعْد السماء والأرض!
(٨) أهل الجمود والعوام في نَظَره
نظر صدر الدِّين إلى أهل الجمود والعوام بالاحتقار؛ يقول في أول كتابه «الأسفار» بعد وصْف فضْل الفلسفة وأنَّها طريق معرفة الحق الوحيد: وليُعْلَم أنَّ معرفةَ الله — تعالى — وعلم المعاد وعلم طريق الآخِرة ليس المراد بها الاعتقاد الذي تلقَّاه العامِّيُّ أو الفقيهُ وراثةً وتلقُّفًا؛ فإنَّ المشغوفَ بالتقْلِيد والجمود على الصورة لم ينفتح له طريق الحقائق كما ينفتح لكرامٍ من الإلهيين.
ويقول: إنِّي أستغفر الله كثيرًا ممَّا ضيَّعتُ شطرًا من عُمْري في تتبُّع آراء المتفلسِفة والمجادِلين من أهل الكلام، حتى تبيَّنَ لي بنور الإيمان وتأييدات المنَّان أن قياسَهم عقيم وصراطهم غير مستقيم.
(٩) تأثير معارضة أهل الجمود للفلسفة في نفسه
ومِن أين يحصل للإنسان مع هذه المكارِه التي يسمع ويرى من أهل الزمان ويشاهد مما يكب عليه الناس في هذا الأوان من قِلَّة الإنصاف وكثرة الاعتساف وخفض الأعالي الأفاضل ورفع الأداني والأراذل، وظهور الجاهل الشرير والعاصي النكير على صورة النِّحْرير وهيئة الحبر الخبير، إلى غير ذلك من القبائح والمفاسِد الملازِمة الفاشِيَة اللازمة والمتعدِّية مجال المخاطَبة في المقال وتقرير الجواب عن السؤال، فضلًا عن حلِّ المعضلات وتبيين المشكلات. ثمَّ تمثَّل برباعيٍّ من رُبَاعِيَّات «الفرس»، وهو:
-
(١)
معناه: لا تجعل كثيرًا كلَّ أذنٍ غيرِ واعية مشحونة كالأصداف بدُرَر المعاني.
-
(٢)
واقفل شفتَيْك الياقوتتين.
-
(٣)
لا حاجة للمقال في جواب كل سؤال.
-
(٤)
فإنَّ العين البصيرة تعذر الشفة الساكتة للإنسان.
ثمَّ اقتبس كلام أمير المؤمنين عليٍّ، عليه السلام، وقال: اقْتفَيتُ أثَرَ عليٍّ، عليه السلام، مُطلِّق الدنيا، مؤثِرًا الآخِرة على الأولى، فأمسكتُ عناني عن الاشتغال بالناس ومخالَطَتِهم، وأَيِسْتُ من مرافَقتِهم ومؤانستهم، وسهُلَتُ عليَّ معاداة الدَّوَرَان ومعاندة أبناء الزمان، وخلصتُ عن إنكارهم وإقرارهم، وتساوَى عندي إعزازهم وإضرارهم، فتوجَّهتُ توجُّهًا غريزيًّا نحو مسبِّب الأسباب، وتضرَّعتُ تضرُّعًا جِبِلِّيًّا إلى مسهِّل الأمور الصِّعاب، فلمَّا بقِيتُ على هذه الحال من الاستتار والانزواء والخمول والاعتزال زمانًا مديدًا وأمدًا بعيدًا، واشتعلَتْ نفسي بطول المجاهَدات اشتِعالًا نورانيًّا، والْتَهَب قلبي الْتِهابًا قويًّا، ففاضَتْ عليه لكثرة الرياضات أنوار الملكوت، وحلَّتْ بها حنايا الجبروت، ولحِقَتْها الأضواء الأَحَدية، وتدارَكَتْها الألْطاف الإلهية، فاطَّلعتُ على أسرارٍ لم أكن أطَّلعْ عليها إلى الآن، وانكشفتْ لي رموز لم تكن منكشِفةً هذا الانكشافَ من البرهان، بل كلُّ ما علِمْتُه من قبل بالبرهان عايَنْتُه مع زوائد بالشهود والعيان. انتهى.
وأنت تعلم أيُّها القارئ أنَّ هذه الكلمات التي ملؤها الشكوى من الجهل والجاهل وعصر الجهل لا تصدر إلا عن نفس رجلٍ بلغ في العلم وتذكية النفس مَرْتبةً رفيعة، وحاوَلَ أن يستضيء الناس بنبراس علْمِه ويسلكوا سبيل الهدى الأمثل ويتَّبِعوا نور شمس العقل الأجمل.
ثمَّ وجدَ الأقدارَ تَجْري على خلافِ ما يَرُومُه، فتُعِزُّ الجاهل وتُكرِمه، وتذلُّ العالِمَ وتُلْجِمه. ورأى مَن اتَّبع نورَ العقْل أصبح هدفًا لسهام الجهل، فسَئِم من الحياة وقطع عنها كل الصِّلات، ونظر إلى العالَم نظرَ المتحيِّر، وطلب النجاة من الله العزيز القدير. وكانتْ حالُه في ترْكِه وطنَه وانزوائِه في جبالِ قُمَّ واستظلالِه تحتَ ظلال السكونِ والوحدة للتفكر في ملكوت السموات والأرض والتأمُّل في الأسرار الإلهية تُشْبِه حال الإمام «الغزالي» في ترْكِه بغدادَ وتأمُّلاته في القدس والشام، فكلاهما جعلا تهذيب النفس بالرياضة والمجاهَدة، وتحليتها بالفضائل وتخليتها عن الرذائل سبيلَهما الموصِلَ إلى الله الجليل، والعارِجَ بهما من مرتبة البرهان إلى عالَم الشهود والعيان. ذاك عاد بعد سنين إلى بغداد فسلَكَ سبيلَ الإرشاد، وهذا نزل من جبال قُمَّ وفجَّر عينَ خاطِرِه الفيَّاض فصنَّف وألَّف وأجاد.
(١٠) حالة إيران العلمية في العصر الصَّفَوي
يَحسُن بنا أن نذْكُرَ كلمةً في حالة إيران العِلْمية في العصر الصفوي لتتَّسِع بها إحاطة القارئ الكريم بنواحي البحث.
إنَّ مَن جالَ ديارَ الفُرْس ونظر إلى مدارسها المبنية في عصر الملوك الصَّفَويين، يتمثَّل أمامَه سعْيُ هؤلاء الملوك العُظَماء وأمرائهم ورجالِهم في نشْر العلوم، ولا سيَّما علوم الدِّين، فإنَّه يَجِدُ في أصفهان كرسيِّ المملكة الصفوية وسائرِ ديار إيران معاهدَ علميةً ومدارسَ فخمةً بُنيتْ على الطِّراز القديم، تلألأ قبابُها الزرقاء بين أشجار وأزهار وبستان وريحان.
وحجرات الطلَّاب مُطِلَّة عليها، وجدرانها مُزَيَّنة بالفُسَيْفِساء على أجمل طرز تسحر العيون كثيرًا ما نُقشتْ فيها آيات قرآنية ونصوص دينية.
فصورة قطعةٍ من مدرسة الخان في شيراز التي تراها في ضِمْن هذه الرسالة تمثِّل لديك جمال البناء في القرنين العاشر والحاديَ عَشَر، وهندسته في إيران، وكانتْ عناية هؤلاء الملوك والأمراء والذين اتَّبَعوهم بإحسانٍ لنَشْر العلم سببًا لوقْف أملاكٍ كثيرةٍ من أراضي ومزارع وقُرًى لصَرْفها في سبيل العلم ونشْره وترقية طَلَبته.
فبقية تلك الأملاك الموقوفة في العصر الصَّفَوي الآن في إيران يبلغ ثَمَنُها ملايين من الجنيهات، وكان هؤلاء الملوك ورجالهم بأنفسهم يتفقَّدون حالَ طَلَبة العلم ويُكرِمونهم غاية الإكرام. وفي كتاب «المذاهب والفلسفة في آسيا الوسطى» أنَّ أُمَّ الشَّاه عباس الصفوي الكبير على جلالتها مع جماعةٍ من الأميرات الشريفات، كُنَّ يَأْتِينَ المدارسَ في كلِّ شهرٍ مرة، ويسْأَلْنَ عن حال الطُّلَّاب ويجمَعْنَ ثيابهم ليَغْسِلْنَ أوساخَها ويُعْطِينَهُم ثيابًا جديدة؛ لئلا يشتغلون بغير الدَّرْس، وهذا الصُّنْع الجميل يدلُّ على كبير اهتمامِهم بنشْر العِلْم وترقية شئون الدِّين في هذه المعاهِد العلمية، كان الطالبُ يتلقَّى دُروسَه من الصَّرْف والنحو والمنطق والمعاني والبيان وسائر فروع العلوم العربية والأدبية والفقه وأصوله والحديث والكلام والعلوم الرياضية بجميع فروعها، والأخلاق وقليل من الفلسفة الإغريقية والحكمة الفَهْلوية على خفاء؛ لأنَّ الفلسفة كانتْ تُعَدُّ مُخالفة لمبادئ الدِّين.
(١١) تلقِّيه علومَه وفلسفتَه
ولَمَّا أتمَّ صدْرُ الدِّين دروسَه الأولية في شيراز رحل إلى أصبهان؛ حيث كانتْ مجمع رجال العلم والحكمة ومُقتَبَس نور العرفان في إيران، وفيها كبار العلماء والحكماء والأساتذة والمدرسين أمثال بهاء الدِّين العاملي والمير محمد باقر الداماد والمير الفندرسكي الآتي ذكرهم، وكان الطلبة يقصدونها من الأقطار الفارسية القريبة والنائية لتلقِّي العلوم العالية فيها.
(١٢) أساتذته
فُوِّض إليه منصب شيخ الإسلام من المَلِك الصَّفَوي، وكان هذا المنصب ذا أهمية كبرى في ذلك العصر.
والثاني هو محمد الباقر بن محمد الحسيني فيلسوف إلهي جليل، وفقيه نبيل، كان شاعِرًا يُجِيد الشعر بالفارسية والعربية، وخَطِيبًا مُصْقِعًا، خطب خطبة الملك في جامع أصبهان يوم جلس فيه الشاه صفي الصفوي في عرش الملك وصاحَبَ الشاه عباس الكبير، تُوفِّي سنة ١٠٤٠ﻫ على رأي صاحب «منتظم ناصري»، وسنة ١٠٤١ على ما ذكره صاحب «أمل الآمل». وأشهر كتبه: «القبسات»، و«الصراط المستقيم»، و«الحبل المتين»، و«شارع النجاة» في الفقه، و«عيون المسائل» لم يتم، كتاب «نبراس الضياء»، «خلسة الملوك»، «الرواشح السماوية» وهو في علم الحديث والدراية، ونسخة من هذا الكتاب كانتْ موجودةً عند صاحب «روضات الجنات» بخط صدر الدين، كتاب «السبع الشداد»، «الضوابط»، «الإيماضات والتشريقات»، «شرح الاستبصار»، «سدرة المنتهى» في تفسير القرآن.
وله رسالة في أنَّ المنتسِب بالأمِّ إلى هاشِم من السادات الكِرام على ما اختاره العلَّامة جمال الدين القاسمي الدمشقي، وله أيضًا حواشٍ على «الكافي»، وكتاب «مَن لا يحضره الفقيه»، وهما من أهم كتب الحديث.
(١٣) تلامِذته المشهورون
ومن أشهر تلامذته محمد بن مرتضى المدعو بمحسن الفيض، وهو خَتَن صدْر الدِّين، كان عالِمًا محدِّثًا صُلْبًا كثير الطَّعْن على المجتهِدِين، وقد سبق كلام صاحب «لؤلؤة البحرين»، الشيخ يوسف البحراني في مسلكه التصوُّفي، تلمذ في الحديث على السيد ماجد البحراني في مدينة «شيراز»، وفي أصول العقائد على الفيلسوف صدر الدِّين محمد بن إبراهيم، وله آثار علمية أفرد لها فهرستًا منها: «كتاب الصافي» في تفسير القرآن الكريم (طُبع في إيران).
ومنهم المولى عبد الرزاق بن علي بن حسين اللاهجي الجيلاني ثمَّ القُمِّي، كان حكيمًا متشرِّعًا ومتكلِّمًا محقِّقًا ومنشئًا بليغًا ومنطقيًّا وشاعرًا جليلًا له مصنَّفات كثيرة في الحكمة والكلام، منها كتابه المشهور ﺑ «گوهر مراد»؛ كتاب شرح تجريد نصير الدين الطوسي الفيلسوف، وهذا الكتاب في الأمور العامة؛ كتاب «الشوارق في الحكمة»، شرح الهياكل في حكمة الإشراق؛ «الكلمات الطيبة» في المحاكمة بين المير الداماد وتلميذه صدر الدِّين في أصالة الماهية والوجود؛ رسالة «حدوث العالم»؛ حاشيته على حاشية الخفري على الهيئات؛ «شرح التجريد»؛ حاشيته على شرح الإشارات لنصير الدِّين الطوسي الفلكي.
وكان قد درس على صدْر الدِّين، وكان مدرِّسًا بمدرسة قُمَّ إلى أن تُوفِّي بها بعد النصف من القرن الحادي عشر.
قرأ الحكميات على المولى عبد الرزاق اللاهيجي بقُم، وتُوفِّي هناك، ولا يُعلَم على التحقيق سنة وفاته، والمظنون أنَّ وفاته كانتْ في أواخِر القرن الحاديَ عشَر، أو أوائل الثانيَ عشَر.
(١٤) تأليفاته الفلسفية
-
(١)
كتابه الكبير «الأسفار»، وهو مرآة فلسفته الجلية، صنَّفه في جبال «قُمَّ» بعد تأمُّلاته العرفانية الفلسفية، في فاتحتِه يقول، بعدَ الشكوى من العصر وأهله في زمن انزوائه في بعض الدِّيار كما أسلفنا: ثمَّ اهتزَّ الخامِدُ من نشاطي، وتموَّج الجامِدُ من انبساطي … إلى أن قال: فصنَّفْتُ كتابًا إلهيًّا للسالِكين المشتغِلين بتحصيل الكمال، وأبرزتُ حكمةً ربانية للطالِبين لأسرار حضرة ذي الجلال والجمال وترتيبه هكذا:
- السِّفْر الأول: وهو الذي من الخلْق إلى الحقِّ في النظر إلى طبيعة الوجود وعوارضه.
- والثاني: السفر بالحقِّ في الحق.
- والثالث: السفر من الحقِّ إلى الخلْقِ بالحق.
- والرابع: السفر بالحقِّ في الخلْق.
ثمَّ قال: فرتَّبتُ كتابي هذا طبق حركاتهم في الأنوار والآثار على أربعة أسفار، وسمَّيتُه بالحكمة المتعالية في الأسفار العقلية. ولا يَخْفَى ما في هذا القول من النزعة الصوفية، مع أنَّ الكتاب يحتوي على أهم المباحث الفلسفية الإلهية، بل جميعها طبع في إيران قبل عدة سنين.
وهمَ «الكونت دو غوبينو» وزعم أنَّ هذا الكتاب الكبير أربع رحلات، كتبها صدْرُ الدِّين في أسفاره، فإنَّه لَمَّا ذكر عددَ تآليفه، وقال: فضلًا عن ذلك وضع أربع رحلات. ووهمُه نشَأَ من اسم الكتاب، مع أنَّه أهمُّ تآلِيفِه ومرآة أفكاره الفلسفية، ولم يتدبَّر في موضوع الكتاب.
-
(٢)
كتاب «الواردات القلبية».
-
(٣)
كتاب «المسائل القدسية والقواعد الملكوتية».
-
(٤)
كتاب «الحكمة العرشية»، شرحه الشيخ أحمد زين الدِّين الأحسائي مؤسِّس مذهب الشيخية الإمامية (طُبع في إيران).
-
(٥)
كتاب «المشاعر»، شرحه الشيخ أحمد زين الدِّين الأحسائي مؤسِّس مذهب الشيخية الإمامية (طُبع في إيران).
-
(٦)
كتاب «الشواهد الربوبية»، وهو مِن أفضل كتبه الفلسفية وأعلاها (طُبع في إيران).
-
(٧)
كتاب «المبدأ والمعاد»، وحاول أن يوفِّق فيه بين الدِّين والفلسفة.
-
(٨)
كتاب في حدوث العالم، وفيه أهمُّ آرائه الفلسفية.
-
(٩)
كتاب «شرح الهداية».
-
(١٠)
حاشية على إلهيات الشفاء للرئيس ابن سينا الفيلسوف.
-
(١١)
حاشيته على شرح حكمة الإشراق للسُّهْرَوَرْدي.
-
(١٢)
أجوبة على مسائل عويصة.
-
(١٣)
أجوبة على مسائل سأَلَها المحقِّق الطوسي الفيلسوف عن بعض معاصريه ولم يأتِ المعاصِر بجوابها.
-
(١٤)
رسالة في حلِّ الإشكالات الفلكية، ذكر اسمها في بحث غايات الأفعال الاختيارية في الأسفار.
-
(١٥)
رسالة في تحقيق أنصاف الماهية بالوجود (طُبع في إيران).
-
(١٦)
رسالة «إكسير العارفين في معرفة طريق الحق واليقين».
-
(١٧)
رسالة في إثبات الشوق للهَيُولى (المادة) أو ذراتها.
-
(١٨)
رسالة في اتحاد العاقل والمعقول.
-
(١٩)
رسالة في خلق الأعمال.
-
(٢٠)
رسالة «في الحركة الجوهرية»، وهي نظرية تفرَّد بها صدر الدين.
-
(٢١)
رسالة في سريان الوجود، وهي من أنفَس تآليفه.
-
(٢٢)
رسالة في الحشر.
-
(٢٣)
رسالة في التصوُّر والتصديق.
-
(٢٤)
رسالة في التشخُّص.
-
(٢٥)
رسالة في القضاء والقدر.
-
(٢٦)
رسالة اسمها «الألواح العمادية».
(١٥) تآليفه الدينية
- (١)
تفسير سورة البقرة.
- (٢)
تفسير آية الكرسي.
- (٣)
تفسير آية النور، هذه الرسالة موجودة الآن بخط صدْر الدِّين في شيراز عند السيد عبد الحسين ذي الرياستين العارف الشهير.
- (٤)
تفسير سورة «الم» سجدة.
- (٥)
تفسير سورة يس.
- (٦)
تفسير سورة الواقعة، كان موجودًا بخط صدْر الدِّين عند صاحب «روضات الجنات».
- (٧)
تفسير سورة الحديد.
- (٨)
تفسير سورة الجمعة.
- (٩)
تفسير سورة الطارق.
- (١٠)
تفسير سورة سبح اسم ربك الأعلى.
- (١١)
تفسير سورة إذا زلزلت.
- (١٢) تفسير آية وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً، طُبعتْ هذه الرسائل بخط سقيم في إيران.
- (١٣)
رسالة «أسرار الآيات».
- (١٤)
«كسر أصنام الجاهلية في كفر جماعة الصوفية»، وليعلم أنَّ التصوف في كل عصره كان يُطلَق على جماعة من الدراويش الإباحيين، ولكنَّ العقلِيِّين والأخلاقيين من المتصوِّفة كان يُطلَق عليهم في ذلك العصر بالعرفاء.
- (١٥)
كتاب «مفاتيح الغيب» (طُبع في إيران).
- (١٦)
كتاب «شرح أصول الكافي»، تصنيف أبي جعفر محمد بن يعقوب بن إسحاق الكليني الرازي المحدِّث الإمامي الشهير، المُتَوَفَّى سنة ٣٢٨ أو ٣٢٩ﻫ، قال صاحب «روضات الجنات» إنَّه أرفع شرح كُتِب على أحاديث أهل البيت من الأئمة، عليهم السلام. وقد سلف مِنَّا قول البعض إنَّ أول مَن شرَحَه بالكفر صدْرًا. كم فرق بين النظرين!
- (١٧)
حواشيه على كتاب «الرواشح» لأستاذه الداماد، وكانتْ بخطِّه عند صاحب «الروضات».
(١٦) روح عصر صدْر الدِّين
إذا أردْنا أن نُصَوِّر شخصية رجل حكيم مُفكر ظهَر بآراء جديدة وأفكار نيِّرة في محيط مظلِم جوُّه بسُحُب الجمود والعصبية، لا بدَّ أن نصوِّر عصرَه الذي عاش فيه ليُحيط القارئ علمًا بشخصية ذلك الرجل البارزة.
إنَّ مَن درس روح العصْر الذي ظهَر فيه صدْر الدين في المحيط الفارسي يتمثَّل أمامَه رُوحان: رُوح التصوُّف البحت وتأويل نصوص الشريعة، ورُوح الجمود على ظواهر الكتاب والسُّنَّة والنضال بأشكاله كان بين الرُّوحين يشتدُّ آونةً ويضعف أخرى. ومؤلَّفات الفريقين مشحونة بطعن كلٍّ على الآخَر، ولحدوث كلٍّ من الرُّوحين وسريانها سبب أصلي نُبَيِّنه لنصوِّر به رُوح عصر الفيلسوف.
ولا نعتمد فيما نقول إلا على كلمات الثقات المشهورين من العلماء الذين عاشوا في فارس في هذا العصر.
أمَّا سبب حدوث التصوُّف في فارس وانتشاره فيه هو أنَّ التاريخ يدلُّنا على أنَّ مذهب الباطِنية وتعاليمَ عبدِ الله وأبِيه ميمون بن دَيْصان طافَتْ في كثير من الأرجاء الإسلامية، فصادفَتْ في فارس تربةً صالِحةً للنُّمُو؛ لأنَّ الباطنية تظاهَرَتْ بمذهب التشيُّع، وفارس كانتْ معقل الشيعة، والباطنيةُ تقرب من التصوُّف الإسلامي؛ إذْ هما يلتقيان في نقطة تأويل نصوص الشريعة وتقريبِها من العقل، والقولِ بأنَّ لها باطنًا غير ظاهرها، أضِفْ إلى ذلك ما كان في أفكار الفارسيين من الأنس بمذاهب الفلسفتين الإغريقية والهندية اللتَيْن يصحُّ أنْ يُعتَبَر التصوُّف الإسلامي وليدَهما.
قال الشيخ يوسف البحراني المُتَوَفَّى سنة ١١٨٦، وهو من كبار محدِّثي الشيعة، في كتابه «لؤلؤ البحرين» في شأن محسن الفيض تلميذ صدْر الدِّين وخريجه الكبير ما نصه:
لاشتهار مذهب الصوفية في ديار العجم ومَيْلِهم إليه، بل غلوِّهم فيه صارتْ له (أي للمحسن) المرتبة العليا في زمانه، والغاية القصوى في أوانه، وفاق الناس جميع أقرانه. وقول هذا المحدِّث الثقة الجليل يدلُّ على اشتهار مذهب التصوف وكثرة أنصاره في العصر الذي عاش فيه صدْر الدِّين.
وكان في جنب هذه الرُّوح الجمودُ باديًا في طائفةٍ من أهل الحديث والفقه، وكانوا متمسِّكين بظواهر الكتاب والسُّنَّة، وكان سببه شدة تمسُّكِهم بالدِّين واستيلاء سلطانه على نفوسِهم وبُعدهم عن أغراضه وأسراره.
وكانوا يَرَوْن اتِّباعَ العقل المحض والمبادئ الفلسفية مُرُوقًا عن الدِّين، وسلوكًا لسبيل المضلِّين.
ولا شكَّ أنَّهم — أي الصوفية — من أولياء الله — تعالى — الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخِرة، والذين آمَنوا وكانوا يتَّقُون. طُبِعَتِ الرسالة في القاهرة سنة ١٣٢٨ﻫ.
ويدلُّ عليه كلام صاحب «لؤلؤ» يقول في كتابه المذكور: ربَّما طعن عليه القول بالتصوف لما يتراءى من بعض كلماته وأشعاره في هذا العصر الذي تلبَّد جوُّه بسُحُب الجمود. عاش صدْر الدِّين ورُوح فلسفته التصوف وأصول الفلسفتين الإغريقية والفارسية الفهلوية، وتَمَكن من وضْع تآليفه الكثيرة الجليلة التي أخلدت له الذِّكر الجميل ولم يُصِبْه ما أصاب الفلاسفة الأحرار من الاضطهاد والزَّجْر والقَتْل.
(١٧) فتوى رجال الدِّين بكُفْره
- الأول: أنَّه ذهب إلى مذهب وحدة الوجود، كما صرَّح به في كتبه وفلسفته، حتى في تفسيره نقل قول محيي الدِّين بن عربي إنَّ فرعون مات مؤمِنًا موحِّدًا، واستحسَنَ هذا الكلام بقوله: هذا كلامٌ يُشَمُّ منْه رائحةُ التحقيق.
- الثاني: أنَّه ذهب في شرْحه لكتاب «الكافي»، وفي تفسيره لسورة البقرة، وفي كتابه الكبير «الأسفار»، إلى انقطاع العذاب عن أهله في الآخِرة وأنكَرَ الخلودَ في النار، وهو خلافُ ما عُلم بضرورةٍ من الدِّين.
- الثالث: ذكر في الأسفار في بحث العشق أنَّ عشقَ الغِلْمان وصُوَر الحِسان عشقٌ مجازي، وهو قنطرةٌ إلى عشق الإله، وفيه رُوح المذهب البانتيسمي.
- الرابع: أنَّه ذهب إلى المعاد الجسماني بما لا يلائم ظاهِرَ الشريعة، ومذهبه في المعاد كمذهب الشاعر الفيلسوف «عمر الخيام» في رباعيِّه المشهور:
وُجد هذا الرباعي بخطِّه في ظهر بعض تفاسِيره، ومعناه قريب من مذهب الخيام:
ولقد أجاد الشاعر الكبير محمد السباعي بإبراز هذا المعنى الفلسفي في العربية بقوله:
وُجد هذا الرباعي بخطِّه على ظهْر تفسيره لسورة الحديد بين رباعيات كلُّها بخطِّه:
(١٨) تأثير الفلسفة الإغريقية في نفسه
منذُ ظهرَ الإنسانُ في الوجود خضَعَتْ نفسُه بقوى العالَم ماديةً كانتْ أو أدبية، وقوة التعليم من أقوى المؤثِّرات في النفس الإنسانية، ولا سيَّما إذا كانت القوة المؤثِّرة ممَّا تقْبَله النفس بفِطْرتها، أثَّرت الفلسفة الإغريقية وتعليم أرسطو وأتباعه في نفسه أثرًا عميقًا، ذكر في أول «الأسفار» إنِّي قد صرفتُ قوَّتي في سالِف الزمان منذ أول الحداثة والريَّان في الفلسفة الإلهية بمقدار ما أُوتيتُ من المقدور، وبلغ إليه قِسْطي من السَّعْي الموفور، واقتفَيْتُ آثارَ الحكماء السالِفين والفضلاء اللاحِقين متقلِّبًا في نتائج خواطرهم وأنظارهم مستفيدًا من أبكار ضمائرهم وأسرارهم، وحصَّلتُ ما وجدتُه في كتاب اليونانيين والرؤساء المعلِّمين تحصيلًا يختار اللبابَ من كلِّ باب.
وقال في بحثه عن حدوث العالم: واعلم أنَّ أساطِينَ الحكمة المعتبرة عند طائفة ثمانية؛ ثلاثة من المليين «ثالس وانكسيمانس وأغاذيمون»، ومن اليونانيين خمسة «أنباذقلس وفيثاغورث وسقراط وأفلاطون وأرسطو»، قدَّس الله نفوسَهم، وأشرَكَنا اللهُ في صالِح دعائِهم وبرَكَتِهم، فلقد أشرَقَتْ أنوار الحكمة في العالَم بسبَبِهم، وانتشَرَتِ العلوم الربوبية في القلوب بسَعْيِهم، وكلُّ هؤلاء كانوا حكماء زُهَّادًا عُبَّادًا متألِّهين مُعْرِضين عن الدنيا مُقْبِلين على الآخِرة، فهؤلاء يُسمَّوْن بالحكمة المطلقة، ثمَّ لم يُسَمَّ أحدٌ بعد هؤلاء حكيمًا، بل كلُّ واحد منهم يُنسَب إلى صناعةٍ كبُقْراط الطبيب وغيره.
(١٩) منابع أفكار صدْر الدِّين وفلسفته
نَجِد فلسفةَ صدْر الدِّين تستمدُّ من منابع كثيرة؛ أهمُّها آراء اليونانيين، ولا سيَّما آراء أرسطو، وتلميذه ابن سينا، وأفكار مُحيي الدِّين بن عربي الصُّوفي، وتعاليم الدِّين الإسلامي المستخرَجة من القرآن الحكيم والسُّنَّة النبوية، فجديرٌ أن نُشِير إلى هذه المنابِع الأربعة على سبيل الإيجاز ليعلم وجهة فلسفته:
آراء أرسطو
فهي آراء وأفكار نراها في كتبه الواصِلة إلينا، بواسطة نَقَلَة العصر العباسي الزَّاهر، وفي كُتب اليونان والعرب، أهمُّها إثبات الحركة الطَّبيعيَّة الأزليَّة، وإثبات احتياج المُتحرِّك بمحرِّك يتحرَّك بمحرِّكٍ آخَر، حتى ينتَهِيَ إلى مُتحرِّكٍ لا يتحرَّك بآخَر، فهو جوهرٌ وفعلٌ معًا، فهذا المحرِّك الثَّابت هو الله مصدَرُ الحركة الأبدية التي تتحرَّك بعلةٍ غائية؛ أي بطريق الجذْب نحو العقْل الأعظم والشَّوق إليه، كما يستَمِيلنا الخير، ويستَهْوِينا الشَّيءُ الجميل بدون دَخْل لهما في ذلك، وعلى هذا المثال ينجذِبُ عالَمَا الأرواح والأجسام نحو الله بدافع ذاتي.
وهو يَرَى أنَّ المادة قديمة، وأنَّ المُحرِّك الأوَّل، أي الله، لم يَخْلُقِ المادة، بل نظَّمَها، وأنَّ الله جوهرٌ رُوحانيٌّ يتجلَّى فيه العقل والحياة بأتمِّ مظاهِرِهما، ويتمتَّع أبدًا بالسَّعادة الكامِلة، ولانْهِماكِهِ بمشاهَدة ذاتِه لا يَلْتَفِتُ إلى العالَم.
آراء ابن سينا
فهي على ما يَظهَر لنا آراء فلاسفة اليونان وأفكار أرسطو وتعاليم مدرسة «أمينوس سكتاس» التي يُسمِّيها العرب بمدرسة الإسكندرانيين وتعاليم تلميذه «أفلوطين» الذي يسمِّيه الشَّهرستاني بالشَّيخ اليوناني، وهو منظِّم مذهب أستاذه، وكان من آراء هذا الفيلسوف اليُونَانِي فيما وراء الطبيعة «متافيزكا» أنَّ هذا العالَم كثير الظواهر دائم التَّغيُّر، وهو لم يوجَد بنفسِه، بل لا بدَّ لوجوده من علَّةٍ سابِقةٍ عليه هِيَ السَّبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالَم واحدٌ غير مُتعدِّد لا تُدْرِكه العقول، ولا تصل إلى كُنْهِه الأفكار، ولا يحدُّه حد، وهو أزليٌّ قائمٌ بنفسِه فوق المادة، وفوق الرُّوح، وفوق العالَم الرُّوحاني خلقَ الخلق، ولم يحلَّ فيما خلق، بل ظلَّ قائِمًا بنفسِه مُسيطرًا على خلْقِه ليس ذاتًا وليس صفة، هو الإرادة المطلقة، لا يخرج شيء عن إرادته هو علة العِلَل، ولا علة له، وهو في كلِّ مكان ولا مكان له، وبحث أنَّه كيف نشأ عنه العالَم، وكيف صدَرَ هذا العالَم المُركب المتغيِّر من البسيط الذي لا يلحقه تغيُّر، كان هذا العالَم غير موجود، ثمَّ وُجد كيف، يصدر هذا العالم الفاني من الله غير الفاني؟! هل صدر هذا العالَم من الصَّانع عن رَوِيَّة وتفكير؟ أو مِن غير رَوِيَّة؟ ولِمَ وُجد الشَّر في العالم؟ ما النَّفس؟ وأين كانتْ قبل حلولها بالبدن؟ وأين تكون بعد فراقه؟
وهذه المسائل وأشباهها التي بحث عنها أفلوطين هي مباحث شغلتْ حيِّزًا من أفكار ابن سينا، بعد أن وَرِثَها من المعتزلة والصُّوفيَّة وجمعية إخوان الصفا، كما هي المسائل التي دَرَسها صَدْر الدِّين وزيَّنها للنَّاظِرين في القرن الحادي عشر، وكانت الشَّرائع السَّماوية والقوانين الأدبية تشغل مكانًا فَسيحًا في مبادئ ابن سينا، وإليك نص قوله في النُّبوَّة يقول:
يوجد رجال ذوو طبيعة طاهِرة اكتسبتْ نفوسهم بالطُّهْر، وبتعلُّقها بقوانين العالَم العقلي؛ لذا هم ينالون الإلهام، ويُوحي إليهم العقلُ المؤثِّر في سائر الشئون، ويوجد غيرهم لا حاجة لهم إلى الدَّرس للاتِّصال بالعقل المؤثِّر؛ لأنَّهم يعلمون كلَّ شيء بدون واسطة، هؤلاء هم أصحاب العَقل المُقدَّس، وهذا العقل لَمِن السُّموِّ بحيث لا يُمكن لكل البشر أن ينالَهم منه نصيب، وهذا القول صريح في أنَّه يقصد بأصحاب العقل المقدَّس الأنبياء الذين يَحْظَوْن بالوحي الربَّاني، كما أنَّه اعترافٌ منه بأصل كبير من أصول الأديان، وهذه النزعة الدِّينية أثَّرتْ في نفس صَدْر الدِّين، وصرَّح في كثير من كتبه بمثل هذا الرَّأي الفَلْسفي الدِّيني؛ وبذلك نعلم أنَّ ابن سينا بعيدٌ عمَّا نسبه إليه «الكونت دو غوبينو» في كتابه المذاهب والفلسفة في آسيا الوسطى بقوله: إنَّ ابن سينا نهض بل خرج على ما كان يعلِّمه الدِّين منذ أربعمائة سنة، وإنَّه هدم من الإسلام ومن معتقده جانبًا عظيمًا، نعم إنَّه كان ذا نُفوذ كبير على أفكار الملوك والأمراء، فجَهَر بآرائه الفلسفية بِحُريَّةٍ تَامَّة، لكنَّه احترم في جنبها الدِّين الإسلامي، وكان حقًّا معلِّمًا كبيرًا للفلسفة في إيران إلى قدوم جنكيز خان المغولي.
أفكار محيي الدين بن عربي
أكثر أفكار هذا الإمام الصُّوفي، اختفتْ علينا وراء حجاب من الرُّموز والألغاز، فما عرفناه من أفكاره، وحصل لنا اليقين به هو أنَّه كان ممَّن يعتَقِد بوحدة الوجود، حتى قال: إنَّه كفَّر النَّصارى ليس بقولهم إنَّ المسيح هو الله، بل كفَّرهم بقولهم إنَّه ابن الله، وكأنَّه كان يؤمن بنظريات آشور الحلولية، على أنَّ له آراء في الأخلاق الفاضِلة، والتي سلك سبيلها الصُّوفيون كالحب والسُّكْر والتَّوبة والمجاهَدة والخلوة والتَّقوى ومقامَي الخوف والرجاء ومقام الفِكر والذِّكر وأسرارهما وله بحث في النُّبوة وأسرارها.
وكان مُحيي الدِّين يُعَدُّ من قادة التصوُّف وحاملي لوائه، ومعلِّميه في إيران كابن سينا إلى زمن جنكيزخان المغولي يُبَجِّله صدر الدِّين غاية التبجيل، ويقرن اسمه بكلمات التجليل؛ كالعالِم الربَّاني، والعارف الكامِل، وأشباهها، واقتبس صَدْر الدِّين آراءه، وأوْرَدَها ضمْنَ الكلمات الفلسفية.
الدين الإسلامي
أمَّا الدِّين الإسلامي فالقرآن بأصوله العالية، وسُنَنِه السامِية «مرآة» تعالِيم هذا الدِّين الجلي، آخَى بين العلم والدِّين، وأرْشَد إلى توحيد الحق المهيمن وتنزيهه عن كل نقص وشرك، وأعلن باسم الله، وأعلاه في وسط كان تُعبد الأوثان ورفض كلَّ باطل وحطَّم كل وثن وصنم. وهو النور الذي أَلْقَى أشعَّتَه البيضاء في مدة يسيرة بين الأندلس والهند، ولا زال سراجًا يُضيء العالَم في قرون طويلة، ولكنَّ النِّزاع في الخلافة في الصَّدْرِ الأوَّل الذي امتدَّ إلى القرون المُتأخِّرة من ناحية، وتشابُه بعض آيات القرآن الذي دعا المُفكرين إلى النَّظر فيها من ناحية أخرى كانا من الأسباب التي أوجدت الفِرَق وأحدثتِ الجدل.
فظهر هذا الدِّين بمظهرٍ غير مظهَرِه الذي تَجَلَّى به في الصَّدر الأوَّل؛ ظهر مُنحرفًا عن أصله السَّامي، فبهذه الصُّورة تلقَّاه صَدْر الدِّين.
(٢٠) وقوف حركة الفلسفة في إيران
كانتِ لفلسفة ابن سينا حركة قويَّة في إيران إلى أن هجم المغول في القرن السَّابع الهجري، فوقَفَتْ هذه الحركة؛ لأنَّ الغُزاة كانوا يرمون إلى التَّرتيب السِّياسِي وتنظيمه، ولم يكن لهم اهتمام بالفلسفة؛ لأنَّ غاية هؤلاء الفاتحين كانتْ أن يُنْشئوا نظامًا مَدنيًّا قويًّا بكل ما يُمكن من الوسائل، ولَمَّا صَبَئُوا إلى الإسلام، رأَوْا من المعقول أن يُسْنِدوا كلَّ الإسناد هذا الدِّين، فلم يوافِقوا على نشر فلسفة ابن سينا ومَن قال بمذهبه، وإنْ هم اهتمُّوا بنشر الفنون والصَّنائِع.
(٢١) ظهور الدولة الصَّفوية
قلنا فيما سبق إنَّ الحركة الفلسفية وقفتْ حينما هجم المغول؛ لأنَّ كبير اهتمامهم كان بنشر الفنون والصَّنائع، وقليلًا كانوا يعتنون بالعلم والأدب.
وسارتِ الأمور هذا السَّير إلى أَنْ تَسنَّم أولُ الصَّفَويين غاربَ العَرْش، وكان صُوفيًّا بحتًا، ولكنَّه لَمَّا رأى الشيعيَّة مذهبًا خاصًّا بالبلاد الفارسية أُولِع بها هو وخلفاؤه ولعًا يدلُّ على ذكاء، فإنَّهم روَّجوا نموَّها وتبسطها بكل ما أُوتوا من السَّطوة والسَّلطنة، ولم يُعْنَ بفلسفة ابن سينا.
ولكنَّ الفلسفة كانتْ تتحرَّك وتُبْدِي إشارات الحياة؛ لأنَّ إرجاع المسبِّبات إلى أسبابها والفحص عن عِلَلها ممَّا يطلبه الطَّبع البشري.
(٢٢) طريقة التدريس في آسيا
ولَمَّا كان الدَّرس في العلوم العالية في آسيا تُتَلَقَّى مُشافَهة، وكان الفلاسفة القائلون بمذهب ابن سينا مُتفرِّقين، وهم نفر قليل كثيرو الخوف أمام علماء الدِّين، اضطُرَّ صَدْر الدِّين أن يَخْتَلِيَ عدةَ سنين في جبال «قُم» متنقِّلًا في رحلاته في فارس، لاقطًا من أفواه الحكماء جميع الشروح التي نشأتْ من نفوس أصحابها بعد الخبرة والثِّقة بنفوسهم، وبدأ بنفسه يُعلِّم في المدن التي يمرُّ بها، ولَمَّا لم يكن له مُنافِسون من جهة الفصاحة، ولا مِن جهة التَّأنُّق في العبارة ولا من جهة سهولة التَّعبير كان سامعوه يفرحون بما يُلْقِيه عليهم ويقتنونه بكل حرص، وكانوا كثيرين ثُمَّ كان ينتقي منهم تلاميذ ذوي فضل ممتاز.
(٢٣) خوفه من رجال الدين
وكان صَدْر الدِّين نفسه أيضًا يخاف رجال الدِّين المتمسِّكين بالظواهر؛ ولهذا كان يسعى جهدَه ألَّا يُثير في نفوسِهم كامِنَ الرِّيبة، فكان موضوع بحوثه أمورًا مكنية يُثْبِتها بالأدلة الصَّريحة، ولو لم يفعل ذلك لعرَّض نفسه لشكاياتهم، وتشديدهم عليه تشديدات لا نهاية لها، فيخاطر بالعمل عينه بمستقبل إصلاح الفلسفة الذي كان يُفكر به، فوَفَّق بين فكره وبين مُقتضيات الأحوال، ولجأ إلى الوسيلة العُظمى وسيلة التَّقيَّة والكتمان.
وكان إذا هبط مدينةً يحرص على زيارة مجتَهِديها أو علمائها، ويجلس في آخِر النَّاس وكان يُطيل السُّكوت، وإذا تكلَّم نطق بكلِّ هدوءٍ وسكينةٍ مُستحسِنًا كلَّ كلمة تخرج من أفواه أولئك الأجِلَّة، وكان إذا سُئل عن معارِفه لا ينطق إلا بالآراء المدوَّنة في أسفار المذهب الشِّيعي المحض، ولا يُشِير أبدًا إلى أنَّه يُعنَى بالفلسفة، وبعد أيام قليلة من رؤية المجتهدين والعلماء كانوا يَدْعُونه بأنفسِهم إلى أن يدرِّس تدريسًا علنيًّا، وللحال كان يُلبِّي دعوتهم.
(٢٤) طريقه في نشر فلسفته
وكان يجعل عنوان درسه من أبواب الفقه أوَّلًا، ثمَّ يزيد المسألة تدقيقًا في وجوب اتِّباع الأوامر والنواهي والفرائض على ما يفعله أمْهَر العلماء في نظرياتهم، فكان هذا العمل يُحبِّبه في قلوب العلماء ويزيده اعتبارًا، وإذا كان يبحث في باب الوضوء أو الصلاة كان ينتقل منها إلى أسرارها، ومنها إلى نواميس الوَحْي، ومنها إلى التَّوحيد، وكان هناك يَجِدُ مجالًا لإظهار آرائه الفلسفيَّة، وإبراز شخصيته الكبيرة بآيات من الحَذْق والمهارة والاستدراك، وكشف الأسرار للتَّلاميذ المتقدِّمين.
وكان في إلقاء دروسه يسرد عبارات ذات معنيين، راقية تتراءى بوجهين، لا يفهمها من تلاميذه إلا الذين رسختْ أقدامُهم في الاستنتاج، ثمَّ يُغطِّي كل هذه الأقوال بغشاءٍ رقيق من العبارات الدِّينية التي تؤيِّد دِينَه وتُظهِر احترامَه لمبادئ الدِّين.
(٢٥) بثُّه فلسفةَ ابن سينا
وكان ينشر مذهب ابن سينا في الطَّبقة المنورة كلها، وإذا كان يحرص على إخفاء مذهبه في كلامه، فكان إخفاؤه له فيما يكتبه أقوى وأعظم، والوقوف على حقيقة مذهبه الفلسفي صعب إلا لِمَن اتَّصل سند درسه إلى تلامذته الذين تلقَّوْه عن نفسه، ولِمَن وقفَ على اصطلاحاته الفلسفيَّة وسندُ آرائِه غير مقطوع في هذا العصر، ولكن قلَّ عدد تلامذته اليوم، وكان في عصر ناصر الدِّين شاه القاجار جماعة من كبار تلامذته، أي الذين كانوا ينقلون جيلًا بعد جيل عن معلِّمهم الأكبر من أمر فِكره، وبأيديهم مقاليد العبارات التي كان يتخذها لكي لا يُعبِّر عن أفكاره صريحًا.
(٢٦) شخصيته الفلسفية
يقول «الكونت دو غوبينو» إنَّ صَدْر الدِّين لم يكن منشئ فلسفة جديدة، بل هو أعاد إلى فلسفة ابن سينا ضَرَمَها وأضاءَها في مصباح جديد، والحقُّ أنَّه أظهر شخصيته من ناحية مذهبه الفلسفي، وأتى برأي جديد مُستقِلٍّ في بعض مسائل فلسفية، وخالَفَ ابنَ سينا في مسائل جمَّة، وسنُشِير إلى بعضها ضمن هذه الرسالة، ولا شكَّ أنه كان مُصْلِحًا للفلسفة الآسيوية، وهو الذي ألْبَسَها ثوبًا يقبله كلُّ مَن ينظر إليها فقَبِلَها من كان في عهده وأُعْجِب بنظرياته العارفون.
ولا غَرْو، فإنَّه عاش في عهْدٍ غير عهْدِ ابن سينا وفي وسَط غير وسَطه.
بدرسنا شخصية هذا الفيلسوف نراه أنَّه أخلد أثر العلم؛ إذْ نفخ في رميم مذهب ابن سينا، وأعاد إليه شبابَه في العصر الذي عاش فيه، وألْبَسَه حُلَّةً مكنَتْه من أن ينتشر في جميع مدارس إيران، واستطاع أن يُفْسِح لمذهبه الفلسفي موطنًا بجانب تعاليم الدِّين، ولولا خدمتُه العلميَّة لكان نجم الفلسفة يغرب وراء ظلمات الغزوات المغولية، وعشَّاق الفلسفة مَدِينون لهذا الفيلسوف الكبير، وحقًّا يُعَدُّ معلِّمًا كبيرًا للفلسفة في إيران بعد ابن سينا إلى الآن.
(٢٧) مذهبه في أزليَّة العالم المادي وحدوثه
افترق الدِّين والفلسفة في مسألة قِدَم العالَم وحدوثه؛ فبالضرورة ينتهي البحث إلى أزلية «المادة وحدوثها» قِدَمًا زمانيًّا يصرِّح الدِّين بظاهِرِه بالحدوث، وأنَّ يدَ الباري أبدَعَتِ المادة من العَدَم؛ والفلسفةُ تجهَرُ بالقِدَم.
وقف صدرُ الدِّين أمام هذه المسألة العويصة وقوفَ المتحيِّر، ورأى نفسَه بين تجاذُبِ قوَّتَيِ الدِّين والفلسفة.
يقول في أول رسالته في الحدوث: (١) هذه المسألة تحيَّرتْ فيها أفهام الفحول لغموضها، والناس فيها بين مقلِّد كالحَيَارَى ومجادِل كالسُّكارى، فمِن المدقِّقين مَن اعترفَ بالعجز عن إثبات الحدوث للعالَم بالبرهان، قائلًا إنَّ العمدة في ذلك الحديث والإجماع من الملِّيِّين؛ إذِ الأول قد يحصل بالتقليد أو الجدل، وهما مناط الظن والتخمين، والثاني لكونه بصيرةً باطنيةً لا يحصل إلا بالبرهان المنوِّر للعقول التابع للوصول. (٢) وزيَّف آراء المتكلِّمين التي تمسَّكوا بها في حدوث المادة. وقال: فمنهم مَن يتصدَّى لإثبات هذا المقصِد العظيم بالأدلة المتزلزلة والأقيسة المختلَّة كالمتكلِّمين، زعمًا منهم أنَّ تَمْهِيد أصول الدِّين ممَّا يحتاج إلى تلك الكلمات الواهية.
وقال: وما أحسَنَ قولَ «الغزالي» في حقِّ مَن تصدَّى لنصرة قوام الدِّين بالأمور السخيفة أنَّه صديقٌ جاهل! وقال أيضًا إنَّ إيراد مثْلِها في معرض الانتصار للشَّرْع القويم ربما يؤدِّي إلى خَلَلٍ عظيم من حيث إنَّ صغار العقول ربما يزعمون أنَّ أصول الدِّين مبنيَّة على هذه الدعاوي الواهية، هذا كما أنَّ بعض المحدِّثين نقلَ أنَّ بعض الزنادقة وضَعَ الأحاديثَ في فضْل الباذنجان، منها: «كلوا الباذنجان؛ فإنها أول شجرة آمنتْ بالله تعالى.»
وقال: إنَّما وضعَه ليتوسَّل به إلى القدْح في صِدْق النبي ﷺ الذي شهد الله — تعالى — بصِدْقِه، وهو نفسُه لم يستَطِعْ أن يُخطِّئَ مبادئَ الدِّين القائلة بالحدوث لقوة إيمانه بالأنبياء وقبول أصول تعالِيمهم قبولًا فلسفيًّا.
وفنَّد رأيَ أبي نصر الفارابي المدوَّن في رسالته في الجمع بين رأيِ الحكيمين أفلاطون وأرسطو بتأويله مذهب أفلاطون في الحدوث بالحدوث الذاتي والافتقار إلى الصانع.
وقال: هذا القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء من حيث لا يدري. وقال إنَّ النصوص المأثورة عن أفلاطون تعطي أنَّه يُريد بالحدوث الحدوث الزماني لا الحدوث الذاتي. وقال: وهذا من قصور أبي نصر في البلوغ إلى شأْو الأقدَمِين.
ونقل عن أفلاطون في كتابه المعروف ﺑ «فاذا» وفي كتابه المعروف ﺑ «طيماوس» كما حكى عنه تلامذته ﮐ «أرسطو» و«طيماوس» و«شافرطوس» و«أبرقلس» أنَّه قال إنَّ للعالَم مُبْدِئًا مُحْدِثًا أزليًّا واجبًا بذاته عالِمًا بجميع معلوماته على لغة (أو نعت؟) الأسباب الكلية كان في الأزل، ولم يكن في الوجود رسم ولا ظل (أو طلل؟) إلا تمثال عن الباري جلَّ اسمُه، ربما يُعبَّر عنه بالعنصر الأول. ووجَّه أيضًا رأي أرسطو بأنَّه يُرِيد من الحدوث الحدوث الزماني، ورأى أنَّ العلم لا يُصدِّق حدوثَها من العَدَم المحض، وفَكر فِكرًا عميقًا ليحلَّ المعضِلة، ولَمَّا انتهى فِكرُه إلى نقطةٍ وجدَ فيها سبيلَه للتخلُّص من ظُلْمة هذا الشك.
رأى أنَّ الوقت قد حان ليَجْهَر برأْيِه، فقال: إنَّ هذه المسألة عندي في غاية الوضوح والإنارة، لم أَجِدْ من نفسي رخصةً في كتْمانِها وعدم الإفاضة بها على مَن يستأْهِلها ويقْبَلها، وأخَذَ يَجهَر برأْيِه قائلًا إنَّ ما سوى الله حادث، ولا قديم ذاتًا وزمانًا إلا الله تعالى.
(٢٨) نظرية الحركة في الجوهر
سَلَك في أزلية المادة مَسْلَكًا وفَّق به بين الدِّين والفلسفة، وأبدى نظريةً سمَّاها «الحركة الجوهرية»، وهي نظريةٌ في غايةِ الغُموض والإبهام، تكاد تُشْبِه نظرية «أنشتين»، يعسر فهْمُها إلا بالإمعان والتدبُّر العميق في فلسفته واصطلاحه.
وهي أنَّ العالَم الماديَّ مطلقًا لا يزال في تجدُّدٍ مستمر، فالمادة بجوهرها في الآن الثاني غير المادة في الآن الأول، وهي متحرِّكة دائمًا بحركة جوهرية، وللهَيُولى والصورة في كلِّ آنٍ تجدُّدٌ مستمر.
ولتشابُه الصُّوَر في الجسم البسيط ظنَّ أن فيه صورة واحدة مستمرة، لا على التجدُّد، وليستْ كذلك، بل هي واحدةٌ بالحدِّ لا بالعد؛ لأنها متجدِّدة متعاقِبة على نعْتِ الاتصال لا بأن تكون متفاصلة متجاورة ليلزم تركيب المقادير والأزمنة من غير المنقَسِمات، وبهذه النظرية استنتج التوفيق بين الدين والفلسفة، فالدين إنما أراد مِن الحدوث تجدُّد المادة وحركتَها حركة جوهرية، وهي حادثةٌ في كلِّ آنٍ وإن لم يكن لها مبدأ زماني، وهو يُوافِق العِلم، فلا اختلاف بينهما؛ إذْ كلٌّ منهما يقول بالحدوث بهذا المعنى والمبنى؛ أي تجدُّد المادة تجدُّدًا جوهريًّا.
وكلٌّ منهما يقول بالقِدَم؛ لأنَّها لا يُتصوَّر عقلًا حدوثُها من العَدَم البحت حتى يُتصوَّر لها مبدأ زماني، وهي نتيجة عدة أصول:
فيكون في الوجود طرفان؛ «الباري» تعالى، و«الهَيُولى»، والباري تعالى وجود أكمل من جميع الجهات، فلا يحتاج إلى الخروج عمَّا كان، وفي الوجود أيضًا مرتبة وُسطى له الفعلية من جهة والقوة من أخرى، فبالضرورة يكون فيه تركيب؛ فذاته مُرَكبة من شيئين، أحدهما بالفعل والآخَر بالقوة، وله من جهة القوة أن يخرج إلى الفعل لغيره.
والطبيعة على مذهبه سيَّالة الذات متجدِّدة الحقيقة، نشأَتْ حقيقتُها المتجدِّدة بين مادة شأنها القبول والزَّوَال، وفاعل محض شأنُه الإفاضة والإكمال، فلا يزال ينبعث عن الفاعل أمرٌ وينعدم في القابل، ثمَّ يجبره الفاعل بإيراد البدل على الاتصال.
بهذه الأصول وصل إلى النتيجة التي هي مفاد نظريته، وهي أنَّ مبدأ الحركة سواء أكانتْ طبيعية أم إرادية أم قسْرية هي الطبيعة، والحركة معناها التجدُّد والانقضاء، ومبدأ التجدُّد لا بدَّ أن يكون متجدِّدًا، فالطبيعة بالضرورة متجدِّدة بحسب الذات؛ لأنَّ المتحرِّك، وهي المادة، لا يُتصوَّر صدورُه عن الساكِن، ويستحيل صدورُه عن الثابت، وقال: وبصحة هذا الأصل اعترف الرئيس ابن سينا وغيرُه بأنَّ الطبيعة من جهة الثبات ليستْ عِلةَ الحركة، وقالوا لا بدَّ من لحوق التغيُّر بها من الخارج.
والطبيعة إذا كانتْ متجدِّدة فالمادة في الآن الثاني بجوهرها غير المادة في الآن الأول. قال في آخِر الفصل الرابع من رسالة الحدوث:
ولَمَّا أبْدَى نظريَّتَه وتنبَّه أنَّه تفرَّد بها قال في الفصل الخامس من رسالة الحدوث: أمَّا قولك فيما سبق إنَّ هذا إحداثُ مذهبٍ لم يَقُلْ به أحدٌ من الحكماء فهو كذبٌ وظلم، فإنَّ أول حكيم قال به في كتابه هو الله سبحانه، وهو أصْدَق الحكماء، فإنَّه قال: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، وقال: بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ، وقوله: وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وقوله: عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ.
وتمسَّك ببعض آيات وروايات أُخَر ترَكْنا ذِكرَها لعَدَم دلالتها في نظرنا، ثمَّ نقل عن ابن عربي قوله في الفصوص: إنَّ الإنسان في الترقِّي دائمًا، وهو لا يشعر بذلك للَطافَة الحجاب ورِقَّته وتشابُه الصُّوَر، مثل قوله: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا. ونقل قوله في الباب السابع والستين والمائة من الفتوحات: فالوجود كلُّه متحرِّك على الدوام.
(٢٩) اختياره مذهبَ التصوُّف ووحدة الوجود
هذا الفيلسوف إلهي يدور أكثر مباحثه حول التفكر في الإله المبدِع ووحدته وصفاته المعنوية من العلم والحكمة والقدرة، أو إنْ شئتَ قل بحَثَ عن القوة المدبرة للكون، وفلسفته تستَقِي من مَعِين التصوف، ووحدة الوجود، معتمدة على المبادئ الإغريقية، وروح فلسفة أفلاطون وأرسطو، بادية بأجْلَى مظاهِرها فيها، ويلوح للناظر في كلماته أنَّه إبَّان درسه الفلسفة خاض مدةً مديدة لُجَج المسائل اللاهوتية ووازَنَ حُجَج الفلاسِفة من الإشراقيين والمشائين، ودرس أصول المتكلِّمين وأصحاب الجدل، وعرف أنها جميعًا لا توصل إلى الحق ولا تَرْوِي غليله لأنها معكَّرة بتناقض المبادئ.
وكيف تسكُن نفسُ رجلٍ زكيِّ الفؤاد وقَّاد الذِّهْن بما لا يُنِير ظلمةَ المعضِلات في المسائل اللاهوتية العويصة، وهي تحاول أن تبلغ مرتبةَ الشهود والعيان من مراتب الإيمان، وبعد مدةٍ طويلة لَمَّا لم يجد ضالَّتَه في درس أدلة الجدليين الذين يقول في شأن فلسفتهم إنِّي أستغفر الله وأستعيذ عمَّا ضيَّعتُ شطرًا من عُمْري في طريقِهم غير المستقِيم، لاذ بحِجْر التصوُّف، وهناك وجد سكونَه واطمئنانَه، وأخذَ يَسْعَى في التوفيق بينَه وبين الشريعة بتأويل نصوصِها وتوجيهها إليه.
جَرَتْ عادةُ الباحِثين في المسائل اللاهوتية إلا الصوفيين أن يَضَعوا بابًا في البحث عن الموجِد للكون، ويذكروا فيها أدلةً يُستَمَدُّ بعضُها من إبْطال التسلسُل أو الدَّوْر لزعمهم أنَّ المبدِع الحكيم (أي القوة المدبِّرة) منفصلٌ عن الكون، ولكن الصوفيين يَرَوْن أنَّ الوجود المنبسِط الذي يمثِّل الكونَ بمحسوسه ومعقوله كافٍ للدلالة على وجود الموجِد وصفاته؛ لأنَّه عَيْنُه، وفي كلِّ شيءٍ آيةٌ دالة على وحدته، ومذهب وحدة الوجود «البانتيسم»: الله في الكل، والكل في الله. هو سِرُّ التصوُّف ورُوحُه، ولأجل ذلك لا يتمسَّكون بأدلة الكلاميين والجدليين وفِرَق الفلاسفة الذين تقرب فلسفتهم من مباديهم، ولا يستدلُّون بوجود القوة المدبِّرة المبدِعة بأكثر من بحثهم في شئون الوجود المنبسِط ومراتبه وظهوره.
وصدرُ الدين وإنْ أفاضَ في البحث عن كلِّ المباحث اللاهوتية، وأكثر مباحث الفلسفة الأدبية والفلسفة العامة، وتبحَّر فيها، إلا أنَّ غرضَنا الذي نرمي إليه هو أن نأتي من فلسفته بنقطتَيِ الوِفاق والخلاف مع الفلسفة المادية؛ وهي مسائل طالَمَا سرَّح الإنسان أفكاره حولها، كمسألة هل المادة أزلية أم حادثة؟ وهل للكون مُبْدِعٌ غير الطَّبْع؟ وهل هو شاعر عالِم؟ وهل في خلق الكون غايةٌ وحكمةٌ أو لا؟ ثمَّ نُرْدفها ببعض آرائه العلمية والأدبية، وبذلك نصوِّر نفسيةَ رجلٍ حكيمٍ خدَمَ اللغة العربية والعلم خدمة جليلة.
(٣٠) طريقُه إلى معرفة الله تعالى
يقول في الجزء الثالث من الأسفار الأربعة: «فصل» في إثبات واجب الوجود والوصول إلى معرفة ذاته: واعْلَمْ أنَّ الطُّرُق إلى الله كثيرة؛ لأنَّه ذو فضائل وجهات كثيرة، ولكلٍّ وجهةٌ هو مُوَلِّيها، لكنَّ بعضَها أوْثَقُ وأشْرَفُ وأنْوَر من بعض، وأسَدُّ البراهين وأشرَفُها إليه هو الذي لا يكون الوسَط في البرهان غيره بالحقيقة، فيكون الطريق إلى المقصود هو عين المقصود، وهذه سبيل الصِّدِّيقين الذين يستشهدون به — تعالى — عليه، ثمَّ يستشهدون بذاته على صفاته، وبصفاته على أفعاله واحدًا بعد واحد، وغير هؤلاء كالمتكلِّمين والطبيعيين وغيرهم يتوسَّلون إلى معرفة الله — تعالى — وصفاته بواسطة أمر آخَر غيره، كالإمكان للماهية، والحدوث للخلق، والحركة للجسم، أو غير ذلك، وهي أيضًا دلائل على ذاتِه وشواهد على صفاته، لكنَّ هذا المنهج أحكمُ وأشرف، وقد أُشير في الكتاب الإلهي إلى تلك الطُّرُق بقوله تعالى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ، وإلى هذه الطريقة أشار بقوله: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
وذلك لأنَّ الربَّانيِّين ينظرون إلى الوجود ويحقِّقونه، ويعلمون أنَّه أصلُ كلِّ شيء، ثمَّ يَصِلون بالنَّظَر إليه إلى أنَّه يحسب أصلَ حقيقته واجب الوجود. وأمَّا الإمكان والحاجة والمعلولية وغير ذلك، فإنَّه يلحقه؛ لا لأجْل حقيقته، بل لأجل نقائضَ وأعْدامٍ خارجةٍ عن أصْل حقيقته، ثمَّ بالنظر فيما يلزم الوجوب أو الإمكان يَصِلون إلى توحيد ذاته وصفاته، ومِن صفاته إلى كيفية أفعاله وآثاره، وهذه طريقة الأنبياء، كما في قوله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ.
وهذا المذهب يُشْبِه مذهبَ «باسكال» المُتَوَفَّى سنة ١٦٦٢م: أرى في الطبيعة كائنًا واجِبَ الوجود دائمًا لا نهائيًّا.
وقال في أول رسالته في سريان الوجود:
اعلم أنَّ الواجب الحق هو المتفرِّد بالوجود الحقيقي، وهو عَيْنُه وغيره من الممكِنات الموجودة بالانتساب إليه والارتباط به ارتباطًا خاصًّا وانتسابًا مخصوصًا، لا بعروض الوجود كما هو المشهور.
ثمَّ قال: إنَّ الوجود قد يُطلق ويُراد به الكون في الأعيان، ولا شك في كونه أمرًا اعتباريًّا انتزاعيًّا، وقد يُطلق ويُراد به ما هو منشأ لانتزاع الكون في الأعيان ومصحح صدْقه وحمله، وهو بهذا المعنى عين الواجب.
وقال بعد بضعة سطور: إنَّ مناط الوجوب الذاتي ليس إلا كون نفس الواجب من حيث هي مبدأ لانتزاع الوجود والموجودية.
من الأصول المقرَّرة في الفلسفة الإلهية التي وضع عليها بعض الآراء الفلسفية واعترف بها صدْرُ الدِّين فيما يَظهَر من كلماته السالِفة أنَّ الوجود أمرٌ واحدٌ ذو مراتب في الشدة والضعف، وله وحدة معنوية.
ومنها أنَّ الوجود الحقيقيَّ الذي صحَّ أن يكون منشأً لانتِزاع الموجودات عنه، والذي هو مصْدرُ الكون أو هو كالشمس منبع الأنوار أزليٌّ موجودٌ قائمٌ بالذات لا جاعِلَ له، ومنها أنَّ مفهوم الوجود مِن أعْرَف الأشياء، وكُنْهُه في غاية الخفاء، فإنَّا نرى ذرة المادة ونحسُّها بالبصر ونلمسها باليد، ولكنِ اسألْ أيَّ إنسان تشاء من العلماء الطبيعيين (أي الفيزيولجيين) ما هي؟ وكيف وُجدَت؟ أأزلية أم حادثة؟ وما هو سِرُّها؟ يَقِف أمامَك والحيرةُ مَلَكَتْ عقلَه، ولا يدري ماذا يُجِيبك، ولا تَنفَعُه اختباراتُه الكيمية والفيزيكية.
وهذا الرأيُ قريبٌ من مذهب القائِلين بأنَّ الطبيعة هي مُوجِدة الكون أزلًا، ونقطة الوفاق بين المذهبين؛ مذهب وحدة الوجود أو الصوفيين ومذهب الطبيعيين هي ما أشَرْنا إليه، إلا أنَّ مذهب الصوفيين وأنصار وحدة الوجود كما سيَذْكُره صدرُ الدين ونُشِير إليه يُفارِق مذهب الطبيعيين في أنَّ هذه القوة المُوجِدة التي يُطْلِقون عليها الوجود الحقيقي أو الواجب الوجود واجِدةٌ لجميع مَراتِبِ الكمال المعقول، ولا يشذُّ عنها كمال في الوجود، فلها العلم والقدرة بأقصى مراتِبهما، فعِلْمُه وقُدْرتُه غير متناهِيَيْن عدة وشدة ومدة، وصدْرُ الدين والصوفيون وأنصار وحدة الوجود لا يقولون بانفصال المبدأ «الله» عن الكون، كما أنَّهم لا يقولون بالحلول والاتحاد، بل يقولون إنَّ ارتباط الكون بالله — تعالى — وانتسابه كيفية مجهولة. قال صدر الدين في أول رسالته «سريان الوجود» ما هذا نصه: ثمَّ اعلم أنَّ ذلك الارتباط كما مرَّ ليس بالحالِّيَّة ولا بالمحلِّيَّة، بل هي نسبة خاصة وتعلُّق مخصوص، يُشْبِه نسبة المعروض إلى العارض بوجْهٍ من الوجوه، وليس هي بعينه كما توهم، والحق أنَّ حقيقة تلك النسبة والارتباط وكيفيتها مجهولة لا تُعرف. ا.ﻫ.
وهذا مذهب «مالبرانش»:
قال في الكتاب الثالث من تألِيفِه المُسَمَّى ﺑ «البحث عن الحقيقة»: إنَّ جميع الكائنات حتى المادية والدنيوية هي في «الله»، إلا أنَّها بطريقة رُوحانية محضة لا نستطيع فهْمها، يَرَى اللهَ في داخِل ذاتِ نفْسِه كل الكائنات (ص٧١) محاضرات العالم «دي جلارزا» الأستاذ في الجامعة المصرية، وأيَّد صدرُ الدين مذهبَه بقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ، وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، أَلَّا إِنَّه بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ، وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى، وَهُوَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ. وهذا الفيلسوف لا يَرْضَى أن تُحمَل هذه الآيات على مجرَّدِ عِلْمه تعالى، وقال: ولا تُصرف هذه الآيات عن ظواهرها، فحَمْلُها على مجرَّد عِلْمه — تعالى — بها أو غيرها كما هو شيمة الظاهريين.
فإنَّ الصَّرْف عن الظواهر من غير داعٍ إليه من عقلٍ أو نقلٍ غير جائزٍ أصلًا، ولا داعيَ هناك قطعًا، ولا مانِعَ من الحمل على الظواهر على ما عرَّفْناك، فاعتَرِف.
وقال صدر الدين أيضًا: الأقرب في تقريب تلك النسبة، أعني إحاطتَه ومعيَّتَه بالموجودات ما قال بعضهم من أنَّ مَن عرف معيَّةَ الرُّوح وإحاطَتَها بالبدن مع تجرُّدِها وتنزُّهِها عن الدخول فيه والخروج عنه واتصالها بها وانفصالها عنه عَرَف بوجْهٍ ما كيفية إحاطتِه — تعالى — ومعيته بالموجودات من غير حلولٍ واتحاد، ولا دخولٍ واتصال، ولا خروج وانفصال، وإن كان التفاوت في ذلك كثيرًا، بل لا يتناهَى؛ ولهذا قال مَن عرَفَ نفسَه فقد عَرَف ربَّه، وللتنبيه على هذا المعنى قال بعض المشايخ شعرًا:
أي الله رُوح العالَم، والعالَم كجِسْمه، والأملاك حواسُّ هذا الجسم اللطيفة، والأفلاك والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة أعضاء هذا الجسد، وهذا هو التوحيد حقًّا، وغيره لا يتجاوَزُ كونَه فنًّا من الفنون. ثمَّ يقول: ولا يتوهَّم مِن ظاهِر هذا الكلام أنَّ الواجب الحق رُوح العالَم ونفسُه كما توهَّم بعض القاصرين، تعالى عن ذلك عُلوًّا كبيرًا؛ فإنَّ ذلك على ما حُقِّق في موضِعه ممتنع، بل غرضُه تقريبُ كيفية إحاطتِه — تعالى — بالموجودات من بعض الوجوه إلى الأذهان السليمة المستقيمة.
(٣١) إحاطة الوجود وسعته
وذهب إلى سَعةٍ في وجود الواجب (أي الله) وإحاطة معنوية تامَّة تشمل الكون بأجمعه، ولا يشذُّ عنه شيء، وهذا الرأي يُوضِّح مذهب صدر الدِّين في القوة المبدِعة، أي «الله»، كما أنَّه يوضِّح معنى وحدة الوجود.
قال في كتابه «شواهد الربوبية»: الإشراق العاشِر في أنَّه — جلَّ اسمُه — كلُّ الوجود، قول إجمالي: كل بسيط الحقيقة من جميع الوجوه، فهو بوحدته كلُّ الأشياء، وإلا لكان ذاته متحصل القوام من هوية أمر ولا هوية أمر ولو في العقل. «قول تفصيلي»: إذا قلنا لإنسان يسلب عنه الفرس أو الفرسية فليس هو من حيث هو إنسان لا فرس وإلا لزم من تعقله تعقل ذلك السلب؛ إذ ليس سلبًا بحتًا، بل هو سلب نحو من الوجود، فكل مصداق لإيجاب سلب المحمول عنه لا يكون إلا مُركبًا، فإنَّ لك أن تُحضِر في الذهن صورتَه، وصورةَ ذلك المحمول مواطأةً أو اشتقاقًا، فتُقايِس بينَهما وتسلب أحدَهما عن الآخَر، فما به الشيء هو هو غير ما به يصدق عليه أنَّه ليس هو، فإذا قلت زيدٌ ليس بكاتب فلا يكون صورة زيد بما هي صورة زيد ليس بكاتب، وإلا لكان زيدٌ من حيث هو زيدٌ عدمًا بحتًا، بل لا بدَّ وأن يكون موضوع هذه القضية مُرَكبًا من صورة زيد وأمرٍ آخَر به يكون مسلوبًا عنه الكتابة من قوة أو استعداد. فإنَّ الفعل المطلق لا يكون هو بعَيْنه من حيث هو بالفعل عدم فعل آخَر، إلا أن يكون فيه تركيب من فعل وقوة، ولو في العقل بحسب تحليله إلى ماهيَّة ووجود وإمكان ووجوب واجب الوجود، لَمَّا كان مجرَّد الوجود القائم بذاته من غير شائبة كثيرة أصلًا، فلا يسلب عنه شيء من الأشياء لأنَّه تمامها، وتمام الشيء أحقُّ به وأوكد له من نفسه، وإليه الإشارة في قوله تعالى: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى، وقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ، فهو رابع الثلاثة وخامس الأربعة وسادس الخمسة؛ لأنَّه بوحدانية كل الأشياء وليس هو شيئًا من الأشياء؛ لأنَّ وحدته ليستْ عددية من جنس وحدات الموجودات حتى يحصل من تكرُّرها الأعداد، بل وحدة حقيقية لا مكافئ لها في الوجود؛ ولهذا كفَر الذين قالوا إنَّ الله ثالث ثلاثة. ولو قالوا ثالث اثنين. لم يكونوا كُفَّارًا. ومِن الشواهد البيِّنة على هذه الدعوى قوله تعالى: هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ؛ فإنَّ هذه المعية ليستْ ممازَجَةً ولا مُداخَلةً ولا حلولًا ولا اتِّحادًا ولا معيةً في المرتبة وفي درجة الوجود ولا في الزمان ولا في الوضع، تعالى عن ذلك عُلوًّا كبيرًا، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ونُسب إليه هذا الرباعي:
أي تصفَّحْنا صفحات الوجود ورقًا بعد ورق حقًّا ما تلونا وما رأينا فيها إلا ذات الحق — تعالى — وشئون ذاته الحقة.
ونُسب إليه هذا البيت أيضًا:
وهذا المذهب كمذهب الماديين، وإنَّ في المادة مبدأً مدبِّرًا هو الله، وإنَّ عنصر النظام الذي نعثر عليه في نواحي المادة هو الله، ويشعر بل ينص بقِدَم المادة وأزليَّتها؛ لأنَّ المبدِعَ ليس منفَصِلًا عنه، وإن كان ارتباطه بطريقٍ مجهول.
بقِيَ شيء، وفرق بين المذهبين؛ مذهب صدر الدين ووحدة الوجود ومذهب الماديين، وهو أنَّ المادِّيِّين يُنكِرون الشعور العام المُسَمَّى بالعلم، ويُنكِرون وجود الغاية والحكمة في خلق الكون وأجزاء العالم ونواميسه الجارية، ولكن صدْر الدين يُثْبت العلم والغاية في كليهما في الوجود.
(٣٢) مذهب صدر الدين في علم الباري تعالى
مِن أعوَص مسائل اللاهوت التي شغَلَتْ حيِّزًا من أفكار الفلاسِفة من أقدم عصور الفلسفة هي مسألة علم الباري (الله)، اضطرَبَتْ فيه الآراء واختلفتِ المذاهب، حتى بلغ أصول المذاهب الفلسفية في العلم إلى ثمانية أقوال وآراء؛ لأنَّ علم الواجب على المبادئ الفلسفية لا يُقاس بعلم الممكن، ولَمَّا فَكر صدر الدين في مذاهب الفلاسِفة المتقدِّمين في العلم فوجَدَها لا تُزِيح النِّقابَ عن وجْه الحقيقة كما يُريد سلك مَسْلَكًا في العلم يتصل إلى مسلك وحدة الوجود، ولكنَّ العصر لم يكن يسمح له بالتصريح به خوفًا من الاضطهاد الديني ذكر: (١) مذاهب المشائين وأبي نصر وابن سينا وبهمينار. (٢) مذهب الإشراقين والسُّهْرَوَرْدي صاحب «حكمة الإشراق». (٣) مذهب المعتزلة. (٤) مذهب فرفوريوس. وقال: إنَّ لكلٍّ مِن هذه المذاهب الأربعة وجهًا صحيحًا لعلمه التفصيلي، وقال: ولا الذي استراحتْ إليه قلوب المتأخِّرين من العلم الإجمالي.
إيضاح هذا المطلب يتمُّ بعدَّة مقدِّمات
- الأولى: أنَّ عِلْم الباري يمثَّل بعلم النفس بذاتها؛ فإنَّ العلم والمعلوم هناك واحد، فالنفس عالِمةٌ ومعلومة، والعلم أيضًا قائمٌ بها.
- الثانية: أنَّ وجود الباري ببساطته لا يُشاب بعدمٍ ونقص، وله كمالٌ لا نهائي، فأرفَعُ درجات العلم وأكمَلُها موجودٌ هناك، ولا يَشُوبُه غَيْبةُ شيءٍ ولا صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؛ إذْ لو بقِيَ شيءٌ من الأشياء ولم يكن ذلك العلم عِلْمًا به لم يكن صِرْف حقيقةِ العلم، بل عِلْمًا بوجْهٍ وجهلًا بوجْهٍ آخَر، وصِرْف حقيقةِ الشيء لا تَمْتَزِج بغيره، وإلا لم يخرُجْ جميعُه من القوة إلى الفعل (أي لم يبلُغْ حدَّ الكمال، وهو خلاف الفرض)، وعلمه راجعٌ إلى وجودِه، فكما أنَّ وجودَه لا يُشاب بعدمٍ ونقص، فكذلك علمه الذي هو حضُورُ ذاتِه لا يُشاب بغَيْبةِ شيءٍ من الأشياء، على أنَّه — تعالى — محقِّق الحقائق ومُشَيِّئ الأشياء، فحضُورُ ذاتِه — تعالى — حضورُ كلِّ شيء.
- الثالثة: أنَّ مَثَلَ الواجبِ الباري كمَثَلِ المِرْآة، ومَثَلُ الموجودات الممْكِنات كمَثَل الصُّوَر المرئيةِ فيها المُنْطَبِعة على صفْحَتِها بواسِطة أسبابِها من مُحاذاة ذي الصُّورة لها، ووجودِ النُّور وغيرهما، فالصورة مرئيةٌ فيها وبها، ولكنَّ كيفية انطباعِها وظهورها مجهولةٌ لنا، فتلك الموجوداتُ تَظهَر في وجْهِ الله، وقيامُها وظهورُها يكون به تعالى، فالطبائع الكلية لها وجودٌ ظِلِّيٌّ لولا وجودُ الباري لم يكن لها ظهور، كما أنَّه لولا المرآةُ لم يكن للصُّوَر ظُهورٌ ووجود، فنحن نُبْصِر الصورَ في المرآة ولا نعلم كيفية انطباعها، فكذلك نَرَى الموجودات وهي قائمة به تعالى، ولكنْ لا نَدْرِي ما هو الوجود الحق الواجب.
-
الرابعة: فهو عالمٌ بذاتِه، وعِلْمُه هو حضورُ الذات، فنحن إذا فَرَضْنا أنَّ المرآةَ
شعرَتْ بذاتها المنطَبِعة فيها الصُّورُ يكون المَثَلُ أقربَ إلى المقصود،
فالوجود اللانهائي عالمٌ بالوجود كافَّة.
هذه نهاية ما يُصوَّر ويُدْرَك من فلسفة صدْر الدِّين في العلم، فهِمْناه من جملةِ كلامِه المستور بستائر التَّقِيَّة. ثمَّ هذا العلم يتعلق بعلمه المتعلِّق بالإيجاد.
(٣٣) مذهب صدر الدين في الحكمة في أجزاء الكون والقصْد من وجودها
من المسائل الفلسفية الغامِضة التي تحيَّر فيها كبار الفلاسفة مسألة وجود القصد والحكمة في تكوُّن العالم. يقول صدرُ الدين: زعم إيندقلس (أنباذقلس) أنَّ تكوُّن الأجرام الأسطقسية بالاتِّفاق، وذهب ذيمقراطيس ومَن تَبِعه أنَّ العالَم وُجد بالاتِّفاق وإن لم يكن تكوُّن الحيوان والنبات بالاتِّفاق.
يقول الثاني: إنَّ مبادئ العالَم أجرامٌ صِغار لا تتجزَّأ لصلابَتِها، وهي مبثوثة في خلاءٍ غيرِ متناهي، وهي متشاكِلةُ الطبائع، مختَلِفةُ الأشكال، دائمةُ الحركة، فاتَّفق أنْ تصادَمَتْ منها جملةٌ واجتمعتْ على هيئةٍ مخصوصة، فتكوَّن منها هذا العالَم.
ويقول الأول: إنَّ تكوُّن الأجرام الأستقطسية بالاتِّفاق، فما اتَّفق أنْ لم يكن كذلك لم يَبقَ. واحتجَّ بحُجَج، منها أنَّ الطبيعة لا رَوِيَّة لها، فلا يُعقَل أن يكونَ فِعْلُها لأجل غرض، ومنها أنَّ الفسادَ والموت والتشويهات والزوائد ليستْ مقصودة، مع أنَّ لها نظامًا لا يتغيَّر كأضدادها، فعُلِم أنَّ الجميع غير مقصود للطبيعة، فإنَّ نظام الذُّبول وإن كان على عكس النُّشُوِّ والنُّمُو، لكنْ له كعَكسِه نظامٌ لا يتغيَّر ونَهْجٌ لا يُمْهِل، ولَمَّا كان نظام الذُّبول ضرورة المادة من دون أن يكون مقصودًا للطبيعة، فلا جرَمَ يُحْكَم بأنَّ نظام النُّشُوِّ والنُّمُوِّ أيضًا بسبب ضرورةِ المادة بلا قصْدٍ وداعية للطبيعة، وهذا كالمطر الذي نعلم جزمًا أنَّه كائنٌ لضرورة المادة؛ إذِ الشمس إذا تبخَّرتِ الماء فخلَصَ البخارُ إلى الجوِّ البارِد، فلمَّا برد صار ماءً ثقيلًا فنزل ضرورة، فاتَّفَق أنْ يقَعَ في مصالِح، فيُظَنُّ أنَّ الأمطارَ مقصودةٌ لتلك المصالِح، وليس كذلك، بل لضرورة المادة.
ومنها أنَّ الطبيعة الواحدة تفعل أفعالًا مختَلِفة مثل الحرارة، فإنَّها تحلُّ الشمعَ وتعْقِد المِلح وتُسوِّد وجْهَ القَصَّار وتُبيِّض وجْهَ الثَّوب، فهذه حُجَج القائلين بالاتِّفاق.
وضَعَ صدرُ الدِّين أوَّلًا مقدمة في دحْضِ حُجَج هذا المذهب، مَفادُها أنَّ الأمور الممكِنة على أربعة أقسام: (١) الدائمي، وهو يوجد بعِلَّته، ولا يُعارِضه معارض، كحركة المنظومة الشمسية مثلًا. (٢) والأكثري، وهو قد يُعارِضه كالنار في أكثر الأمر تَحْرِق الحطب، وهو يتمُّ بشَرْط عدم المعارِض، سواءً أكان طبيعيًّا أو إراديًّا، فإنَّ الإرادة مع التصميم وتهيُّئِه للحركة وعدم مانِعٍ للحركة وناقِضٍ للعزيمة، وإمكانِ الوصول إلى المطلوب، فبيِّنٌ أنَّه يستَحِيل أنْ لا يُوصَل إليه. (٣) ما يحصل بالتساوي كقُعُود زيدٍ وقيامِه. (٤) ما يحصل نادرًا أو على الأقل، كتكوُّن إصبعٍ زائدة، أمَّا ما يكون على الدوام أو على الأكثر، فوجودُهما لا يكون بالاتِّفاق؛ لأنَّ الاتِّفاق معناه أن لا يَخْضَع الشيءُ للنِّظام المستمرِّ أو الأكثر، والثالث والرابع قد يكونان باعتبارٍ ما واجبًا أي خاضِعًا لناموسٍ لا يتغيَّر، مثل أن يشترط أنَّ المادة في تكوُّن كفِّ الجنين فضُلتْ عن المصروف عنها إلى الأصابع الخمس والقوة الفاعِلة صادَفَتِ استعدادًا تامًّا في مادة طبيعية، فيَجِب أن يتخلَّق أصبعٌ زائدة، فعند هذه الشروط يجب تكوُّن الأصبع الزائدة، ويكون ذلك أيضًا من باب الدائم بالنسبة إلى هذه الطبيعة الجزئية، وإن كان نادِرًا قليلًا بالقياس إلى سائر أفراد النوع، فإذا حُقِّق الأمر في تكوُّن الأمر الأقلِّ أنَّه دائم بشروطه وأسبابه، ففي ضرورةِ المُساوِي أكثريًّا أو دائميًّا بملاحظة شروطِه وأسبابِه لم يَبْقَ ريبة، فالأمور الموجودة بالاتِّفاق إنما هي بالاتِّفاق عند الجاهل بأسبابِها وعِلَلها، وأمَّا بالقياس إلى مسبِّب الأسباب والأسباب المكتَنِفة فلم يكن شيءٌ من الموجودات اتفاقًا كما وقع في أَلْسِنة الحكماء الأشياء كلها عند الأوائل واجبات، فلو أحاط الإنسان بجميع الأسباب والعِلَل حتى لم يشذَّ عن علْمِه شيءٌ لم يكن عندَه شيء موجودًا بالاتِّفاق، فإنْ عثَرَ حافِرُ بئرٍ على كنزٍ فهو بالقياس إلى الجاهل بالأسباب التي ساقَتِ الحافرَ إلى الكنز اتِّفاق، وأمَّا بالقياس إلى مَن أحاطَ بالأسباب المؤدِّية إليه ليس بالاتِّفاق بل بالوجوب، فقد ثبت أنَّ الأسباب الاتِّفاقية حيث يكون لأجل شيءٍ إلا أنها أسباب فاعلية بالعَرَض، والغايات غاياتٌ بالعَرَض، وربما يتأدَّى السببُ الاتِّفاقيُّ إلى غايتِه الذاتية كالحجر الهابِط إذا شجَّ ثمَّ هبط إلى مهبِطه الذي هو الغاية الذاتية، وربما لا يتأدَّى إلى غايته الذاتية، بل اقتصر على الاتفاقيِّ كالحجر الهابِط إذا شجَّ ووقَف، ففي الأول يُسمَّى بالقياس إلى الغاية الطبيعية سببًا ذاتيًّا، وبالقياس إلى الغاية العَرَضية سببًا اتفاقيًّا، وفي الثاني يُسمَّى بالقياس إلى الغاية الذاتية باطِلًا، فإذا تحقَّق ذلك فقد عُلِم أنَّ الاتفاق غايةٌ عَرَضية لأمرٍ طبيعي أو إرادي أو قسْري ينتهي إلى طبيعة أو إرادة، فتكون الطبيعة والإرادة أقدَمَ من الاتفاق لذاتَيْهما، فما لم يكن أوَّلًا أمور طبيعية أو إرادية لم يقع اتِّفاقًا، فالأمور الطبيعية والإرادية متوجِّهة نحو غاياتٍ بالذات والاتفاق طارٍ عليهما إذا قِيس إليهما من حيث إنَّ الأمر الكائن في نفسِه غير متوقَّع عنها؛ إذْ ليس دائمًا ولا أكثريًّا، لكنْ يلزم أن يكون مِن شأنها التأدِية إليها. ثمَّ أخذ في دَحْضِ حُجَج الاتِّفاق على التفصيل؛ دحض الحجةَ الأولى بأنَّ الطبيعة إذا عَدِمَتِ الرَّوِيَّة ولا يستلزم أو يوجب أن يكون الفعل الصادِر عنها غيرَ متوجِّهٍ إلى غاية؛ فإنَّ الرَّوِيَّة لا تجعل الفعلَ ذا غاية، بل إنَّما يتميَّز الفعل الذي يَختار ويُعيِّنه من بين أفعال يجوز اختيارها، ثمَّ يكون لكلِّ فعلٍ من تلك الأفعال غايةٌ مخصوصةٌ يلزم تأدِّي ذلك الفعل إليها لذاتِه لا بجَعْلِ جاعِلٍ حتى لو قُدِّر كونُ النفس مُسَلَّمةً عن اختلاف الدَّواعِي والصَّوارِف لكان يَصْدُر عن الناسِ فعلٌ على نَهْجٍ واحِدٍ من غير رَوِيَّةٍ كما في الفَلَك، فإنَّ الأفْلاك سَليمةٌ عن البواعِثِ والعوارِض المختَلِفة، فلا جَرَمَ أنْ تكونَ أفاعِيلُها على نهجٍ واحدٍ من غير رَوِيَّة، ومما يُؤَيِّد ذلك أنَّ نفس الرَّوِيَّة فعلٌ ذو غاية، وهي لا تحتاج إلى رَوِيَّة أخرى.
وأيضًا أنَّ الصناعات لا شُبْهةَ في تحقُّق غايات لها، ثمَّ إذا صارتْ مَلَكةً لم يُحْتَجْ في استعمالها إلى الرَّوِيَّة، بل ربما تكون مانِعةً كالكاتِب الماهِر لا يُروِّي في كل حرف، وكذا العَوَّاد الماهِر لا يتفكر في كل نقرة، وإذا روَّى الكاتبُ في كتبه حرفًا، والعوَّاد في نقْرِه يتبلَّد في صناعته، فللطبيعةِ غاياتٌ بلا قصْدٍ ورَوِيَّة.
ودحضَ الحجةَ الثانية بأنَّ الفسادَ في هذه الكائنات، تارةً لعَدَمِ كمالاتها، وتارةً لحصول موانعَ وإراداتٍ خارجةٍ عن مجرى الطبيعة. أمَّا الإعدام فليس من شرط كون الطبيعة متوجِّهة إلى غاية أن تبلغ إليها، فالموتُ والفسادُ والذُّبولُ كلُّ ذلك لقصورِ الطبيعة عن البلوغ إلى الغاية (وها هنا سِرٌّ ليس هذا المشهد موضِعَ بيانِه). وأمَّا نظام الذبول هو أيضًا متأدٍّ إلى غاية؛ وذلك لأنَّ له سببين؛ أحدهما بالذات وهو الحرارة، والآخَر بالعَرَض وهو الطبيعة، ولكلٍّ منهما غاية، فالحرارةُ غايتُها تحليلُ الرُّطوبات، فتسوق المادة إليه وتقيسها على النظام، وذلك للحرارة بالذات؛ والطبيعة التي في البدن غايتُها حفْظُ البدنِ ما أمْكَنَ بإمدادٍ بعد إمداد، ولكنْ كلُّ مَدَدٍ تالٍ يكون الاستمداد منه أقلَّ من المَدَد الأول، فيكون نقصان الأمداد سببًا لنظام الذبول بالعرض والتحليل سببًا بالذات للذُّبول، وفعلُ كلِّ واحدٍ منهما متوجِّهٌ إلى غاية، ثمَّ إنَّ الموت وإنْ لم يكن غايةً بالقياس إلى بدنٍ جزئيٍّ فهو غايةٌ بالقياس إلى نظامٍ واجبٍ لِمَا أُعِدَّ للنفْس من الحياة السرمدية، وكذا ضَعْفُ البدن وذُبولُه لِمَا يتْبَعُها من رياضات النفس وكسْر قواها البدنية التي بسببها تستعدُّ للآخر على ما يُعرَف في علم النفس. وأمَّا الزيادات فهي كائنةٌ لغايةٍ ما؛ فإنَّ المادة إذا فضلَتْ أفادَتْها الطبيعةُ الصورةَ التي تستحقُّها، ولا يعطِّلها كما علمت، فيكون فعلُ الطبيعة فيها بالغاية، وإن لم يكن غاية للبدن بمجموعه، ونحن لم ندَّعِ أنَّ كلَّ غايةٍ لطبيعةٍ يجب أن يكون غايةً لغيرها، وأمَّا ما نُقل في المطر فممنوع، بل السبب فيه أوضاعٌ سماوية تلحقها قوابل واستعدادات أرضية للنظام الكلي وانفتاح الخيرات ونزول البركات، فهي أسباب إلهية لها غايات دائمة أو أكثرية في الطبيعة.
ودحضَ الثالثة بأنَّ القوة المُحْرِقة لها غايةٌ واحدة، هي إحالةُ المحتَرِق إلى مُشاكَلة جوهَرِها، وأمَّا سائرُ الأفاعيل كالعَقْد والحَلِّ والتسويد والتبْيِيض وغيرها، فإنَّما هي توابِعُ ضرورية، وستعلم أقسام الضروريِّ الذي هو إحدى الغايات بالعَرَض.
وقد ذكر في كتاب «الشفاء» إبْطال مذهب أنباذقلس ببيانات مبنيَّة على المشاهَدات وشواهِدَ موضَّحة؛ ولذلك حمَلَ بعضُهم كلامَه في البخْت والاتِّفاق على أنَّه من الرُّموز والتجوُّزات، أو أنَّه مُخْتَلَق عليه لدلالةِ ما تصفَّحه ووجدَه من كلامِه على قوةِ سُلُوكِه وعلوِّ قدْرِه في العلوم. ومِن جملةِ تلك الدلائلِ الواضِحة أنَّ البقعةَ الواحِدةَ إذا سقطَتْ فيها حبَّةُ بُرٍّ وحبَّةُ شَعيرٍ أنبتَ البُرُّ بُرًّا والشعيرُ شعيرًا، فعُلم أنَّ صيرورةَ جزءٍ من الأرض بُرًّا والآخَر شعيرًا لأجلِ أنَّ القوة الفاعِلةَ تحرِّكها إلى تلك الصُّوَر لا لضرورةِ المادة لتشابُهِها، ولو فُرض أنَّ أجزاءَ الأرض مختلِفة، فاختِلافُها ليس بالماهية الأرضية، بل لأنَّ قوةً في الحبة أفادتْ تلك الخاصية لذلك الجزء الأرضي، فإنْ كانتْ أفادتْ تلك الخاصية لخاصية أخرى سابِقةٍ عليها لزِمَ التسَلْسُل، وإن لم يكن كذلك كانتِ القوة المودَعة في البُرَّة لذاتها متوجِّهة إلى غايةٍ معيَّنة، وإلا فلِمَ لا يُنبِتُ الزيتون بُرًّا والبِطِّيخ شعيرًا؟!
(٣٤) نظريته في حس المادة وعشق الهَيُولى
قال صدرُ الدين في أول كلامه إنَّ رأيَ شَوْق الهَيُولى إلى الصورة مبنيٌّ على المكاشَفات النُّورية والبراهين اليقينية بعد تصْفِية الباطن بالرياضات.
ثمَّ قال بعد كلام الرئيس المذكور: إنِّي لأَجْل محافَظَتِي على التأدُّب بالنسبة إلى مشايخي في العلوم وأساتيذي في معرفة الحقائق، لستُ أجِدُ رخصةً من نفسي في كشْف الحقيقة فيما اعترف مثل الشيخ الرئيس، عظَّم الله قدره في النشأتين العقلية والمثالية، بالعَجْز عن دَرَكه والعسر في معرفته، بل كنتُ رأيتُ السكوتَ عمَّا سكتَ عنه أولى، والاعترافَ بالعجز عمَّا عَجَزَ فيه لصعوبته وتعسُّره أَحْرى، وإن كان الأمر عندي واضِحًا ومنقَّحًا، حتى أقترح على بعض إخواني في الدين وأصحابي في ابتغاء اليقين أن أوضِّح بيان الشوق الذي أثبتَه أفاخِمُ الحكماء القدماء وأكابر العرفاء من الأولياء في الجوهر الهيولاني، وأكشف قناع الإجمال عمَّا أشاروا إليه، وأستخرج كنوزَ الرموز فيما سَتَروه، وأفصِّل ما أجْملوه، وأُظْهِر ما كتَموه من التَّوَقان الطبيعي في القوة المادية، فألْزَمَنِي إسعافَه لشدةِ اقتراحِه، وأَلْجَأَني في إنجاح طِلْبتِه لقوة ارتياحِه، فأقول مِن الله التأييد والتسديد: إنَّه لا بدَّ من وضْع أصولٍ لتحقيق هذا المقام تمهيدًا وتأصيلًا.
-
(١)
إنَّ الوجود حقيقةٌ واحدةٌ عينية، ليس مُجرَّد مفهومٍ ذهنيٍّ ومعقولٍ ثانوي، كما زَعَمَه المتأخِّرون، وإنَّ الاختلاف في مراتَبِه وأفرادِه ليس بأمورٍ فصلية أو عرضية، بل بتقدُّم وتأخُّر وكمالٍ ونقصٍ وشدةٍ وضعف، وإنَّ صفاته الكمالية من العلم والقُدْرة والإرادة هي عَيْنُ ذاتِه؛ لأنَّ حقيقة الوجود وسنخَه وتجَوْهره مبدأٌ لسائرِ الكمالات الوجودية، فإذا قَوِيَ الوجود في شيءٍ من الموجود قوي معه جميع صفاته الكمالية، وإذا ضعُف ضعُفَت.
-
(٢)
إنَّ حقيقة كلِّ ماهية هي وجودها الخاصُّ الذي يُوجَد به تلك الماهية على الاستتباع، وإنَّ المحقَّق في الخارج والفائض عن العِلَّة لكلِّ شيء هو نحو وجودِه، وأمَّا المُسَمَّى بالماهية فهي إنَّما تُوجَد في الواقِع وتَصْدُر عن العلة، لا لذاتِها، بل لاتِّحادها مع ما هو الموجود، والمفاض بالذَّات عن السبب والاتحاد بين الماهية والوجود على نحو الاتحاد بين الحكاية والمحكي، والمرآة والمرئي، فإنَّ ماهية كلِّ شيء هي حكاية عقلية عنه وشَبَحٌ ذهنيٌّ لرؤيته في الخارج وظلٌّ له.
-
(٣)
إنَّ الوجود على الإطلاق مُؤثَر ومعشوق ومتشوَّق إليه، وأمَّا الآفات والعاهات التي تتراءى في بعض الموجودات، فهي إمَّا راجعةٌ إلى الأعدام والقصورات وضعْف بعض الحقائق عن احتمال النحْو الأفضل من الوجود، وإمَّا أنَّها ترجِع إلى التَّصادُم بين نحوَيْن من الوجود في الأشياء الواقِعة في عالَم التضايُق والتَّصادُم والتَّعارُض والتضاد.
-
(٤)
إنَّ معنى الشَّوق هو طلب كمال ما هو حاصِل بوجهٍ وغير حاصل بوجه، فإنَّ العادم لأمرٍ ما رأسًا لا يشتاقُه ولا يَطْلُبُه؛ إذ الشَّوق للمعدوم المحض والطلب للمجهول المطلق مُستحيل، وكذا الواجِد لأمرٍ ما لا يشتاقُه ولا يطلُبُه لاستحالة تحصيل الحاصل. انتهى.
وعلى مذهبه أنَّ الوُجود الكامل الذي لا نقْصَ فيه هو الله، وهو على ذلك لا يطلب شيئًا، وينبغي أن يشتاق إليه الوجود الذي احتمل بواسطة حوصلة ذواتها ووعاء وجوداتها مَرتبة دون مَرتبة الواجب، أي مَرتبة ناقِصة. وقال: إذا تَمَهَّدتْ هذه الأركان والأصول، فنقول أمَّا إثبات الشَّوق في الهَيُولى الأولى، فلأنَّ لها مرتبةً من الوجود وحظًّا من الكون كما اعترف الشَّيخ الرَّئيس وغيره من محصِّلي أتباع المشائين، ومرتبتها في الوجود مرتبة ضعيفة؛ لأنَّها عبارة عن قوةِ وجودِ الأشياء الفائِضة عليها المتَّحِدة بها اتحادَ المادة بالصورة في الوجود، واتحادَ الجنس بالفصل في الماهية، وإذا كان لها نحوٌ من الوجود، وقد عُلم بحكم المقدِّمة الأولى أنَّ سنخ الوجود واحدٌ ومتَّحِدٌ مع العلم والإرادة والقدرة من الكمالات اللازمة للوجود، أينما تحقَّق وكيفما تحقَّق، فيكون لها نحوٌ من الشُّعُور بالكمال شُعورًا ضَعيفًا على قَدْر ضَعف وُجودها الذي هُو ذاتها وهويتها بحكم المُقدِّمة الثَّانية، فيكون لأجْلِ شعورها بالوجود النَّاقِص لها طالبةً للوجود المطلق الكامل الذي هو مطلوب ومؤثَر بالذَّات للجميع بحكم المقدمة الثَّالثة.
ولَمَّا كان، بحكم المقدمة الرابعة، كلَّما حصل له بعض الكمالات، ولم يحصل له تمامه يكون مشتاقًا إلى حصول ما يُفقَد منه شوقًا بإزاء ما يُحاذي ذلك المفقود ويُطابِقه، وطالِبًا تتميم ما يُوجد فيه لحصول ذلك التَّمام، فيكون الهَيُولى في غاية الشَّوْق إلى ما يكمله ويُتمِّمه من الصُّور الطَّبيعيَّة المحصلة إيَّاها نوعًا خاصًّا من الأنواع الطَّبيعيَّة.
إيضاح لهذا الرأي: يتمُّ وضوح هذا الرأي بأنْ نذْكُر معنَى الهَيُولى المستعمل في الفلسفة الإغريقية، وهي لفظ يوناني معناه الأصل والمادة.
وعرَّفه الرئيس ابن سينا في رسالة الحدود بقوله: الهَيُولى المطلقة هي جوهر، ووجوده بالفعل إنَّما يحصل بقبول الصُّورة الجسميَّة بقوةٍ فيه قابِلة للصُّوَر. وقال أيضًا في حدِّ المادة: إنَّ المادة قد تُقال اسمًا مرادِفًا للهَيُولى، وهي تُطلَق في الفلسفة الإغريقية والإسلامية على أصغر ذرَّة من المادة، وهي التي يُطلِق عليها العلمُ الحديث بهبيات أو «أقوم»، وهي الذَّرة الصَّغيرة التي لا تراها العين المجرَّدة لصِغَرها. يقول ابن رشد الفيلسوف في كتابه «ما بعد الطبيعة»: «الهَيُولى» الأولى غير مُصوَّرة، وإلا لا تَحقُّق في عالَم المادة لِمَا لا صورةَ له. ولذلك قال الرئيس في كلامه السَّابق: لا خلوَّ لها من الصُّورة. فإذا تَحَقَّق هذا فرُوح هذا المذهب الفلسفي، ورأي صَدْر الدِّين أنَّ ذرَّات المَادَّة مُطلقًا المعبَّر عنها بالهَيُولى ذات شعور وحِس؛ لأنَّ لها حظًّا من الوجود، والوجود نفسه كما تَحقَّق في الأصل الأوَّل الذي مهَّده صَدْر الدِّين له مُتَّحد مع العلم والإرادة والقدرة أينما ظهر في أصغر ذرَّة في المادة، أو أكبر جرم من الفلك، فلها نحوٌ من الشُّعور بالكمال كما صرَّح في كلامِه، وهذا الرأْيُ هو نفس رأي «جاجاديس بوز» العالِم النباتي الهندي في إحساس الجماد والنبات، وأنَّ المادَّة سواءٌ أكان إنسانًا عاقلًا أم حديدًا جامدًا أم نباتًا أو صخرًا تُحِس.
إذا كشف بوز حسَّ المادة بقوة جهازه «الكرسكوغراف» المغناطيسي، الذي يجعل الحركات التي لا تُرى بالعين المجرَّدة أكثرَ وُضوحًا بخمسين ألف ألف ضعف، فقوة جهاز دماغ هؤلاء الفلاسفة الذين ذهبوا بهذا المذهب وسَعة فكرهم لا تقِلُّ عن قوة جهاز «بوز»!
والفضل بين فلاسفة الإسلام في إنارة برهان هذا الرأي لصَدْرِ الدِّين، وهو الفيلسوف الإسلامي الوحيد الذي أطلع هذا النور في سماء العلم، والعجب أنَّ مَبْنى رأيِ العالِمَين صَدر الدِّين وبوز شيءٌ واحد؛ يقول بوز في إحدى محاضراته: عندما شاهدتُ هذه المشاهدات، وجرَّبتُ ضروبَ التَّجارِب المختلِفة، وفهمتُ حسَّ المادة، ورأيتُ فيها وحدةً شامِلةً ينطوي فيها كلُّ شيء، ورأيتُ كيف أنَّ الذَّرة ترتعش في مويجات الضوء، وكيف أنَّ أرضنا تعجُّ عجيجًا بالحياة، وتلك الشُّموس المُتَّسعة التي تُضيء فوقنا؛ عندئذٍ أدركتُ قليلًا من مغزى تلك الرسالة التي بشَّر بها أسلافي منذ ثلاثين قرنًا على شطوط نهر «الكنج»، وهم أولئك الذين لا يَرَون في جميع الظواهر المُتغيِّرة في هذا الكون سوى واحدٍ فقط، أولئك وحدَهم يعرفُون الحقيقة الأزليَّة.
ويقول صَدْرُ الدِّين: إنَّ الوجود حقيقةٌ واحدة، والاختلاف بين أفراده ومراتِبه ليس بتمامِ الذَّات والحقيقة، بل بتقدُّم وتأخُّر وشدةٍ وضعفٍ وكمالٍ ونقص، وإنَّ الصِّفات الكماليَّة من العلم والقدرة والشُّعور والإرادة عين ذاته.
فنصيب الوجود الضَّعيف، وذرة المادة من العلم والشعور والإرادة على قدْر وجوده ونصيبه من نفس الوجود.
(٣٥) خاتمةٌ في رأْيِه في العشْق
بحثَ في العشْق، وجعَلَ عنوانَ البحث قولَه: «فصلٌ في ذِكر عِشْق الظُّرَفاء والفتيان للأوجُهِ الحِسانِ»، وذكَرَ اختلافَ الآراءِ في حُسْنه وقُبْحه، وهل هو فضيلةٌ أو رذيلة، ثُمَّ قال: والذي يدلُّ عليه النَّظر الدقِيق والمنهج الأَنيق وملاحظة الأمور عن أسبابها الكلية، ومباديها العالية، وغاياتها الحكميَّة أنَّ هذا العشق، أعْنِي الالتِذاذ الشَّديد بحُسْن الصُّورة الجميلة المُفْرِطة لِمَن وُجد فيه الشَّمائل اللطيفة، وتناسُب الأعضاء، وجودة التركيب، لَمَّا كان موجودًا على نحوِ وجودِ الأمور الطَّبيعيَّة في نفوس أكثر الأمم من غير تكلُّف وتصنُّع، فهو لا محالةَ من جملة الأوضاع الإلهيَّة التي يترتَّب عليها المصالح والحِكم، فلا بدَّ أن يكون مُستحسَنًا محمودًا، ولا سيَّما قد وقع من مبادٍ فاضِلة لأجل غايات شريفة. أمَّا المبادي، فلأنَّا نَجِد أكثرَ نفوس الأمم التي لها تعليم العلوم الدقيقة، والصنائع اللطيفة، والآداب والرياضات، مثل أهل فارس، وأهل العراق، وأهل «الشام»، والرُّوم، وكل قومٍ فيهم العلوم الدقيقة، والصَّنائع اللطيفة، والآداب الحَسَنة غير خالِيةٍ عن هذا العشق الذي منشؤه استحسانُ شَمَائل المَحبوب، ونحن لم نَجِدْ أحدًا ممَّن له قلبٌ لطيف، وطَبْعٌ رقيق، وذهنٌ صافٍ، ونفسٌ رقيقة خاليًا عن هذه المحبة في أوقات عُمره، لكنْ وجدنا سائر النُّفوس الغليظة، والقلوب القاسِية، والطبائع الجافية من الأكراد والزنج خاليةً عن هذا النَّوع من المَحبَّة.
وقال: وبما أنَّ هذه الرَّغبةَ والمحبةَ مُودَعةٌ نفوسَ أكثرِ العلماء والظُّرفاء، فلا بدَّ لها من غاية، وجعلَ من غايةِ العِشْق تعليمَ الصِّبيان والغِلمان العلومَ الجزئيةَ كالنحو واللغة والبيان والهندسة وغيرها، والصَّنائعَ الدقيقة، والآدابَ الحميدة، والأشعارَ اللطيفةَ الموزونة، والنَّغماتِ الطَّيِّبة، وتَهْذِيبَهم بالأخلاق الفاضِلة، وسائر الكمالات النَّفسانيَّة، فهذا العشقُ بما فيه تكميل النُّفوس النَّاقِصة، وتُهذِيبُها من فائدة حكمية وغاية صحيحة لا بدَّ أن يكون معدودًا من الفضائل والحَسَنات لا من الرذائل والسِّيِّئات.
وفي الإنسان أثَرُ جَمَال الله وجلاله، وإليه الإشارة في قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وقوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، وقسَّم العشق بقسمين؛ حقيقي ومجازي، والأوَّل هو محبَّة الله وصفاته وأفعاله من حيث هي، والثَّاني ينقسم إلى نفساني وحيواني، الثاني سببه فرط الشَّهوة الحيوانيَّة ومبدؤه شهوة بدنية وطلب لذَّةٍ بهيمية، ويكون أكثر إعجابه بظاهِر المعشوق ولونه وأشكال أعضائه؛ لأنَّها أمورٌ بدنية، وهو لا يُعَدُّ فضيلة.
والأوَّل سببُه استحسانُ شَمَائِل المحبوب المعشوق، وجودة تركيبه، واعتدال مزاجه، وحسن أخلاقه، وتناسُب حركاته وأفعاله وغنجه ودَلالِه، ومبدؤه مُشاكَلةُ نفس العاشِق والمعشوق في الجَوْهَر، ويكون أكثر إعجابه بشمائل المعشوق؛ لأنَّها آثار صادِرة عن نفسه، فهذا العشق يُرقِّق القلب، ويُذْكي الذِّهْن، وينبِّه النَّفس على إدراك الأمور الشَّريفة. وقال: ولأجل ذلك أمرَ المشايخ (أي الصوفية) مُريدِيهم في الابتداء بالعِشْق. وقيل: العشقُ العفيفُ أولى سببٍ في تلطيف النَّفس، وتنوير القلب، وفي الأثر أنَّ الله جميل يُحبُّ الجمال.
ثمَّ قال: ينبغي استعمال هذه المحبَّة في أواسط السُّلوك العرفاني، وفي حال ترقيق النَّفس وتنبيهها من نوم الغفلة ورقَّة الطبيعة.
وأمَّا عند استكمال النَّفس بالعلوم الإلهية وصيرورتها عقلًا بالفعل، محيطةً بالعلوم الفلكيَّة، ذاتَ مَلَكةِ الاتِّصال بعالم القُدس فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغالُ بعشقِ هذه الصُّورة المحسَّنة اللحْمِيَّة، والشَّمائل اللطيفة البشريَّة؛ لأنَّ مقامَها صارَ أرفَعَ من هذا المقام. وسَرَد الأقوال في أنَّ العشق هل هو فضيلة أو رذيلة أو مرض.
ثُمَّ قال: ومنهم مَن قال إنَّ العشق هو إفراطُ الشَّوق إلى الاتِّحاد. واستَجْوَد هذا الرأي، ثُمَّ قال: ولَمَّا كان العشقُ من آثار النُّفوس، فالاتِّحاد يَصِير كما بيَّنتُ في مباحث العقل والمعقول اتِّحادَ النَّفس العاقِلة بصورة العقل، واتِّحادَ النفس الحسَّاسة بصورة المحسوس بالفعل، فعلى هذا المعنى يصِحُّ صيرورة النَّفس العاشِقة لشخصٍ متحدةً بصورةِ معشوقِها، وذلك بعد تكرير المشاهَدات، وتوارُد الأنظار (النظرات)، وشدة الفِكر والذِّكر في أشكاله وشمائله، حتى تصير متمثِّلة صورية حاضِرة مندرِجة في ذات العاشق، وهذا ما أوضَحْنا سبيلَه وحقَّقنا طريقَه.
وقال: إنَّ العشق بالحقيقة هو الصُّورة الحاصِلة، وهي المعشوقة بالذَّات، لا الأمر الخارجي. وقال: إذا تبيَّن ووضحَ اتحاد العاقل بصورة المعقول، واتحاد الجوهر الحسَّاس بصورة المحسوس، فقد صحَّ اتحاد نفس العاشق بصورة معشوقِه؛ بحيث لم يفتقر بعد ذلك إلى حضور جسمه، والاستفادة من شخصه، كما قال الشاعر:
وخصَّص قِسْمًا من العِشْق، وهو عِشْق الإله، الذي هو العشق الحقيقي بالعلماء المتألِّهين المتفكرين في حقائق الوجود، وهم المشار إليهم في قوله تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
وهنالك نبض عرقه البانتيسمي، وقال: فإنَّه في الحقيقة ما يحب إلا نفسَه لا غيرَه، فالمحبُّ والمحبوب شيءٌ واحد في الطرفين.
ونسب رضا قليخان هدايت هذا الرباعي إليه:
حاصل معنى الرباعي أنَّ الفتح في النشأتين الدنيوية والأخروية للعشْق، وإنْ كان جندُه صريعًا في معركة الغرام. ا.ﻫ.
عضو المجمع العلمي