مواجهة … مع دكتور بالم!
توقف «أحمد» قليلًا يفكر: هذا إنسان لا يفكر. ولا بد أن العقل الإليكتروني الذي يعمل به، سوف يكون مزوَّدًا بمعلومات خاصة، هي التخلص من كل ما يقابله؛ ولهذا يجب التعامل معه.
كان الإنسان الآلي ينزل السلم في ميكانيكية باردة. ظل «أحمد» في انتظاره، حتى اقترب منه تمامًا. كان لا يزال يمسك الجهاز في يده. ضغط زرًّا فيه، وهو يوجهه ناحيته. أصدر الجهاز ذبذبات معينة، جعلت الإنسان الآلي يتوقف. تقدم حتى مرَّ بجوار الإنسان الآلي. فكر بسرعة: إن الإنسان الآلي إذا نزل، فإن ذلك سوف يعطي إيحاء بأن أحدًا لم يدخل المبنى.
نفذ «أحمد» ما فكر فيه. رفع أصبعه عن الزرِّ فتوقفت الذبذباتُ، وبعد لحظة، كان الإنسان الآلي ينزل السلَّمَ.
أسرع «أحمد» بالصعود، حتى انتهى من درجات السلم. كانت هناك صالة واسعة، وباب واحد فقط. قال في نفسه: إن ذلك يسهل المهمة.
ثم وجه الجهاز إلى الباب، وضغط أحد أزراره، فانفتح الباب في هدوء. ودون أن يحدث أي صوت، تقدم في حذَر وأطلَّ.
وجد معملًا واسعًا. كانت هناك أحواض زجاجية كبيرة، عدد ضخم من الآلات والمعدات، توقف يرقب العمل، ثم تقدم. ابتسم، فكر قليلًا، ثم قال في نفسه: لعلها تجربة جديدة لصناعةِ إنسان جديد. انتظر قليلًا، كان يفكر: إن دكتور «بالم» رقم «١» أو رقم «٢»، ليس موجودًا. وما ذكره القائد عن أهمية المبنى الرابع، هو هذه التجربةُ ذاتها … غير أن ما يبحث عنه «أحمد» لم يكن هو التجربة، إنه يريد دكتور «بالم» نفسه …
أسرع يغادر المكان، لكنه ما كاد يصل إلى الباب، حتى فوجئ باثنين يقابلانه. وقفا لحظةً ينظران إليه في دهشة، ويبدو أنهما لم يكونا يتصوران وجود أحد. وكانت هذه اللحظة كافية، ليتصرف «أحمد»؛ فقد طار في الهواء وهو يوجه إلى كل منهما ضربة قوية، إلا أنهما كانا على استعداد لذلك … فقد انبطحا على الأرض، حتى إن «أحمد» أصبح خارج المعمل. وبرغم أنه كان يستطيع أن يفلت منهما باستخدام السلم؛ فإنه يعرف أنهما يمكن أن يعلنا عن وجود الشياطين؛ ولذلك فقد ارتدَّ عائدًا إليهما، في قوة، قبل أن يقفا تمامًا، وضرب أقربهما إليه لكمةً أصابت وجهه. وقبل أن يجد الآخر فرصةً ليلتحم معه، كان قد وجه إليه شمالًا قوية أطاحت به، حتى إنه اصطدم بالباب. في نفس اللحظة كان الأول قد قفز على «أحمد»، وحاول أن يكبِّل ذراعيه؛ إلا أن «أحمد» استطاع أن يضربه ضربةً جعلته يصرخ، ثم عاجله بأخرى، فانحنى من الألم. فأكمل عليه بضربة أخيرة، جعلته يسقط بلا حراك. كان الآخر قد بدأ يُفيق من صدمة الباب، إلا أن «أحمد» كان أسرع إليه فضربه، غير أنه كان بارع الحركة؛ فقد ضرب «أحمد» ضربةً قويةً أطاحت ﺑ «أحمد» بعيدًا. وقبل أن ينزل إلى الأرض، كان الرجل قد أخرج مسدسه، غير أن «أحمد» كان أسرع منه، فقد انبطح على الأرض، ودار حول نفسه دورة كاملة. بينما كانت طلقة سريعة قد خرجت من مسدسه، لتصيب مسدس الرجل الذي وقف مذهولًا، أمام خفة وبراعة «أحمد».
ظل الرجل في وقفته مشدوهًا لا يتحرك. اقترب «أحمد» منه في حذر، خوفًا من أن يسدد إليه لكمة مفاجئة، أو يقوم بحركة غير متوقعة. غير أن الرجل لم يتحرك، وإن كان قد قال بصوت كأنه الهمس: من أين جئت؟
ابتسم «أحمد» وقال: من السماء!
فتح الرجل عينيه في دهشة، وكأنه صدق كلمات «أحمد» الساخرة. وفي حركة مفاجئة، استطاع «أحمد» أن يقبض على ذراع الرجل، إلا أنه كان قويًّا، بما يكفي لأن يدخل «أحمد» معه في صراع قوة. تراجع «أحمد» نصف خطوة، ثم ضربه ضربة قوية، وترك ذراعه. اندفع الرجل كالسهم، حتى اصطدم بدرابزين السلم، ثم سقط بلا حراك. أسرع «أحمد» إليه فأوثق يديه جيدًا، ثم سحبه إلى داخل المعمل، عاد مرةً أخرى إلى الرجل الثاني، فأوثقه وسحبه إلى الداخل ثم خرج.
أخرج جهازًا، ثم ضغط على أحد أزراره، وهو يوجهه إلى الباب فأغلق. لم يكن «أحمد» يريد أن يلبس أي شيء في المبنى، خوفًا من أن يكون معالجًا بطريقة خاصة يمكن أن تودي بحياته. خطا خطوةً في اتجاه السلم، لكنه فجأة سمع من ينادي: «دارك»، «جوزي» … أين أنتما؟
ألقى نظرة سريعة إلى أسفل، كان هناك ثلاثة من الرجال يتقدمون في سرعة، ثم بدءوا يصعدون السلم. نظر حوله فلم يجد مكانًا يمكن أن يلجأ إليه. فكر بسرعة، ثم أسرع إلى الباب، وفتحه عن طريق الجهاز. ترك الباب مفتوحًا بعض الشيء ثم وقف خلفه. فكر: إنهم سوف يدخلون واحدًا واحدًا، ويمكن ضرب اثنين معًا، ثم اصطياد الثالث … تحفَّز.
جاءه صوت أحدهم ينادي: «جوزي»، «دارك»، أين أنتما؟
دفع أحدهم الباب في عنف كان يتوقعه «أحمد» فارتد مسرعًا، غير أنه اندفع بكامل قوته، ودفع الباب دفعة قوية. كان أولهم قد أصبح في منتصف الباب، والثاني خلفه مباشرة، بينما الثالث يبعد عنهما خطوة واحدة. لقد تحقق هدف «أحمد» تمامًا. صدم الباب أولهم صدمةً قوية، جعلته يرتد في عنف، ليصطدم بالثاني، ويسقطا معًا، في نفس اللحظة. كان «أحمد» قد أسرع في الخروج من المعمل، ليقابل الثالث، الذي كان قد أخرج مسدسه. وقبل أن يضغط على الزناد، دوت طلقات في الهدوء، وسقط الرجل يصرخ من الألم.
نظر «أحمد» حوله فلم يجد سوى الرجلين، يقومان بسرعة. وقبل أن يتحرك أحدهما، كان «خالد» قد ظهر عند السلم. فهم «أحمد» بسرعة أن خالد هو الذي أطلق الرصاصة. في لمح البصر، كان كلٌّ منهما قد اشتبك مع واحد من الرجلين، وفي دقيقة كان الموقف قد انتهى. وبسرعة تعاونا في نقل الرجال الثلاثة إلى داخل المعمل. وبسرعة أيضًا كان «خالد» يقول ﻟ «أحمد» ما تم. لقد نفذ الشياطين الخطة المتفق عليها، فمدوا حزامًا من المتفجرات حول المدينة، وأصبح من الممكن نسفها في أي لحظة؛ إلا أن ذلك لا يمكن تحقيقه الآن؛ لأن الشياطين لا يعرفون أين يوجد دكتور «بالم»؟
قال «خالد»: إن الشياطين في الخارج، في انتظار رسالة ما ليتحركوا …
فكر «أحمد» قليلًا، ثم قال: ينبغي ألا يتحركوا الآن؛ فنحن لم نعرف أين يوجد دكتور «بالم» … يجب أن نتحرك بسرعة حتى نرى بقية الأبنية.
قال «خالد»: من الواضح أن الأبنية ليست بعيدة عن بعضها، ويمكن أن تتحقق من خلال إحدى النوافذ. إن ذلك يمكن أن يختصر الوقت، ويختصر مراحل الصدام أيضًا.
كانت فكرة طيبة؛ ولذلك أسرع الاثنان بدخول المعمل، كانت هناك نافذة مغلقة. أخرج «أحمد» الجهاز ثم سلطه عليها. انفتحت النافذة عن آخرها، تقدم «أحمد» ونظر إلى المبنى المقابل. كانت المسافة معقولةً، قال: إن قفزة محكمة، يمكن أن توصلنا إلى المبنى المقابل.
استجمع نفسه، ثم تراجع قليلًا، وقفز قفزة هائلة، أوصلته إلى سطح المبنى المقابل، وكان في نفس مستوى المبنى الرابع. أشار إلى «خالد» الذي تراجع هو الآخر، ثم قفز قفزة واسعة، فتلقاه «أحمد» بين ذراعيه. لم يكن بسطح المبنى أي منفذ يمكن أن ينفذا منه إلى الداخل؛ إلا أن هذه لم تكن مشكلة … نظر «أحمد» إلى أسفل، ثم أخرج حبلًا من مادة خاصة، أمسك «خالد» بطرفه، ثم أحاط به وسطه. تعلق «أحمد» في الحبل ثم نزل على جدار المبنى حتى النافذة. أخرج الجهاز وسلطه عليها فانفتحت، غير أن الدهشة ملأت وجهه. لقد كان هناك اثنان متشابهان تمامًا، وقد جلسا معًا، يتحدثان بطريقة خاصة. قال في نفسه: إن المهمة أصبحت سهلة؛ فهذا دكتور «بالم» رقم «١»، وشبيهه الآلي معًا.
نظر إلى «خالد» وأشار إليه. كانت المشكلة، أين يمكن أن يربط «خالد» طرف الحبل الرفيع؟ إلا أنه تصرف بسرعة، فأخرج من حقيبته السحرية خطافًا صغيرًا، غرزه في السقف، ثم ربط فيه طرف الحبل. وفي هدوء بدأ ينزل، إلا أن طلقة دوت في الفضاء ومرت بجواره. ترك الحبل وهو يقفز إلى الأرض، فلم تكن المسافة بعيدة. وفي الوقت الذي كان فيه «أحمد» قد دخل الحجرة الواسعة، حيث كان الدكتور «بالم» وشبيهه الآلي يجلسان دون أن يرياه، كانت الطلقة لافتة للنظر. فقد التفت «بالم» فجاءت عيناه في عيني «أحمد». ظهرت الدهشة على وجه «بالم» رقم «١»، أما الآلي فلم يُبدِ اهتمامًا. كان «أحمد» ينظر إليهما، دون أن يستطيع حتى هذه اللحظة أن يحدد بالضبط من هو الحقيقي «١»، ومن هو الآلي؛ ولذلك فقد ابتسم وهو يقترب منهما.
قال في ثقة: ينبغي أن تسمعني جيدًا، وأن تثق في كل كلمة أقولها. أنت طبعًا تعرف السيد «دونهايم»!
قال «بالم» الحقيقي: أعرفه طبعًا، إنه صديق، وهو المسئول عني وعن تجاربي.
عندئذ عرف «أحمد» «بالم»: إنني أتحدث إليك من أجل مصلحة العالم.
في نفس الوقت كان «أحمد» يحاول أن يؤكد في ذاكرته صورة «بالم» الأصلي. إن الفارق الوحيد بينهما هو الملابس فقط. كان «بالم» الأصلي يلبس بذلة كحلية اللون، بها خط فِضي. وكان «بالم» الآخر يلبس بدلة كحلي فقط، ليس فيها شيء. ولو أنهما تبادلا الملابس، فإن أحدًا لا يستطيع أن يفرق بينهما، ليعرف من هو «بالم» الأصلي، ومن هو «بالم» المصنوع.
قال بسرعة: إن المدينة محاطةٌ الآن بحزام من المفرقعات التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لينفجر معها كل شيء هنا.
ظهر الفزع على وجه «بالم» الحقيقي، إلا أن «أحمد» أسرع يضيف: نحن نستطيع أن نخرج من هنا حالًا، قبل أن يحدث أي شيء.
فجأةً، ارتفع صوت طلقات الرصاص. توقَّف «أحمد»، وهو يقول: لقد بدأت المعركة، وأخشى أن تنتهي بانفجار المدينة.
قال «بالم» الأصلي: لا، ماذا تريد؟ ومن أنت؟ وكيف دخلت إلى هنا؟
ابتسم «أحمد» قائلًا: هذه حكاية طويلة، سوف تعرفها فيما بعد. المهم الآن أن أنقذك وأنقذ تجربتك هذه قبل أي شيء آخر. غير أن صوت «أحمد» لم يصل إليهما، فقد كان صوت الطلقات يعلو على أي صوت آخر.
فصرخ «بالم»: إنني لا أسمعك أيها الشاب …
صاح «أحمد»: وأنا أيضًا لا أستطيع أن أسمعك …
تقدم «بالم» الآخر من «أحمد» بشكل آلي. كان يبدو ثائرًا، وإن كان يحاول أن يكون هادئًا. كان «أحمد» يتأمله، وإن كان قد استعد لأي حركة يمكن أن يقوم بها.
قال «بالم» الحقيقيُّ: ماذا تريد من هذا الإنسان الآلي؟
ابتسم «أحمد» وقال: لقد جئت من أجل إنقاذ «د. بالم» وتجربته.
اقترب دكتور «بالم» وقال بصوت مرتفع، حتى يسمعه «أحمد»: إنك تنتمي إلى إحدى المنظمات … أنا أعرف أن ذلك سوف يحدث، لكنني أستطيع أن أنهي كل شيء الآن.
قال «أحمد» في ثقة: صدقني يا سيدي … إنني جئت لإنقاذك، وإنقاذ تجربتك الفريدة التي يمكن أن تفيد الإنسانية، بدلًا من أن تكون ضدها …
نظر دكتور «بالم» إلى «أحمد» في دهشة، وقال: وكيف عرفت أنني أقوم بتجارب؟
قال «أحمد»: ليست هذه المشكلة، فسوف تعرف كل شيء فيما بعد … فقط يجب أن نخرج بسرعة من هذا المكان، بل من هذه المدينة كلِّها، قبل أن يحدث شيء.
نظر الدكتور «بالم» إلى «أحمد»، وقال: إنني أكاد أصدقك … وإن كنت أشكُّ بعض الشيء …
فجأةً، انفتح الباب، وظهرت مجموعة من الرجال، يحملون مسدساتهم. لقد تعقَّد كل شيء …