لبنان
تلقَّاني مُشرِق الوجه، باسِم الثغر، سمْح النفس، رقيق الشمائل، عذْب الحديث، ولم يَدَعْ لي فرصة تَسْمَح بسؤاله أو الإدلاء إليه بما كُنْتُ أريد، وإنما مضى في التأهيل والتسهيل والترحيب حتى أغْرَقَني، وأغْرَق من كان معي من الرفاق في بحرٍ من التحيَّات لا ساحل له. وكانت الساعة ساعة الشاي، وإذا هو يضرب يدًا بيَد فيُقْبِل الخَدَم مِنْ كل وَجْه، فيُلقي الأمر هنا وهناك، ويَتَلَقَّى منه الأمْرَ هذا الخادمُ أو ذاك، ثم يعود إلينا مُضيفًا تحية إلى تحية، ومُردِفًا ترحيبًا بترحيب، كأنه كان لي صديقًا حميمًا قد بَعُد العهْدُ بيْنه وبيْني، فهو سعيد باللقاء المفاجئ بعد الفراق الطويل الأليم.
وأنا أسمع لهذا الحديث المتَّصِل في ذهول، وأتلقَّى هذه التحيات المترادفة في وُجوم، فلم أكن لَقِيتُ هذا الرجل الكريم قط، ولم أكن سَمِعْتُ به قبل ذلك اليوم قط، وإنما كُنْتُ رجلًا مُصْطافًا قد أَقْبَل بأهله يلتمس شيئًا من الراحة والدعة واعتدال الجو في لبنان، بعد أن أَنْهَكَهُ العمل، وأحرقه القيظ، وثقُلَت عليه الحياة في مِصْر.
وكانت الطريق إلى أوروبا مقطوعة؛ قَطَعَتْها الحرب، وكانت الحياة في الإسكندرية على اعتدال جَوِّها مُضْنِية مُشْقِية لا تُعْفِي مِنْ عَمَل، ولا تُرِيح مِنْ عَنَاء، ولا تُتِيح هذا التغيير الذي نحتاج إليه بعد أن نَعْمَل عملًا مُضنيًا ثقيلًا مختلفًا عامًا كاملًا. فلم يكن بُدٌّ من التماس الراحة في لبنان.
وقَصَدْنَا إلى لبنان حين تقدم فصل الصيف، وازْدَحَمَت الفنادق بالمُصْطافِين حتى استعان أصحابها أهل القرى، يُضَيِّفُون عندهم من لا يَجِدون له مكانًا في فنادقهم. وكُنْتُ قد سَمِعْتُ بهذا كُلِّه قَبْل أن أَعْبر الصحراء إلى فلسطين، واستوثقت من هذا كله حين بَلَغْتُ القدس وأَقَمْتُ فيها أيَّامًا. ولكن مع ذلك مَضَيْتُ إلى لبنان، فلم يكن بُدٌّ من المُضيِّ إليه، ومَضَيْتُ إلى هذه القرية بعينها لكثرة ما حدَّثَنِي الناس عنها، وإلى هذا الفندق بعينه؛ لأنه كان أضخم فنادق القرية بناءً، وأَرْحَبَهَا فِناءً، وأَكْثَرَها حجرات وغرفات، وأَجْدَرها أن يُؤْوِيَ مَنْ يَطْرُقُه بعد أن تقدَّم الصيف.
فلا أكاد أَبْلُغه حتى يلقاني صاحبه بهذا السيل المتدفِّق من التحية والتكريم، فيُدهشني ما أَلْقَى من ذلك، وأَثْبت لهذا السيل ما وَجَدْتُ إلى الثبات سبيلًا، ثم أنتهِز فرصةً هدأ فيها صاحبي شيئًا من هدوء، كأنه أراد أن يتنفَّس ويَبْلَع ريقه بعد أن أَسْرَف في العَدْوِ، فأسأله: أَتَظُنُّ أنَّ في وُسْعِك أن تُسْكِننا في هذا الفندق؟ وكأنما مَسَسْتُ بهذا السؤال محرِّكًا كهربائيًّا، فلا أكاد أَفْرُغ من إلقائه حتى يندفع صاحبي في حديثٍ آخر عَذْب مُتَّصل كأنه السيل، فما حاجتي إلى الفندق أَلْتَمِس فيه الحجرات والغرفات، ولي في القلوب ما شاء اللَّه من المَساكن، أتبوَّأُ منها حيث أشاء، وأتنقَّل بينها كما يتنقَّل الطائر الغرد على الأغصان في الحدائق والجنات.
قُلْتُ لصاحبي — وقد رضيتُ كل الرضى عن هذا الشعور، وأشفَقْتُ كل الإشفاق أن يكون سرابًا يَحْسَبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا، ووَجَد عنده الليل لا يدري أين يقضيه — قُلْتُ لصاحبي: لقد شَمَلْتَني بكَرَمِك، وغَمَرْتَني بلطفك، وإني لسعيد بسُكْنى القلوب، ولكنك ترى أن القلوب لا تُغني عن الحجرات والغرفات شيئًا، وأن الذين احتملوا مَشَقَّة السفر منذ أَشْرَقَت الشمس إلى أن كادَتْ تَجْنَح إلى الغروب مُصَوِّبين ومُصَعِّدين تمخضهم السيارة مَخْض القِرَب، أَحْوَج إلى غرفة يتخفَّفُون فيها من عناء السفر، وإلى سريرٍ يُلْقُون عليه ثقل التعب؛ منهم إلى قلوب يَجِدون فيها الحب والود والبر والحنان، فإذا اجْتَمَعَتْ لهم سُكنى القلوب وسُكنى الغرفات كانوا أَسْعَدَ الناس سعادة وأَنْعَمَهم نعيمًا … قال صاحبي — وقد أَخَذَهُ ضحك عريض عميق: فأنتم إِذَنْ أَسْعَد الناس سعادةً وأَنْعَمُهم نعيمًا؛ لأنكم تَسْكُنون القلوب دائمًا، وستسكنون الغرفات متى أصبتم شيئًا من أكواب الشاي هذه التي يسعى إليكم بها الخدم.
هنالك اطمأنَّ قلبي، ورضِيَتْ نفسي، وعَرَفْتُ أني لن أطوف في القُرى، وأنَّا لن نُنْفِق الليل بالعراء، فأقْبَلْت على ما قدَّم إليَّ من طعامٍ وشراب مغتَبِطًا مبتهِجًا، وأصبتُ منهما ما شاء الله أن أصيب.
قال صاحب الفندق مبتسمًا في حديثه الشعري العذْب: أيهما أَحَبُّ إليك: أن تسمع صَمْت الطبيعة؟ أم أن تَسْمَع ضجيجها وعجيجها؟ قُلْتُ متضاحكًا في شيء خَفِيٍّ من الوجل: فإن هذا موضوع خطير خصْب يَحْسُن أن نُرجئ الخوض فيه إلى الغد بعد أن أكون قد أَخَذْتُ من الراحة بنصيب. قال وقد أَغْرَقَ في الضحك: هيهات يا سيدي؛ فإنك مُضْطَرٌّ إلى أن تجيب على هذا السؤال لأعرف أَيْن أُنْزِلك، وإلى أي نوع من غرفات هذا الفندق يجب أن آويك؛ فإن غرفاتنا يُطِلُّ بعضها على جهة البحر فلا يسمع الساكن فيها إلا صَمْتَ الطبيعة الهادئة المطمئنة، يرى البحر من بعيد ينبسط أمامه إلى غير حد، ولكنه لا يَسْمَع له هديرًا ولا زئيرًا، وإنما يَنْعَم بمنظره الرائع ونسيمه البليل العليل. وبعض غرفاتنا يُطِلُّ على هذه الجنة المنبسطة التي ترتفع أشجارها العتيقة في السماء، وفي هذه الجنة من صرير الجنادب ما يَشُقُّ على السمع أَوَّل الأمر، ولا يُتيح للناس أن يَسْمَع بعضهم حديث بعض إلا في شيء من الجهد والعناء، فأين تريد أن تنزل؟ وأين تحب أن تقيم؟ أتؤثر صَمْت الطبيعة وهدوءها والإشراف على البحر والجبل جميعًا؟ أم تؤثر لَغَطَ الطبيعة وَصَخَبَها والإشراف على الزهر والشجر؟ قُلْتُ: فإني مُتْعَبٌ مكدود من اللغط والصخب، فالراحة أَحَبُّ إليَّ، والهدوء آثَرُ عندي.
قال: لا بأس، ومع ذلك فينبغي أن تزوروا الغرفات الصامتة والغرفات الصاخبة، وأن تختاروا بعد التجربة والممارَسة. قُلْتُ: ذاك إليك، وهؤلاء رفاقي طوِّف بهم في الغرفات والحجرات كما تشاء، وأنا راضٍ بما يختارون.
ومضى ومضى معه الرفاق، فغابوا عني ساعة وَجَدْتُ فيها شيئًا غير قليل من الراحة، وفكَّرتُ في أثنائها تفكيرًا يُمازجه الإشفاق والرضى في صاحب هذا الفندق الذي يُحِبُّ الحديث ولا يكاد يتحدَّث إلا شِعرًا، ولكن لم أَلْبَثْ أن وَجَدْت الطمأنينة، فهذا الرجل مشغول بفندقه وضيفه، ولن يفرغ لي من دون هؤلاء الضيف الذين يزدحم بهم الفندق والذين لا تنقضي حاجتهم، والذين لا يَجِدُون ما يعملون، فهُم في حاجة إلى أن يقولوا ويسمعوا. ثم أَقْبَلَ عليَّ ومعه الرفاق يُنبئونني بأنني سآوي إلى غرفة صامتة إذا كان الليل، وإذا احْتَجْتُ إلى الراحة أثناء النهار، وسأنفق أكثر النهار في جنة الفندق، أتبوَّأُ منها حيث أشاء؛ فهي واسعة فسيحة ظليلة مختلفة، فيها الأماكن التي تَجْمَع من سكان الفندق والقرية طلاب الحديث واللعب والمنادمة، وفيها الأماكن التي يأوي إليها مُحِبُّو العُزلة والراغب أن يَفْرُغ لنفسه أو لكتابه، أو لِمَا أَحَبَّ مِنْ عَمَلٍ، وفيها أماكن الرياضة للاعب التنس وغير التنس من هذه الألعاب التي يُحِبُّها الشباب وكثير من الشيوخ.
وهمَّ أن يَمْضِي في تفصيل جَنَّته إلى أبعد من هذا، لولا أني نهضْتُ وقطعْتُ حديثه قائلًا: الخيرة إِذَنْ فيما اخْتَرْتُم، فلنمضِ إلى غرفاتنا الصامتة لنتخفَّف من أثقال السفر، ولنتهيَّأ لساعة العشاء.
وأَنْفَقْتُ في هذا الفندق شَهرًا وبعض شَهْر، ناعمًا بالراحة المريحة والهدوء الذي يملأ القلب رضًى، والنفس مَرَحًا، والعقل نشاطًا، عاكفًا على القراءة والإملاء، فإذا ضِقتُ بالقراءة والإملاء أَخَذْتُ في الحديث مع الرفاق والزائرين، فإذا رَغِبْتُ في شيء من الشعر الحي دَعَوْتُ صاحب الفندق إلى مكانٍ صامت، وتَرَكْتُه يتحدَّث إليَّ بما شاء من ألوان الحديث، وإذا هو يُحَدِّثني في شئون لبنان على اختلافها، ويُنشدني في هذه الشئون شِعْرًا عَذْبًا طَلِيَّ اللفظ والمعنى جميعًا، في لهجة لبنانية. وربما أعْجَبَتْني المقطوعة من هذا الشعر فأستعيدها، وأومئ إلى صاحبي فيكتبها؛ لأحملها معي إلى مصر، ولأعود إليها من حين إلى حين.
وكُنْتُ أَظُنُّ أَوَّل الأمر أن صاحب الفندق هذا شَخْص نادر في كَرَمه وشِعْره وروايته وحُبِّه للحديث؛ ولكني لم أَكَدْ أعرف اللبنانيِّين وأتحدَّث إليهم وأَسْمَع منهم على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، حتى استَيْقَنْت أن الكرم فيهم خُلُق قد فُطِروا عليه، وأن الشِّعْر غريزة قد أُتِيحَتْ لكثيرين منهم، بعضهم يَسْتَغِلُّها فيُحْسِن الشعر في لهجته اللبنانية، أو في اللهجة الفُصحى، وبعضهم لا يكاد يحفل بها فتَشِيع في حياته، وإذا هو شاعر على غير إرادة منه في حسٍّ مُرْهَف، وذوق مُتْرَف، وطبيعة مُصفاة، وما أظن أحدًا يجادلني في أن اللبناني هو أشد الشرقيين حُبًّا للطبيعة وكَلَفًا بها، وتذوُّقًا لمَحَاسِنِها، وقدرةً على تصويرها.
قلْ: إنَّ سِحْر لبنان هو مصدر هذا المزاج الخاص، أو علِّلْ هذا المزاج بما شِئْتَ، ولكن امتياز اللبناني في دقة الحس ورقة الشعور وتَرَف الذوق شيء ليس فيه شك.
تَلْمُس ذلك حين تلقى الرجل الساذج من أهل لبنان في داره اليسيرة الساذجة، فلا تُحِسُّ فقرًا ولا حاجةً، ولا ضيقًا ولا إملاقًا، وإنما تُحِسُّ تأنُّقًا وعناية، ولا تشك في أن الذوق قد عَمِلَ في ترتيب هذه الدار وتنسيقها، حتى أَصْبَحَتْ تُصَوِّر الرضى والأمن والدعة والاطمئنان إلى العيش والابتسام للحياة.
وإنْ أَنْسَ فلَنْ أَنْسَى يومًا أَزْمَعْنَا فيه أن نتروَّض في لبنان، فلم نَكَدْ نَرْفَع أيدينا من طعام الغداء حتى انْحَدَرَتْ بنا السيارة إلى بيروت، ثم صَعِدَتْ بنا إلى عاليه، ثم مَضَتْ مُصَعِّدة ومُصوِّبة، ونحن نقفها هنا وهناك، ونُيامِن بها مَرَّة ونُياسِر بها مَرَّة أخرى، حتى إذا أقبل الأصيل كُنَّا قد بَلَغْنَا شتورةَ، وقد أَخَذَ منا الجوع والظمأ لكثرة ما صَعدنا وما صوَّبنا، ويامنَّا وياسَرْنا في هذا الهواء البارد الذي كان يُذكِّرنا بقول المتنبي:
فلما بَلَغْنَا شتورةَ مجهودِين مكدودِين جياعًا ظِماءً؛ أسْرَعْنا إلى فُنْدقها الأصيل، فيتلقَّانا صاحِبُه بما تعوَّد اللبنانيون أن يتَلَقَّوْا به الضيف من التأهيل والتسهيل والترحيب، ويسعى بنا إلى غرفة الطعام، وهناك يُقَدِّم إلينا ما شاء الله من طعام مختلفة ألوانه، وفاكهة مختلفة فنونها، وشاي لم أَشْرَبْ مِثْلَه قط جودةَ نَوْعٍ ودِقَّة صُنْع. وكان معي صبية جياع ظماء، خُلِّيَ بينهم وبين الطعام والشراب، فأرسَلوا أنفسهم على سَجِيَّتِها، واندفعوا يأكلون ويشربون لا يَلْوُون على شيء، وأنا أَحُضُّهم وأُشَجِّعُهم، وأُمُّهُم توصيهم بالرفق والأناة وتَحُثُّهم على القصد والاعتدال، وهم يَسْمَعُون لي أكثر مما يسمعون لأمهم، يغريهم بذلك جَوْدَة ما بين أيديهم، وصاحب الفندق يَذْهَب ويجيء، يُلْقِي الأمر هنا وهناك، ويحتفي بهؤلاء المندفعين في الطعام والشراب.
حتى إذا أَصَبْنَا مِنْ هذا كله حاجتنا وفَوْق حاجتنا وهَمَمْنَا أن نَنْصَرف، وطَلَبَ صاحبي الحساب إلى أَحَد الخَدَم؛ قال الخادم مُبْتَسمًا: هيهات! لا حساب، إنما أنتم ضَيْف صاحب الفندق. ونحن نُلِحُّ ونُلِحُّ، والخدم يلحُّون في الإباء، حتى اضْطُرِرْتُ إلى أن أسعى إلى صاحب الفندق خجِلًا مُسْتَخْذِيًا لكثرة ما أَسْرَفْنَا على أَنْفُسنا وعلى مُضَيِّفِنا، كنا نَظُنُّ أننا سائحون نشتري حاجتنا من أحد الفنادق، ولا نستشير في ذلك إلا طَاقَتَنَا على الأكل والشرب، وقُدْرَتَنَا على أداء الثمن؛ فإذا نحن ضيفٌ قد أَسْرَفْنَا على مَنْ ضيَّفَنا، فأنا حائرٌ بين الشُّكْر والاعتذار، وصاحب الفندق مُنْدَفِع في تحيته واغتباطه بأنا قد مَرَرْنَا به، ونَزَلْنَا عليه، وأَصَبْنَا مِنْ طعامه وشرابه، ولولا امتناعُنا وإلحاحُنا في الامتناع لما صدرنا عنه وأيدينا فارغة من بعض ما كان عنده من الطيبات.
كذلك أَنْفَقْتُ تلك الإجازة في لبنان، فأيُّ غرابة في أن أعود إلى لبنان كلما أُتِيحَتْ لي العودة إليه؟ حياة ناعمة باسمة، وقوم كرام في غير جهد ولا تكلُّف، وجو معتدل يعفيك من القيظ، ولا يُعرِّضُك لما تَتَعَرَّض له إذا عَبَرْتَ البحر إلى أوروبا من المطر المُنْهَمِر، والسماء المظلمة، والجو العابس بين حينٍ وحين.
وأَشْهَدُ، ما تَرَكْتُ لبنان قط إلا تَرَدَّدَ في نفسي، وربما تردَّد على لساني هذان البيتان: