الطريق إلى مدينة رجال المستقبل!
مرت الدقائق بطيئة. كان الشياطين خلالها مستغرقين في أفكارهم، حول هذا النموذج البشريِّ الجديدِ، وكيف يمكن أن يتكاثر، وكيف يمكن أن تستخدمه العصابة وفقًا لأساليبها الإجراميةِ في تحقيق ما تريد. فهي تستطيع أن تشكِّل عصابةً جديدة ذكية، بل عالية الذكاء … ويكون من الصعب التحكم فيها، أو السيطرة عليها.
مضت نصف ساعة، مما جعل الشياطين ينظرون إلى بعضهم؛ فهذه أول مرة تستغرق رسالة لرقم «صفر» كلَّ هذا الوقت الطويل، لكن فجأةً … بدأت أقدامُ رقم «صفر» تقترب، حتى توقفت، ثم جاء صوته يقول: لقد كانت الرسالة طويلة، وهي تحتاج إلى انطلاقكم بسرعة. فقد ظهر النموذج الآلي الجديد بالفعل … إنه الآن يقف أمام الدكتور «بالم» الذي يمكن أن يخلق ثورةً في عالم الإنسان، إن الدكتور «بالم» قد أطلق عليه اسم «فيوتشرمان»، أو … رجل المستقبل.
صمت رقم «صفر» قليلًا، ثم قال: إن نجاح تجربة رجل المستقبل، قد تأكدت. وهذا يعني أنه يمكن تكرارها، بل يمكن اختصار الوقت الذي تحتاجه، فتستطيع العصابةُ أن تحصل على عدد من رجال المستقبل في أقصر وقت.
كان الشياطين يستمعون إلى كلمات رقم «صفر» بكثير من الدهشة … في نفس الوقت، كانوا ينتظرون تحديد مهمتهم، حتى ينطلقوا لتنفيذها.
جاء صوت رقم «صفر» يقول: إن مهمتكم هي القضاء على مدينة رجال المستقبل، لكن الأهمَّ هو إنقاذ الدكتور «بالم»، والعودة به إلى المقرِّ السريِّ، فهو عالِم لا يجب أن نفقده، فهو يمكن أن يكون عظيمًا لنا. أما «رجل المستقبل»؛ فليس مهمًّا أن نحصلَ عليه؛ لأننا نستطيع أن نصنعه فيما بعد. لكن، لو تمكنتم من العودة به سالمًا، فإنه سوف يكون شيئًا رائعًا …
من جديد توقف صوت رقم «صفر»، ومرت دقائقُ ثقيلة من الصمت، كان الشياطين خلالها يتبادلون النظرات، حتى إن رقم «صفر» قال: لا تتعجلوا الموقف … فسوف تستقلون إحدى طائراتنا الخاصة من المطار السري إلى «نيويورك» مباشرةً!
سكت لحظةً ثم قال: إن المهم في مغامرتكم الجديدة، ألا تقعوا في خطأ محتمل؛ فأنا أعرف أنكم سوف تتمكنون من نسف المدينة الصغيرة، وأعرف أنكم تستطيعون العودة بالدكتور «بالم».
لكن …
ثم سكت رقم «صفر». كان يريد أن يلفت نظر الشياطين إلى الصعوبة الحقيقية في المغامرة؛ ولذلك، لم يكمل كلامه مباشرة … وبعد دقيقة قال: إن «رجل المستقبل» صورة كاملة الأوصاف من الدكتور «بالم»، بمعنى أن أي إنسان لا يستطيع التفرقة بين الاثنين للوهلة الأولى؛ حتى إننا نستطيع أن نقول إن عندنا دكتور «بالم» رقم ١، ودكتور «بالم» رقم ٢. وهذه هي الصعوبة؛ فربما يقع أحدكم في هذا الخطأ بالقضاء على أي واحد منهما.
سكت رقم «صفر» لحظة، ثم أضاف: سوف تتحرك المجموعة الآن إلى المطارِ السريِّ. وهناك ستجد الطائرة في انتظارها، وهي نفس الطائرة التي ستعود بالمجموعة ومعها الدكتور «بالم»، أو «الشبيهان» معًا.
مرت لحظةُ صمت قبل أن يقول: الآن، تستطيعون الانصراف، لتجهيز ما تحتاجونه، وسوف تصلكم التعليمات.
أخذت أقدام رقم «صفر» تبتعد شيئًا فشيئًا حتى اختفت تمامًا. وقف «أحمد» وهو يبدو مستغرقًا في التفكير، ثم بدأ الشياطين يأخذون طريقهم إلى الخارج. وعندما استقرُّوا في حجراتهم، كانت تعليمات رقم «صفر» قد ظهرت على شاشة التليفزيون في حجرة كل منهم. كانت التعليمات تحدد المجموعة، وهي تضم: «أحمد»، «إلهام»، «خالد»، «باسم»، «عثمان». أما التحرك فقد كان في الساعةِ الثانية عشرة تمامًا … وفي نهاية التعليمات كانت جملة: «أتمنى لكم التوفيق.»
نظر «أحمد» في ساعته: ينبغي الذهاب فورًا إلى المطار السري.
وبعد دقيقة كان «أحمد» يغادر حجرته، إلى حيث تقف إحدى السيارات التي سوف تنقل المجموعة إلى المطار السريِّ. هناك وجد «إلهام» و«خالد» و«باسم» و«عثمان» قد ركبوا السيارة فعلًا، التي بدأت تتحرك عندما ركبها. كانت السيارة تمضي في طريق سري تحت الأرضِ، ولم تمضِ دقيقتان، حتى كانت الطائرة قد أدارت محركاتها، في انتظار وصولهم. وعندما استقلوها، أدارت وجهها إلى حيث البوابة، لتخرج من مخبئها السري في هدوء. كانت الطائرة تتقدم، حتى خرجت إلى الخلاء، الذي كان يبدو مظلمًا تمامًا. مرت دقائقُ، ثم انطلقت في طريقها إلى الفضاء.
كانت الطائرة من نوع خاص، تتسع لعشرة من الركاب فقط، ولم يكن الشياطين يستخدمونها إلا في المغامرات الخاصة، والتي تحتاج وجود طائرة. أما في مغامرتهم العادية، فقد كانوا يستخدمون الطيران العادي كبقية المسافرين؛ ولذلك فقد كان يتحتم عليهم أن يصلوا إلى «نيويورك» قبل أن يطلع النهار. غير أن هذه المسألة لم تكن تشغل بالهم؛ لأنهم يعرفون أنهم سوف يصلون ليلًا لفارق التوقيت.
عندما استوت الطائرة في مجالها الجويِّ نظروا إلى بعضهم وابتسموا، فلم يكن في الطائرة سواهم، وطاقم القيادة؛ ولذلك فهم ليسوا في حاجة ليعقدوا صداقات، أو علاقات مع أحد من المسافرين؛ ولهذا فقد استسلموا للنوم. إن الشياطين يعرفون أنهم سوف يدخلون مغامرةً صعبةً؛ ولذلك فإن الراحة الآن ضرورية؛ لأنهم لا يعرفون متى يمكن أن يرتاحوا مرة أخرى.
وهكذا مرَّ الوقت سريعًا، ولم يستيقظوا إلا عندما تردد في فضاءِ الطائرةِ صوتُ موسيقى هادئة، وإن كانت مرتفعة نوعًا ما. عندئذ فتح «أحمد» عينيه، ونظر حوله. كان بقية الشياطين، يفتحون أعينهم وينظرون حولهم، وفي لحظات، كانوا قد بدءوا في الاستعداد، بعد أن جاءهم صوت قائد الطائرة يقول: مرحبًا بكم في «نيويورك»!
بعد دقائقَ كانت الطائرة تنزل في أحد أطرافِ مطار «نيويورك»، بعيدًا عن حركة المطار، والتي كانت لا تزال نشيطة. وبسرعة قفزوا منها إلى سيارة كانت في انتظارهم. وما إن أغلقوا أبوابها، حتى انطلقت في طريقها إلى خارج المطار، في اتجاه نيويورك التي يقع المطار خارجها.
كان الليل يغطي الطريقَ الأسفلتي، ولم يكن هناك سوى ضوءِ السيارة الذي يكشف الطريق أمامهم، في نفس الوقت كان الصمت يلفُّ كلَّ شيء. وحتى الشياطين لم تكن لديهم رغبةٌ في الكلام. لقد استغرقوا في التفكير، فها هم الآن يقتربون من المغامرة، التي ينبغي أن تبدأ فورًا. غير أن الموضوع الذي كان يشغلهم لم يتحدث فيه رقم «صفر»، وهو: إذا كان «الشبيهان» لا يمكن التعرف على أحدهما دون الآخرِ، فكيف يمكن ألا يقعوا في الخطأ …
اعتدل «أحمد» في جلسته، بينما كانت عيناه تمسحان وجوه الشياطين، ثم قال بلغتهم: هل فكر أحدكم في كيفية التعرف على دكتور «بالم» رقم «١»، أو «بالم» رقم «٢»؟!
ابتسم الشياطين، فقد كانوا يفكرون في ذات السؤال. غير أن «إلهام» قالت: أظن أن عميل رقم «صفر» لديه ما يمكن أن يفيدنا في ذلك!
كانت هذه إجابة طيبة، حتى إن «أحمد» قال: نعم.
وصمت الشياطين مرةً أخرى … كانت السيارة تقطع الطريق بسرعة، حتى إن مدينة نيويورك الضخمة كانت تلمع بأضوائها، وكأنها عقد من الماس تحت الضوء … مضت نصف ساعة، ثم دخلت السيارة المدينةَ التي كانت قد هدأت تمامًا. كانت الشوارع شبه خالية، إلا من عدد قليل من المارة. وأمام مبنًى ضخم في الشارع «٩٨» وقفت السيارة، وقرأ الشياطين لافتةً مكتوبًا عليها: «فندق جورج واشنطن.»
نزل السائق بسرعة، ثم اختفى داخل الفندق، وعاد بعد قليل. نظر إلى الشياطين مبتسمًا فنزلوا بسرعة، وأخذوا طريقهم إلى الفندق، في نفس الوقت الذي اختفت فيه السيارة. كان موظف الاستعلامات يقف مبتسمًا، فألقى عليه «أحمد» تحية المساءِ، ثم أخذ المفاتيح التي قدمها له، واتجهوا إلى حجراتهم مباشرة.
عندما استقرَّ «أحمد» داخل حجرته، رفع سماعة التليفون ثم تحدث إلى عميل رقم «صفر» الذي قال: أهلًا بكم. إن هذه ساعة مناسبة للحركة، سوف تجدون سيارة «كاديلاك» صفراء على بعد عشرين مترًا، على يمين الفندق. وفي التابلوه الأمامي، توجد صورة للدكتور «بالم». صمت لحظةً، ثم قال: مع الصورة سوف تجدون خريطةً للوصول إلى المدينة الصغيرة، ومدينة «رجال المستقبل» … إنني في انتظار ما تطلبون.
ثم وضعت السماعة في الطرف الآخر …
فكر «أحمد» لحظة، ثم أرسل رسالة سريعة إلى الشياطين، يخبرهم بمكان اللقاء بعد ثلاثِ دقائق. وبسرعة أعدَّ حقيبته السحرية، ثم أخذ طريقه إلى الخارج … وعند باب المصعد، كان الشياطين قد التقوا. وصل المصعد، فاختفوا داخله، ونزلوا في الطابق الأرضي، وفي هدوء، اتجهوا إلى الخارج. مشوا خطوات، ثم اتجهوا ناحية اليمين. كانت السيارة «الكاديلاك» الصفراء تقف بين عدد من السيارات الأخرى. أخرج «أحمد» مفتاحًا، ثم وضعه في باب السيارة وأداره، فانفتح الباب … وفي لحظة، كانت السيارة تنطلق وبداخلها الشياطين.
مدَّ «أحمد» يده إلى تابلوه السيارة وفتحه، ثم أخذ ما بداخله. كان مظروفًا أبيض اللون، مغلقًا بطريقة خاصة؛ فهو لم يكن مصنوعًا من الورق، بل من مادة صناعية، ضد الكسرِ والحريق. أعطى «أحمد» المظروف إلى «عثمان» الذي كان يجلس بجواره، فأخرج بطاريته الصغيرة وضغط على زر خاص، فأرسلت ذبذبات معينةً مرَّ بها على المظروف، فانفتح. أخرج صورة دكتور «بالم»، ظل يتأملها قليلًا، حتى تنطبع في ذاكرته، ثم قدمها إلى «أحمد» الذي ألقى عليها نظرةً سريعةً، وأعطاها للشياطين.
كان دكتور «بالم» في حوالي الخمسين، هادئ الملامح يلبس نظارةً طبيةً بيضاء. شعره أسود غزير، تتخلله بعض شعيرات بيضاء، حليق الشارب.
أخذ الشياطين يتأملونه في الوقت الذي كان «عثمان» مستغرقًا في تفاصيل الخريطة. كانت مدينة رجال المستقبل تقع على بُعد عشرين ميلًا من نيويورك، وسط المزارع. وكانت الخريطة واضحة التفاصيل، حتى إن «عثمان» أخذ يضبط أجهزة السيارة وبوصلتها على المكان، في الوقت الذي كان يقول فيه: إن المكان يعني لأول لحظة أن هناك حراسة مشددة خارجه. وما دام يقع في المزارع؛ فإن هذا يعني أن له مداخلَ خاصةً، وأن بداية المغامرة سوف تكون محاولة الدخول من هذه المداخل.
صمت لحظةً وانشغل في ضبط الأجهزة، بينما كان الشياطين يستمعون إلى كلماته التي قالها. ردت «إلهام»: لعلها ليست المرة الأولى التي ندخل فيها مغامرة تكون لها هذه البداية. إنها مسألةٌ سهلةٌ.
قال «باسم»: لا تنسَ أننا أمام عصابة علمية، أي إننا يمكن ألا نرى أحدًا، في نفس الوقت الذي يمكن أن تكشفنا أجهزة متقدمة، بل إنها يمكن أن تقبض علينا.
صمت الجميع، فقال «أحمد»: لا بأس …
نحن نسبق الحوادث. إننا سوف نكتشف هذه الأشياء عندما نقترب.
كانت السيارة قد تركت مدينة «نيويورك» الضخمة، وبدأت تدخل إلى منطقة المزارع. أبطأ «أحمد» من سرعة السيارة، حتى إن «خالد» قال: لا يزال الطريق طويلًا.
ردَّ «أحمد»: إننا نأخذ جانب الحذر حتى لا نصطدم بما لا نريد. إن أجهزة السيارة، سوف ترشدنا؛ ولذا نريد أن نعطي لأنفسنا بعض الوقت حتى يمكننا أن نتصرف.
أعطت السيارة إشارةً للاتجاه إلى اليمين، فانحرف «أحمد» بها إلى الاتجاه الذي أشارت إليه. كان يمشي بنفس السرعة البطيئة، في نفس الوقت الذي كان فيه الشياطين في حالة صمت كاملة. وقد تعلقت أعينهم بأجهزة السيارة التي كانت تعمل كلها، غير أن «أحمد» شعر أن هذه الحالة، تضع الشياطين في لحظة توتر غير عادية.
قال «أحمد» في هدوء: إنها مغامرة طيبة. وأنا أشعر بسعادة تامة؛ لأنني سوف أقابل «رجل المستقبل». إن هذا شيء مثير للغاية أن يعيش الإنسان في المستقبل، وهو على أرض الواقع.
وبسرعة دار حديث عن طبيعة هذا الإنسان الآلي الجديد، واحتمالات تفكيره وقدرة ذكائه، وتصرفاته. وهل هو يتصرف كما يتصرف الإنسان العادي؟ وهل يشعر مثله؟ أحسَّ «أحمد» أنه شغلهم في حديث ظريف، يمكن أن يلغي حالة الترقب التي يعيشون داخلها. لكن حديث الشياطين لم يستمر طويلًا؛ فقد لمعت لمبة حمراء في تابلوه السيارة، جعلت الأحاديث تتوقف، وجعلت السيارة تتوقف أيضًا.
وقال «أحمد»: إن هناك أجهزة مراقبة … أوقفت موتور السيارة.
كان الجو هادئًا تمامًا، ولم تكن هناك نقطة ضوء في الأفق.
غير أن هذا الهدوء كان يخفي أسرارًا كثيرةً، وكان على الشياطين أن يقابلوها حالًا.