الوسائل والغايات
نستعير هذا العنوان من الكاتب الإنجليزي المعروف ألدوس هكسلي، ولكننا لا نستعيره لبحث عن المشكلات العليا التي بَحَثَ عنها في كتابه المشهور، وإنما نستعيره لبحث عن مشكلات يسيرة متواضعة، تُلائم حياتنا اليسيرة المتواضعة. فقد خُلِقَتْ مصر — فيما يَظْهَر — لتنهض بجلائل الأعمال وعظائم الأمور، ودلَّ تاريخُها كله على أنها قد يُسِّرَت لما خُلِقَتْ له، فنهضت بجلائل الأعمال وعظائم الأمور في عصورها القديمة والمتوسطة، ولكنها في هذا العصر الحديث — أو بعبارة أدق: منذ كان الاحتلال البريطاني — قد أُكرِهَتْ على التواضع والتضاؤل والاكتفاء بهذه الحياة اليسيرة الضئيلة، التي لا يأكل الإنسان فيها ويشرب وينام ويستيقظ ليعيش، ثم ليأتي في حياته بما ينفعه وينفع الناس، وإنما يعيش الإنسان فيها ليأكل ويشرب وينام ويستيقظ، ثم لا يزيد على ذلك شيئًا، ولا يأتي من الأعمال بما يَنْفَع أو يفيد!
نستعير إذن هذا العنوان الخطير من الكاتب الإنكليزي العظيم لبحث مُتَوَاضِع يسيرٍ ضئيل كحياتنا المتواضعة اليسيرة الضئيلة، وأول ما نلاحظه في هذا البحث الذي لا خَطَرَ له ولا قيمة، والذي نرجو مع ذلك أن يقرأه الناس ولو نيامًا كما يُقْدِمون على كل شيء في هذه الأيام وهم نيام كالأيقاظ أو أيقاظ كالنيام، أن نَفْس الأمة المصرية مريضة منذ كان الاحتلال البريطاني بمرض يُفسِد عليها حياتها كلها، ولن تستقل الحياة الخصبة المنتجة إلا إذا برئت من هذا المرض، وهو الاشتغال بالوسائل عن الغايات، وبالظواهر عن الحقائق. تلاحظ آيات هذا المرض في سيرتها كلها، سواء منها ما يتصل بحياتها العامة، وما يتصل بحياتها الخاصة، وسواء منها ما يتصل بالجد الذي يُقصَد به إلى الإنتاج، وما يتصل بالترفيه الذي يُقصد به إلى الراحة والاستجمام!
فالمصري كما قدَّمتُ لا يأكل ليعيش، وإنما يعيش ليأكل، وهو كذلك لا يستريح ليُنتج، وإنما يُنتج ليستريح؛ إن أُتيح له شيء من إنتاج. وهو لا يتعلم لينتفع بعلمه وينفع الناس، ولا يتخذ المنصب وسيلة إلى هذا النفع؛ وإنما يتعلم ليجد المنصب، ويجد المنصب ليقبض المرتب آخِرَ الشهر، ويقبض المرتب ليعول أهله كما يستطيع أولًا، ثم ليختلف إلى الأندية والقهوات بعد ذلك، فيخوض من لغو الحديث وسخف القول فيما شاء الله أن يخوض فيه!
•••
وحياته العامة كحياته الخاصة، قد أُصيبت بهذا العرض من أعراض المرض، فلَزِمَها في كل فروعها! وقد يكون مما يُضحك ويُسلِّي — إن كان في الشر ما يُضحك ويُسَلِّي — أن تلاحظ أن مَصْدَر هذا المرضِ في حياتنا العامة خطأٌ يسير في الحكم والتقدير …
فقد قامت النهضة المصرية الحديثة كلها على فكرة خطيرة خصبة؛ هي أن مصر قد اضطرت أيام التُرك العثمانيين إلى الركود والخمود، ومَضَتْ أوروبا في طريقها إلى الرُقِيِّ حتى سادت العالَم وسيطرَتْ عليه، ففَكَّر زعماء النهضة منذ أول القرن الماضي في أن أول ما يجب على مصر هو النشاط الذي يُتيح لها أن تُدرِك أوروبا، وأن تأخذ بأسباب الحضارة كما أَخَذَتْ بها، وتسعى إلى الرُقِيِّ كما سَعَتْ إليه، فكان التشبُّه بأوروبا في أول النهضة وفي أثنائها أيام محمد علي وإسماعيل وسيلة لا غاية. لم يُفَكِّر محمد علي وأعوانه، ولم يفكر إسماعيل ومُشِيرُوه في أن تكون مصر كأوروبا؛ لأن التشبه بأوروبا غاية من الغايات التي تُقصَد لنفسها، وإنما فَكَّر محمد علي وإسماعيل وأعوانهما ومشيروهما في أن أوروبا قد غيَّرت من حياة القرون الوُسطى، فأُتيح لها رُقِيٌّ في النُظُم الاجتماعية والسياسية، كفل لشعوبها حُرِّيَّة بعد استعباد، وعدلًا بعد جور، واستعلاءً في الأرض بعد أن كانت مُستضعفة متهالكة، فأراد محمد علي وإسماعيل وأعوانهما أن تسترد مصر حرية بعد استعباد، وعدلًا بعد جور، ومساواة بعد تَفَاوُت، وعزة بعد ذلة.
ولكن هذه الوسيلة لم تَلْبَث أن أصبحت غاية في نفوس كثير من المصريين، ثم في نفوس أكثر المصريين، ثم في نفوس المصريين جميعًا، إلا أفرادًا قليلين يمكن أن يبلغهم الإحصاء! فليس المهم الآن هو أن يتحقق في مصر مثلما تحقق في أوروبا من العدل الاجتماعي والسياسي، وإنما المهم هو أن توجد في مصر النظم والأدوات التي اتخَذَتْها أوروبا وسيلة إلى تحقيق العدل السياسي والاجتماعي، سواء أكان لهذه النُّظُم والأدوات من الإنتاج مثلما كان لها في أوروبا أم لم يكُن!
في أوروبا وزارات منظَّمة، فيجب أن تكون في مصر وزارات منظَّمة؛ لتصبح مصر كأوروبا، سواء أَعَمِلَتْ الوزارات المصرية كما تعمل الوزارات الأوربية، أم اكتَفَتْ بوجودها ليعْرِفَ العالَم أن مصر ليست أقَلَّ من أوروبا تقدُّمًا ولا رُقيًّا.
وفي أوروبا دساتير مكتوبة تُنَظِّم ما للشعب من حقوق، وما عليه من واجبات، فيجب أن يكون لمصر دستور مكتوب، يُنَظِّم ما للمصريين من حقوق وما عليهم من واجبات. وليس ضروريًّا أن يُنفَّذ الدستور في مصر على وَجْهه، ولا أن تُحْتَرم الحُرِّيَّات التي يَكْفُلها للناس، ولا أن تجري الحياة البرلمانية نَقِيَّة من كل شائبة، مُبرَّأة من كل عيب، ولا أن يَذْهَب الشعب إلى حيث يَنْتَخب مُمَثِّليه حُرًّا آمنًا على ضميره مِنْ أَنْ يَعْبَث به الترغيب أو الترهيب، ولا أن يؤدي النواب والشيوخ واجباتهم في مراقَبة الحكومة ومحاسبتها أحرارًا آمنين على ضمائرهم ومصالحهم القريبة والبعيدة، ولا أن تقف الوزارة أمام البرلمان مَوْقِف المسئول عن أعماله بالفعل، ولا أن يَثِقَ البرلمان بالوزارة فتَبْقَى، ويَسْخَط عليها فتزول! ليس شيء من هذا كله ضروريًّا، وإنما الضروري الذي لا يصح الإغضاء عنه ولا التقصير فيه هو أن يكون لمصر دستور مكتوب كما أن لكل بلدٍ راقٍ في أوروبا دستورًا مكتوبًا!
•••
وقد يكون من الظريف أن تلاحظ أننا حين نتمدَّح بالدستور لا نتمدح بأنه يُمَتِّعنا بالحرية والعدل والمساواة حقًّا، وإنما نتمدح بأنه كأحدث الدساتير الأوروبية، أمرُنا في الدستور كأمْرِنا في الأزياء وفي أزياء السيدات بنوعٍ خاص، لا ينبغي أن يُبْعَد بها العهد، وإنما ينبغي أن تأتي من أشهر دُور البِدَع في باريس، أو أن تكون صورة طبق الأصل لما تُنْتِجه أشهر دُور البدع في باريس.
والأزياء التي تأتي من باريس تُكلف الذين يشترونها ثمنًا غاليًا، فيجب أن يُكَلِّفنا الدستور الذي هو كأحدث الدساتير الأوروبية ثمنًا غاليًا أيضًا. ولستُ أَذْكُر نفقات الانتخاب ولا المكافآت البرلمانية، ولا المرتبات التي يتقاضاها الموظَّفون في البرلمان، وإنما أَذْكر المرافق المُهمَلَة، والمنافع المُضَيَّعة، والأخلاق التي اشْتَمَل عليها الفساد! فهذه هي الأثمان التي يجب أن نؤديها ليكون لنا دستور مكتوب كأحدث الدساتير المكتوبة في أوروبا. ولكل بلد من البلاد الراقية جيش مُنَظَّم على أحدث طراز، فيجب أن يكون لنا جيش مُنَظَّم على أحدث طراز، نُنْفِق عليه الملايين «المُمَليَنة» إن أجاز المجمع اللغوي هذا التعبير! وليس ضروريًّا أن يكون هذا الجيش أو لا يكون قادرًا على حماية مصر من المُغِيرين، بل ليس هناك بأس من أن يحتفظ هذا الجيش بكبريائه، وتمتلئ قلوبنا نحن بالكبرياء؛ لأن لنا جيشًا منظَّمًا على أحسن طراز في نفس الوقت الذي يَحْتَل فيه مصرَ جيش أجنبي مُنَظَّم كذلك على أحسن طراز … ومَن يدري؟ لعل هذه ميزة مصر، فليس في أرضها جيش واحد وإنما جيشان كلاهما منظم على أحدث طراز!
وفي كل بلد من البلاد الراقية وزارة للتعليم، فيجب أن تكون لنا وزارة للتعليم، وقد تلاحظ أن الجاهلين في مصر ما زالوا هم الكثرة الكثيرة، وأن المتعلمين ما زلوا هم القِلَّة القليلة. ولكن هذا كُلَّه ليس ذا خطر؛ فوزارة التعليم لا يُراد منها إزالة الجهل ونَشْر التعليم، كما أن وزارة الصحة لا يراد منها إزالة المرض ونَشْر الصحة، وكما أن وزارة الشئون الاجتماعية لا يُراد منها إزالة الشقاء وإشاعة الثراء، وإنما الذي يُراد من هذه الوزارات ومن غير هذه الوزارات كالذي يُراد من الدستور ومِنْ كُلِّ نُظُمنا الحديثة؛ هو أن توجد لنستطيع أن نقول وقد رَفَعْنَا الرءوس وشَمَخْنَا بالأنوف ونَظَرْنَا إلى السماء وأَبَيْنَا أن نَنْظُر إلى الأرض: «إن مصر بلد حديث، فيه كل النظم التي تستمتع بها البلاد الحديثة الراقية!»
وويلٌ لنا إِنْ نَظَرْنا إلى الأرض؛ فقد نرى على الأرض إنْ نَظَرْنَا إليها شعبًا جاهلًا مريضًا فقيرًا، لا يوجد في أوروبا ولا في غير أوروبا من البلاد الراقية المتحضرة! فلننظر إلى السماء، وإلى السماء وَحْدها، ولنكتفِ بالوسائل ولنتجنَّب الغايات!
•••
هذه هي العلة التي تُفْسِد على مصر حياتها كلها في هذه الأيام …!
فالذين يريدون الإصلاح ويلتمسون إليه الوسائل، والذين يختصمون في تعديل الدستور، والذين يريدون تقويم الأداة الحكومية، والذين ينفخون في القِرَب المقطوعة، وينقشون على صفحات النيل، ويريدون أن يقرءوا ما ينقشون، كل هؤلاء خليقون أن يراجعوا أنفسهم، وأن يُفَكِّروا في أن لا سبيل إلى الإصلاح حتى يَقَرَّ في نفوس المصريين عامةً، وفي نفوس القادة والساسة خاصةً أن الاستقلال والدستور ونُظُم الحكم والوزارات والمصالح … كل هذه وسائل لا تُقصَد لنَفْسها، وإنما تُتَّخذ أدوات لشيء آخر هو الذي يَجِب أن نُفَكِّر فيه ونَحْرص عليه؛ وهو سعادة الشعب، أو على أَقَلِّ تقدير: تخفيف ما يلقى الشعب من الشقاء!
أَمِن الممكن أن نُقِرَّ في نفوس المصريين أن من الحق عليهم لأنفسهم ولتاريخهم ولمستقبل وطنهم أن ينظروا إلى الوسائل على أنها وسائل لا على أنها غايات؟!
مسألة فيها نظر …!